التطبيعُ المغربيُّ مع الاحتلال…الجريمةُ المزدوجة

إحسان الفقيه

لم يذهبْ الكاتبُ الإنجليزيُّ وليام شكسبير بعيدًا حين قال: “عندما يصبحُ البحرُ ساكنًا يصبحُ الجميعُ بحّارةً ماهرين”، فالجميعُ في نجاةٍ من رَهَقِ الواقعِ طالما لم يتجاوزوا دائرةْ التنظير، والكلُّ يُبادرُ آنذاكَ قائلًا: أنا لها، حتى إذا ما حانتْ ساعةُ الاختبارِ كان الرُّهَاب، وحينها يُميَّزُ الزيتُ عن الماء، ويُتبَيَّنُ زَبَدُ الكلامِ مِن زُبْدَتِه.

ولطالما كانت القضيةُ الفلسطينيةُ ميزانًا للمبادئِ ونَخْلًا للدعاوى، تُجَرِّدُ كلَّ الساقطين على أعتابِهَا مِن ورقِ التوت، فيكونُ نصيبَهُم توليفةُ مسالكَ من الرِّثاءِ والنقدِ والتقريع، كحالِ حزبِ العدالةِ والتنميةِ الإسلاميِّ المغربيّ، والذي وقّعَ أمينُهُ العامُ سعدُ الدينِ العثمانيُّ على اتفاقيةِ التطبيعِ مع الكيانِ الصهيونيِّ باعتبارِهِ رئيسًا للحكومةِ المغربية.

نعم، نرثي الحزبَ لهذه السقْطَةِ، لأنه خالفَ نهجَهُ المعروفَ مِن رفضِ التطبيع، وننتقِدُهُ لأنه استمرارٌ لمزيدٍ من انفراطِ عِقْدِ الصمودِ العربيِّ الإسلاميِّ أمامَ العدوِّ الصهيوني، ونُقَرِّعُهُ باعتبارِهِ حزبًا ذا توجُّهٍ إسلاميٍّ يُنتَظرُ منه الثباتُ على الموقفِ الرافضِ للتطبيعِ والإبقاءِ على مركزيةِ القضيةِ الفلسطينية.

وقطعًا لا أتعمدُ بتناولِ موقفِ هذا الحزبِ الإسلاميِّ مِن التطبيعِ التغطيةَ على الموقفِ الأساسي، وهو تطبيعُ المغربِ كدولةٍ مع الكيانِ الصهيوني، والذي يُعدُّ هو الأصل، فنحن أمامَ جريمةٍ مزدوجة: تطبيعٌ بصفةِ الدولة، وتطبيعٌ بصفةِ الحزبِ الإسلامي، بَيْدَ أنَّ موقفَ المغربِ كدولةٍ كان مُنتظرا بعد بُدوِّ إرهاصاتِهِ في أعقابِ التطبيعِ الإماراتيِّ والبحرينيِّ والسودانيّ، والذي يُضافُ إلى التطبيعِ المصريِّ والأردنيِّ سابقا، ليجعَلَنَا نَعُدُّ على الأصابعِ كمْ بقِيَ مِن دولةٍ لمْ تطبِّعْ بعد؟ وعلى من يحينُ الدور؟

أما موقفُ حزبِ العدالةِ والتنميةِ ذي الجذورِ الإسلاميةِ وزعيمِهِ العثماني، فهو أمرٌ كارثي يقلبُ الأمورَ رأسًا على عقِب.

أقولُ كارثيّ، بعيدًا عن أسلوبِ المبالغة، لأنَّ الحزبَ الذي دعّمَ أمينَهُ العامَ العثمانيَّ في التوقيعِ على الاتفاقية – باعتباره رأسَ الحكومة –وتوافقِهِ مع التوجُّهِ الملكيِّ في صفقةِ التطبيعِ مقابلَ الأرضِ أو السيادةِ على الصحراءِ المتنازعِ عليها، هذا الحزبُ تخنْدَقَ بهذا الإجراءِ مع الأنظمةِ المُطَبِّعَةِ التي باعتْ القضيةَ الفلسطينية، وهو بهذا يَمُدُّ غِطاءً شرعيًا لتلكَ الأنظمةِ التي تتَّهِمُهَا الجماهيرُ بخيانةِ القضية.

