من ذاكرة الثورة السورية: مُغَالَطَات ومُفَارَقَات (1 من4)

د. محمد بسام يوسف

تجاهل متعمَّد لطبيعة الصراع

دأبت المؤسّسات السياسية العالمية، ومعظم السياسيين في الغرب والشرق، على التعامل مع الأوضاع في سورية، على أنها صراع بين فريقين مسلّحَيْن: الجيش الأسديّ، والجيش السوريّ الحرّ!.. أما الشعب السوريّ، فهو ضحية هذه المواجهة المسلَّحة!.. على هذا الأساس، تُصاغ التصريحات والمواقف السياسية، في الدول الكبرى، والصغرى،.. وما بينهما، وفي مؤسّسات الجامعة العربية، والأمم المتّحدة، ومجلس الأمن الدوليّ.. ثم تتنافس المؤسّسات الإعلامية على نقل هذه الفِرية ونشرها في أنحاء العالَم، بزخمٍ شديد الوطأة على الشعب السوريّ الثائر، الذي كُتِبَ عليه أن يوزِّع جهود ثورته على جبهاتٍ عديدة، منها جبهة هذه الفِرية العالمية!..

يتجاهل ساسة العالَم، أنّ في سورية ثورة شعبية عارمة، على الظلم والقهر والديكتاتورية والطائفية والاستبداد، وأنّ هذه الثورة بدأت سلميةً لا تملك إلا صدور أبنائها وحناجرهم وأقلامهم وعقولهم.. واستمرّت سلميةً راقيةً إبداعيةً طوال أشهرٍ عديدة، واجههم خلالها نظامُ القمع والبغي، بالبندقية والقنّاصة، ثم بالقنبلة والمدفعية والدبابة، ثم بالطائرات الحربية الفتّاكة والبراميل المتفجّرة والأسلحة الكيميائية.. مستخدماً أنذل ما وصلت إليه أساليب الفجرة، من اغتصابٍ وهتكٍ للأعراض وسطوٍ وتدميرٍ وإبادةٍ للحرث والنسل، ما اضطرّ الشعب الثائر المسالم إلى مواجهة كل ذلك بما توافر لديه من وسائل، في حربٍ غير متكافئة، ما بين جُناةٍ فُجّار، وشعبٍ أعزل تأبى كرامته أن يُذبَح ويُنتَهَك بأساليب مجرّدةٍ من أي قيمةٍ أخلاقيةٍ بشرية، وهو حق مشروع تبيحه كل الشرائع السماوية والأرضية، منذ خلق الله عزّ وجلّ آدم عليه السلام، إلى هذه اللحظة.

العالَم بكل مؤسّساته ودوله وهيئاته الرسمية، لا يتعامل مع القضية السورية على أنها ثورة شعبٍ ذبيحٍ بوجوه ذبّاحيه، وهي عقدة الأمر، وسبب كل المصائب المتفرِّعة عن المصيبة الأساس التي يعاني منها شعبنا السوريّ الثائر على جلاّديه، وذلك نوع من النفاق العالميّ المتعمّد، لمدّ أمد الصراع، ومنح النظام الأسديّ مزيداً من الوقت، علّه يتمكّن من إخماد الثورة، كما هي فرصة مفتعَلَة لتشويه وجه الثورة، والتمهيد لاحتلال سورية لا لتحريرها، بحجّة الفصل بين قوّتَيْن تحتربان بالسلاح، وتهدِّدان السلم الإقليميّ والعالميّ!.. ألا ساء ما يفعلون.. ألا ساءت وجوه المنافقين الضالّين.

*     *     *

أحجية: توحيد المعارضة السورية

تبدأ الأحجية، بتجاهل الحقيقة الكبيرة، بأنّ ثورةً شعبيةً عامّةً تفجّرت في سورية، رداً على انتهاكات النظام الأسديّ المتسلّط على البلاد والعباد، طوال عشرات السنين، وأنه لم تكن للمعارَضَة السياسية السورية أي يدٍ في تفجير هذه الثورة، وإنما سعت للتماهي معها، ومع الحق الذي تطالب به.

