نصف قرن على التصحيح المجيد !!! 16-تشرين الثاني-1970 ..

زهير سالم*

ذكريات شخصية – وكوارث قومية ووطنية –

(1-2)

سيصادف بعد غد الاثنين ذكرى مرور نصف قرن على ما عرف في سورية المنكوبة بمحتليها ، وببعض بنيها بالتصحيح المجيد . سأسترسل معكم في هذه السطور ، بالحديث عن بعض الوقائع في سياقها الفردي والتاريخي . سيكون هذا في جزء أول وسينتظم ما سأسرد في هذا المقام خيط واحد، على طريقة الوحدة الشعورية ، وليست الوحدة العضوية ، ولعل هذه النقاط المتناثرة تعين جيلا لم يشهد الواقعة على تصور ما كان. . سأكتب في الجزء الأول من المقال مجموعة من النثارات والذكريات تصلح أن تكون مدخلا علميا تاريخيا للحدث الكارثة والفاجعة . سيكون ما أذكره واقعيا موضوعيا تاريخيا بقدر ما هو ذاتي وشخصي ، في مقاربة للوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في سورية ...غداة ما سمي بالتصحيح المجيد. وفي الجزء الثاني من المقال سأؤرخ للكارثة القومية والوطنية ، وأرد على النرجسي الذي قال منذ أيام : إن سياسة التصحيح الخارجية كانت ممتازة بكل المعايير . ومن أراد التزوير والتدليس فعند سكان القبور يكون التدليس ويمر التزوير .

16 / تشرين الثاني / 1970 ..

واعتاد بعض كبار المنافقين أن يخاطب حافظ الأسد يا صانع التشرينين ، تشرين التحرير وتشرين التصحيح !!

ثم في الصباح التالي كان الدكتور عمر الدكتور نفسه يخبرنا على الدريجات في مدخل كلية اللغات : عن التصحيح ، حقيقته وضرورته . وقال له طالب جريء منا : بالأمس كنت تقول لنا.....، فقال الدكتور الدقاق : بالفعل " وهذه الكلمة هي محط كلامه دائما " بالأمس لم نكن نعرف الحقيقة ، واليوم عرفناها !! فعلمنا أن الصراع قد حسم . أحكي هذا وأنا لا أعلم أن مسرحية العيال كبرت ، كانت قد قدمت أولم تقدم بعد !!

كنت واحدا من السوريين الذين استقبلوا الحدث حدث 16 / 11/ 1970 بالارتياح والفرح ليس بمن جاء وإنما بمن ذهب ..كانت دولة "الشباطيين " من مجموعة انقلاب شباط 1966 الأشدَّ وطأة على الحياة العامة السورية وعلى كل المستويات . وكان لهذه الدولة وجهان خفي وظاهر ، أما الخفي فهو دولة " جديد – عمران - الأسد " بعد انتصروا على كل شركائهم من الطوائف الأخرى. وكان توافق عمران جديد أن يستمروا في إدارة البلاد من وراء " باجية رقيقة أو ركية من وجوه الدولة الظاهرة . والتي مثلها حكومة " الدكاترة " " نور الدين الأتاسي – ويوسف زعين – وإبراهيم ماخوس " وأكرر كانت تلك الدولة الأشد وطأة على السوريين أمنيا ومدنيا وإيديولوجيا واجتماعيا واقتصاديا ..فكان الفرح بمن ولى ولم يكن فرح بمن تولى ..

وإذا وصفت الفرح في نفوس بعض الناس أنه فرح شماتة فلا أعدو الحقيقة ، مع أنني لا أحب الشماتة بأحد ، ومع أنني أدركت فيما بعد أننا كنا كمن يفرح بعزاء أهله.

فقد كان من معاني التصحيح أننا نواجه الكارثة كالحة مباشرة فاقدة لكل عناصر الوقار أو الحياء .

تعيرنا أنا قليل عديدنا .. فقلت لها إن الكرام قليل

ثم ما حدث أن قيل إن عدد أعضاء الحزب قد صاروا إلى خمسة ملايين . ومع كل هزة غربال كان أصحاب الفكر والمبدأ من هذا الحزب يتساقطون ...حتى لم يبق إلا المتردية والنطيحة وما نهش السبع ..

والقسم الثاني التصحيح الكارثة القومية والوطنية .. والضحية سورية ولبنان وفلسطين أو لبنان وفلسطين وسورية ..

نصف قرن على التصحيح المجيد والوظيفة الاستراتيجية

احتواء أو تدمير : سورية وفلسطين ولبنان

(2-2)

استمعت إليه منذ أيام ، وعهدي به ، مُجيدا رشيدا ، يقول : هذا نظام سياسته الخارجية ممتازة !! فقلت : لو غيره قالها ، لكان للقائل في قوله عذر ومخرج ..!!