وأقولُ كارثيّ، لأنَ هذا الحزبَ الإسلاميَّ خرجَ عن إجماعِ الإسلاميينَ في رفضِ التطبيعِ واعتبارِهِ جُرْمًا وخيانةً للأمة، بما يتضمّنُهُ مِن معاني الاعترافِ بدولةِ الاحتلال، بل أرى أنها طعنةٌ مِن الداخلِ في جسدِ التيارِ الإسلاميِّ الذي يَعتبرُ تحريرَ القدسِ نقطةَ مُفاصَلَة، فكيف سيمحو من ذاكرةِ الشعوبِ أنَّ الإسلاميينَ وقّعوا على التطبيعِ مع العدوِّ الإسرائيلي؟! وكيف ستنظرُ الجماهيرُ إلى التعبئةِ المعنويةِ التي يقومُ بها الإسلاميونَ لنصرةِ فلسطينَ بعد الآن؟

نعم قد تبرَّأَ من هذا الإجراءِ لفيفٌ من الإسلاميين فُرادى ومؤسساتُ وجماعات، لكن لا شك أنَّ موقفَ العدالةِ والتنميةِ المغربيِّ وزعيمِهِ العثمانيِّ سوف يظلُّ بُقعةً سوداءَ في الصورةِ الذهنيةِ لدى الجماهيرِ عن التيارِ الإسلاميِّ تجاهَ القضيةِ الفلسطينية.

إن قاعدةَ المصالحِ أو الضروراتِ التي ارتكزَ عليها العثمانيُّ واهيةٌ كبيتِ العنكَبوت، لأنه قد آثر التماهي مع رأسِ النظامِ وعدمَ الحَيْدَةِ عن النَّسَقِ الرسميِّ للدولةِ في تحصيلِ مكسبِ الصحراء، مقابلَ التفريطِ في أُمِّ القضايا العربيةِ والإسلامية، وكأنه لا يعلمُ ماهِيَّةَ التطبيعِ ومَغَبَّتِهِ.

وأجِدُني رغمًا عني أستحضرَ في هذا المَقامِ مقولةَ يهوشفاط هركابي، الأبِّ الروحيِّ لإسحاق رابين، والذي شغِلَ منصبَ رئيسِ الاستخباراتِ العسكريةِ الإسرائيليةِ في الخمسينيات، عندما قال إنه لابد مِن إدماجِ العربِ في المشروعِ الصهيونيِّ وتوظيفِهِمْ لخدمتِه، وهذا ممكنٌ مِن خلالِ التعاملِ السياسيّ (وليس العسكريّ) مع العرب؛ لأنهم قومٌ لا يتحَلَّوْنَ بالمُثابرةِ والصبرِ والدأَبِ، وسرعانَ ما يَدِبُّ فيهم المللُ والضَّجَرُ والاختلاف، ويُسلِّمون أمورَهَمْ حتى لأعدائِهِمْ في سبيلِ الغَلَبَةِ في معارِكِهِمْ وخلافاتِهمُ الداخلية.

إن مشاركةَ العثمانيِّ وحزبهِ المؤيدِ في هذه الجريمةِ، بمثابةِ تلبيةٍ وافيةٍ للمطامعِ الصهيونيةِ التي اتَّجَهَتْ لترتيبِ اتفاقياتِ سلامٍ مع العربِ مبنيةٍ على تجاوزِ حقِّ الشعبِ الفلسطيني، وتذويبِ المشكلةِ في بوْتقةِ المصالحِ الاقتصادية، وهذا بدورهِ يقعُ ضِمنَ رؤيةِ النظامِ العالميِّ الجديد.

العالِمُ الموسوعيُّ الراحلُ عبدُ الوهابِ المسيري، رأى أنَّ خلْقَ مصالحَ اقتصاديةٍ مشتركةٍ بين الدولِ يجعلُ شعوبَهَا تنسى أفكارًا باليةً مثلَ السيادةِ والكرامةِ والإنسانيةِ والحدود، فيتمُّ بهذه الطريقةِ تفكيكُ الشعوبِ دون الاضطرارِ إلى المواجهةِ المُكَلِّفَة.