الدول الكبرى والمؤثّرة، عجزت عن الاتفاق على الوفاء بالمواثيق العالمية والأممية والإنسانية، لإنقاذ شعبٍ هو جزء من هذا العالَم، له -بموجب تلك المواثيق- حق الحماية والعيش الحرّ الكريم.. فتطوّرت الأحجية إلى عمليةٍ بالغة السوء من تبادل الأدوار المشبوهة: روسية والصين وحليفهما الإيرانيّ، يعرقلون أي حلّ، وباقي دول ما يُسمى بالعالَم الحرّ تتباكى على العدالة وحقوق الإنسان السوريّ، وتنتحب -في حضرة شياطين الإنس- على الشعب السوريّ المظلوم، وتتحجّج بالمواقف الروسية والصينية، وتستنكر المواقف الإيرانية.. ثم تلقي اللوم على الثورة التي خلطوا جوهرها بمفهوم المعارضة، فأسندت -هذه الدول- كل أسباب تخاذلها ونفاقها وفضيحتها.. إلى عدم توحّد مايُسمى بالمعارضة السورية!..

هل هناك معارَضَة -في العالم كله- موحَّدَة؟!.. هل الثورات العربية في تونس وليبية ومصر واليمن.. انتصرت بمعارضةٍ موحَّدة؟!.. هل المعارَضَة في بلدان النفاق العالميّ نفسها موحَّدَة؟!..

في حقيقة الأمر، الثورة السورية كلها موحَّدَة على: إسقاط النظام الأسديّ، وبناء دولةٍ سوريةٍ مدنيةٍ تداوليةٍ حُرّةٍ مستقلّة.. وهذه حقيقة يتجاهلها عالَم البغي والنفاق، بدوله ومؤسّساته، على الرغم من أنّ أصوات الثورة السورية في تأكيد وحدتها على الهدفَيْن المذكورَيْن، يجلجل، ويصمّ بشدّته الآذان!..

الحقيقة الكبرى الواضحة تكمن، في أنّ العالَم أو المجتمع الدوليّ، هو الجهة الوحيدة غير الموحّدة في معادلة التعامل مع القضية السورية، لكنه يلتفّ على هذه الحقيقة الساطعة، بفرية عدم وحدة (المعارَضَة) السورية.. ودائماً، ليسترَ عورة تخاذله إلى حدّ التواطؤ المشين، عن حماية الشعب السوريّ ودعم ثورته الإنسانية الخلاّقة!..

*     *     *

ضدّ التدخّل الخارجي!..

يستبيح النظام الأسديّ سورية وشعبها، بزرعها وضرعها، دون أيّ وازعٍ أخلاقيٍّ أو إنسانيّ، مستخدماً كل البشاعات التي لا تخطر على قلب بشر. وقد صُنِّفَت جرائم العصابات الأسدية ضمن (الجرائم بحق الإنسانية)، وما تزال تتصاعد وتيرة هذه الجرائم الفظيعة، ساعةً بعد ساعة، ويوماً إثر يوم، ما يستوجب تدخّلاً دولياً فورياً، لحماية السوريين من عمليات الإبادة التي يتعرّضون لها.

الشعب السوريّ جزء من المجتمع الدوليّ، بما في ذلك منظومة الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلاميّ، والجمعية العامة للأمم المتحدة.. وكل هؤلاء تحكمهم القوانين الدولية ومعاهداتها، التي تحمي الإنسان من أي انتهاكاتٍ لحقه في الحياة الحرّة الكريمة، فحماية شعبنا من القتل والقمع والتنكيل.. واجب عربيّ ودوليّ تفرضه المواثيق العربية والدولية، وعلى العرب والمسلمين وبقية المجتمع الدوليّ، أن يكونوا أوفياء للمبادئ الشرعية والأخلاقية والإنسانية، أمام ما يجري في سورية من انتهاكاتٍ صارخةٍ لكل الحقوق الإنسانية.