وأتذكر من أواخر الثمانينات ربما في 1989 ، وكنت أقرأ في مجلة عنوانها " المجلة " مقابلة مع الرئيس الأمريكي المسيحي الطيب جيمي كارتر الذي كان يوصف حينها بالرئيس الأسبق ، يتحدث فيها عن حافظ الأسد ، فيصفه بأوصاف التبجيل والتعظيم والتفخيم والمديح والثناء، على نحو لا يعهد من رئيس ناد لكرة القدم ..ومكثت أياما أتأمل سر هذا التبجيل والتعظيم فلا أدركه ، حتى سمعت في الأخبار أن وزير الخارجية الأمريكية وكان يومها " كريستوفر " قد نجح في عقد صفقة مع حافظ الأسد – المستحق للتبجيل والتعظيم – بالسماح لجميع اليهود السوريين بالهجرة ، وأنهم هاجروا جميعا بالفعل منهم إلى فلسطين ومنهم إلى غيرها ، وأنهم لم يبق منهم في دمشق غير كاهنهم إبراهيم حمرة ، الذي تأخر لرعاية آخر مصالحهم فيها ..!! وهكذا تكشف السياسة أسرارها ، ويحدثك محدثك عن أخبارها !!

لا أدري إن كان هذا السماح الفذ يندرج ضمن السياسات الداخلية التي لا يجوز للأشقاء أن يتدخلوا بها ، أو ضمن السياسات الخارجية الممتازة التي يطلق أحدهم شهادتهم بامتيازها !!

ولو سئلت كمتابع سياسي ، وليس كمعارض سوري ، عن سر هذا الارتباط العضوي شديد الحميمية بين زمرة الأسد ، وبين كل قوى الشر الأسود في العالم لقلت : السر في كل ذلك هو الدور الوظيفي الذي وُكلت به تلك الزمرة في جملة ما نفذت من سياسات داخلية وخارجية على السواء ، وعلى مدى نصف قرن .

ولو أردنا أن نصوغ عنوانا لهذا الدور ، بعد نصف قرن من التصحيح المجيد ، ومن خلال دراسة الوقائع ، وتتبع الآثار ؛ لقلنا هو دور الاحتواء والتدمير وإشاعة الفتن ، وتسعير الحروب والابتزاز وكل ذلك لمصلحة الآخر البعيد ..

وكانت جريمة السابعة والستين امتحانَ الاختبار والتجريب . وقد سجل التلميذ النجيب نجاحه المنقطع النظير ..واستحق بذلك التجديد والتمديد والتكريس والتطويب ..

ولم تكن الأرض ، الجولان وما وازها ، أكبر خسائر السابعة والستين. ولم يكن استقبال دمشق عشرات الألوف من اللاجئين تحت عنوان "النازحين" هو الخسارة ، وودت أنهم بالأمس في مؤتمر عودة اللاجئين، أكدوا على عودة " النازحين " وعودة " الوافدين " و "الوافدون" هم الجمهور من اللاجئين السوريين ، الذين شردهم من بلداتهم " تشرين التحرير " ونحن اليوم إنما نتحدث عن تشرين التصحيح .

أقول : إن أخطر مصيبة استراتيجية وقعت بالأمة بسبب خيانة الخامس من حزيران 1967 ، والتي كان بطلها حافظ الأسد عند التحضير وعند التمرير مع شلة الرفاق، هو أن تحولت "القضية "من قضية فلسطين إلى عناوين جديدة مثل " غسل أثار العدوان " " والأرض مقابل السلام " " وإقامة الدولة الفلسطينية " على حدود السابعة والستين ، والتمسك بالقدس الشرقية – انتبه الشرقية – عاصمة للدولة الفلسطينية ..وكل هذه المصطلحات المتردية التي كانت مصائب فأصبحت مطالب ، هي وليدة خيانة الخائن صاحب السياسات الخارجية الممتازة ...!!

وما أن استقرت أقدام صاحب التصحيح على الأرض السورية ، ولم يكد يخرج من الهزيمة المكعبة في حرب تشرين حتى أمعن في تنفيذ الأجندة المفروضة بدقة ومهنية واحتراف.

لا يوجد عربي ولا سوري ولا لبناني يغيب عنه حقيقة دور " صاحب السياسة الخارجية الممتازة " في الحرب الأهلية اللبنانية ، ومن كان يقوي فريقا على فريق ، ومن كان يدعم ثم ينقلب .. ومن قاتل مع الجميع، وضد الجميع ، ومن كان قرار المقاومة الفلسطينية وسلاحها على رأس أولوياته المستهدفة.