لا أدري هل غابَ عن العثمانيِّ وحزبِهِ أنهم يُسْهِمون بذلك التطبيعِ في إنهاءِ القضيةِ الفلسطينيةِ وتحويلِها إلى مجردِ قضيةٍ أخلاقيةٍ لا وجودية؟

وإذا كان هذا الحزبُ ذا مرجعيةٍ إسلامية، فكيف أقامَ حساباتِهِ الشرعيةَ وهو يعلمُ أنها ليست هُدنةً مع الصهاينةِ تتيحُ للأمةِ وقتًا للاستعدادِ لتحريرِ فلسطين؟ وما شكلُ منظورِهِ الإسلاميِّ الذي يرى به القضيةَ التي يضيعُ فيها حقُّ الفلسطينيينَ في أرضِهِم وثرواتِهِم وطردِ الصائلِ المتعدِّي منها، وتضيعُ فيها المقدسات؟

لقد كان دافيد ليفي وزيرُ الخارجيةِ الإسرائيليِّ الأسبقِ أكثرَ وضوحًا وصراحًة وحسْمًا وتجنُّبًا للتمييعِ من قومِنا هؤلاءِ حين قال: “مِنْ أجلِ أن يقومَ التسامحُ بيننا وبين العربِ والمسلمين، فلابد من استئصالِ جذورِ الإرهاب , وإنَّ من جذورِ الإرهابِ سورةَ البقرةِ من القرآن”.

ولكن حتمًا سيخرجُ علينا جهابذةُ السياسةِ والنظرةِ الثاقبةِ للسياسةِ الشرعيةِ وفقهِ المصالح، ليمْطِرونا بأقوالِهِم المعتادة: إنكمْ ضيقو الأُفق، لا تفرقونَ بين رجلِ الجماعةِ ورجلِ الدولة، ولا تفقهونَ كيفيةَ التعاطي مع الواقعِ السياسي..إلخ..

فأيُّ مصالحَ تجنيها الأمة، أو تجنِيها حتى المغرب ذاتُها من جرّاءِ التطبيع؟ واهمٌ مُنْ يظنُّ أنَّ التطبيعَ سيكتُبُ فصولَ النهايةِ في الصراعِ مع العدوِّ الصهيوني، فالتكتيكاتُ لدى العدوِّ الصهيونيِّ لم تغْلِبْ يومًا استراتيجياتِه، وليستْ هذه الهدنةُ الإسرائيليةُ في التوسعِ بالمنطقةِ إلا تكتيكًا وحالةً مؤقتةً وِفْقَ سياسةِ “القضم ثم الهضم” المعروفةِ عن الصهاينة، ولن تأتي هذه السياسةُ على حسابِ حُلْمِ إسرائيلَ الكبرى، الذي لطالما عبَّرَ عنه الساسةُ الصهاينة، والمُدَوَّنُ على مدخلِ الكنيست الإسرائيلي.

وكما نعيبُ على أمريكا التعاملَ مع القضيةِ الفلسطينيةِ بمبدأِ الكيلِ بمكيالين، فإننا نربأُ بأنفِسِنَا وأقلامِنَا عن الوقوعِ في نفسِ الوحْل، فأخطرُ من التطبيعِ أنْ تكونَ إدانَتُنَا للمُطبِّعِين انتقائية، ولن يشفعَ للعثمانيِّ مواقِفُهُ البطوليةُ السابقةُ في رفضِ التطبيعِ جملةً وتفصيلا، ولن يشفعَ لحزبِهِ تنظيمُ الاحتجاجاتِ لرفضِ التطبيع، وكان الأولى بالعثمانيِّ أن يُقدِّمَ استقالَتَهُ ويحافظَ على المسارِ الرافضِ للتطبيع، لكنَّ الرجلَ قد وقَعَ أسيرًا لرؤيةِ المصلحةِ الحزبيةِ والحفاظِ على بقاءِ حزبِهِ في الخطوطِ المتقدمةِ التي وصل إليها، والله غالبٌ على أمرِهِ ولكنّ أكثرَ الناسِ لا يعلمون.

وسوم: العدد 909