بعض الساسة والقادة العرب والمسلمين، لا يُـحرِّكون ساكناً لاتخاذ أي إجراءٍ يحمي الشعب السوريّ المضطَهَد، فقد وضعوا ضمائرهم في ثلاّجات الضمير العالميّ، الذي يبدو أنه ضمير مستَتِر، وما فتئوا يُردِّدون: نحن مع الشعب السوريّ في ثورته على الظلم والطغيان، لكننا نرفض التدخّل الدوليّ لحمايته من وحشية طغاته!..

قد يكون ذلك المنطق مقبولاً عند بعض الناس، لكن أن يقوم هؤلاء باحتضان شركاء العصابات الأسدية في ذبح شعبنا، واعتبارهم جزءاً من عملية إنقاذه، بينما هم قَتَلَتُهُ وذبّاحوه.. فتلك هي المشكلة التي ليس لها من دون الله كاشفا!.. فإذا لم يكن هؤلاء مقتنعين بأنّ الوحش الإيرانيّ هو سبب كل مصائب السوريين.. أوليس إقحام هؤلاء بلجان الحلّ المزعومة، هو اعتراف بالتدخل الخارجيّ لإيران في شؤون سورية والسوريين؟!..

كيف يحق لإيران الطائفية أن تتدخّل في سورية لدعم قتل الشعب السوريّ وذبحه بالأساليب الفارسية الكسروية الصفوية.. ولا يحق للمجتمع الدوليّ أن يتدخّل لحماية السوريين من جرائم الأسديين والصفويين الفرس؟!.. أي منطقٍ هذا؟.. أهي سذاجة أم حماقة أم استهتار بأرواح السوريين وعقولهم وكرامتهم وإنسانيّتهم؟!..

*     *     *

يَحولون دون وقوع حربٍ طائفية!..

يزعم بعض (الراسخين في الحقد!)، أنهم يعملون للحيلولة دون وقوع حربٍ طائفيةٍ في سورية، وهم أصلاً يتجاهلون أنّ في سورية ثورة شعبية ضد الاستبداد والطغيان الطائفيّ.. لسان حالهم يقول: لا مانع من أن يشنّ الطائفيون الأسديون وحلفاؤهم حرباً طائفيةً على السوريين، لكن أن يقاوم السوريون طائفيةَ هؤلاء، فهذه طائفية ينبغي مَقتها والحيلولة دون وقوعها أو استمرارها!..

بشار أسد وعصاباته وشبّيحته ومجرموه، كلهم من طائفته التي تؤويه.. ونوري المالكي الصفويّ، فارسيّ الأصل والولاء، اصطفّ بكل طاقاته مع بشار وعصاباته، وكذلك تفعل إيران خامنئي وميلشياتها، وحزب حسن اللبنانيّ، وكذلك يفعل طائفيو لواء اسكندرون من ممالئي بشار وشبّيحته الطائفيّين الاحتياطيّين وراء الحدود.. ولن ننسى ميليشيات الحشد الصفوية الشيعية التي تحتل العراق..!..

ما الذي جمع كلَّ هؤلاء في جبهةٍ واحدةٍ ضد الشعب السوريّ؟!.. أهي الأخلاق أم القِيَم النبيلة أم الشرف الرفيع.. أم الطائفية الفاقعة المشؤومة؟!.. لماذا يقوم هؤلاء الساديّون باجتثاث البعث في العراق، ثم يتمالأون على دعمه وتثبيته على عرش سورية؟.. إنها الطائفية التي يغرقون فيها، والأحقاد الطائفية اللئيمة التي يحملونها، في قلوبهم السوداء، وعقولهم العقيمة، وأرواحهم الخاوية.

وسوم: العدد 920