إن فلسطينيا يجهل أو يتجاهل ، أو ينسى أو يتناسى ، حقيقة الدور الأسدي في تل الزعتر والكرنتينا والمية مية ، وفي تفتيت المنظمات الفلسطينية ، وفي نزع سلاح المقاومة الفلسطينية، وفي إبعاد المقاومة الفلسطينية ،عن الخاصرة الرخوة في جنوب لبنان ، وعن إخراج ياسر عرفات وصحبه من لبنان ، وعن تحويل مخيمات اللاجئين من معسكرات للمقاومة إلى ما هو حالها اليوم.. من حق أن تكبر على فلسطينيته أربعا ..

لم يبخل حافظ الأسد على ياسر عرفات بحضن دافئ وخدر ؛ ولكن ياسر عرفات رحمه الله تعالى كان أبعد شأوا حين أبى واختار تونس البعيدة ، على ما يعرف بدمشق " الصمود والتصدي" الذي يصفه كل السوريين عن علم وخبرة بالصمود المصدي . نعم كان ياسر عرفات أشد شكيمة ، وأبعد نظرا فأبى أن يرهن قراره ، وابى أن ينام في حضن مدبر الهزيمة الكبرى في السابعة والستين ..

وبعد المقاومة الفلسطينية جاء الدور على المقاومة اللبنانية ، التي تم تطييفها واحتوائها والتي كان حضنها الطائفي الحزبلاوي أهنأ لبني صهيون من حضن أنطون لحد ، الذي ما انفك الناس يصفونه بالعميل ، ولأمر ما استبدل الصهيوني الذي هو أدنى بالذي هو خير ، لعلكم تعقلون..

وفي لبنان وخلال خمسة عشر عاما من الحرب الأهلية ، ونصف قرن من الاحتواء عن قرب أو عن بعد ، دمر التصحيح المجيد في لبنان كل ما هو جميل ، ومن دولة عنجر إلى دولة عون ؛ ما زال لبنان ينزف ويئن.

وقتل التصحيح المجيد في لبنان كل ما هو صالح بمن فيهم العلامة الباحث صبحي الصالح ، والمفتي حسن خالد ، والزعيم كمال جنبلاط ورئيس الجمهورية رينيه معوض ، وبشير الجميل ورفيق الحريري وكان من أدواته ميشيل سماحة والبطرك الراعي وليس صفير وكل هذا كان من معالم السياسة الخارجية التي يشهد لها الشاهدون ، ( سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ) ..

وفي سورية حيث الشعب الذبيح ، والوطن المصلوب ، وشجرة الزيتون المغتصبة ، والكذب المروج الذي لا يروجه الكذاب وحده ، بل يعينه على ترويجه قوم آخرون ..

أتذكر أنه عندما وقعت حادثة مدرسة المدفعية في حلب ، كان حافظ الأسد في العراق ، وعاد إلى سورية وبقي صامتا لمدة خمسة عشر يوما، وأصدرت جماعة الإخوان المسلمين بيانها الرسمي تنفض يدها من العملية ، ومن الذين ارتكبوها ..إلا أن صاحب المكر المشهود أبى إلا أن يصدر بيانا يوقعه وزير داخليته المأفون يحمل جماعة الإخوان المسلمين مسئولية ما كان .. !!

ليس سرا يذاع ، ولا جديدا ينشر أن نؤكد أن جماعة الإخوان المسلمين وعلى مدى أربعة عقود من الصراع ، أربعة وليست خمسة ، ظلت حريصة على سورية الوطن والإنسان . وما عُرضت عليها مبادرة لتحصين الوطن ،وصون حياة الناس إلا استجابت بعقل ورشد إليها وتوافق على ذلك كل رموزها وقادتها . وظلت تأبى أن تعطي الدنية، كما أنها لم ترفض يوما مبادرة خيّرة لمبادر ، ولا مشورة لعاقل وفي كل مرة كانت تضع صاحب "التصحيح" على المحك فيشهد لنا كل العقلاء أنه المعتدي والآثم والطاغية المريب ..

هذه نصائع حق تشهد لجماعة الإخوان المسلمين وليس عليها . حتى إذا أرفت الآزفة ودعا في سورية داعي الحرية ، ظللنا لمدة عام ننادي بضرورة المسارعة إلى الحلول الجدية والإبداعية ..ولكن المطموس على بصره وبصيرته أبى ..

وما قيل قبل ثورة المليون شهيد لا يقال بعدها ، وخلط الأوراق بذكر أحاديث الصيف في الشتاء ليس من عمل الراشدين ..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 903