ماذا أرضعونا ، عربا وتركا ؟!!

زهير سالم*

وقفتُ اليوم على تقرير، يتضمن استطلاعا للرأي، أجرته على شرائح مفتوحة من المجتمع التركي، مؤسسة "وقف الأبحاث الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتركية" بالاشتراك مع مؤسسة "هانيرش بول" الألمانية...

وجاء التقرير الأصلي في 112 صفحة. وإذا سلمنا بدقة استطلاعات الرأي التي استند عليها التقرير ، ومدخلاته ومخرجاته ، فإن التقرير مثير للقلق بحق. يؤسفني أن أقول إن كل النتائج التي اطلعت عليها  في ثنايا ما وصلني من التقرير كانت مخيبة لآمال السوريين، بل واللاجئين إلى تركية بشكل عام. والموقف المتملل من وجود اللاجئين وانعكاساته على كل المستويات الاجتماعية - الثقافية - الاقتصادية - هي 75% × 25% ضد وجود اللاجئين بشكل عام، والسوريين بشكل خاص، وهي نسبة محافظة أكثر مما يواجه العالم في دول تختلف عن اللاجئين بحزمة من العوامل أوسع وأهمها الدين والثقافة والعادات والطقوس..

الذي يلفتك في التقرير أنه حتى الشرائح المتدينة، ومنها من هو ممثل في الحزب الحاكم، لهم تحفظاتهم أيضا ..!!

وأعتقد أن الرئيس أردوغان الذي سيواجه استحقاقا انتخابيا بعد أقل من سنتين، سيأخذ جمهور هذا التقرير بعين الاعتبار، إذا كان لا يريد أن يفرط في مشروعه، الذي هو مشروع الأمة بمعنى من المعاني الذي نحب..

وكما أتوقع أن الرئيس التركي وحكومته وحزبه سيجعلون مثل هذا التقرير وأمثاله مدخلات لبرنامجهم الانتخابي القادم .الذي لا يمكن أن يتجاهل تطلعات ثلاثة أرباع المجتمع التركي بشكل عام ؛ فإنني في الوقت نفسه أدعو كل قوى المعارضة السورية، مؤسساتها وهيئاتها وأحزابها ومثقفيها إلى اعتبار هذا التقرير وأشباهه مدخلات لعملية استدراك ما فات، وإعادة التأسيس المدروس والمبرمج والحيوي والواقعي لعلاقة أكثر صحية، ليس على مستوى الدولة والحكومة فقط ، بل على مستوى المجتمع أيضا، بكل تلافيفه وتناقضاته، ومن ثم أن تكون هناك خطط عملية حركية يومية ناطقة أصلا باللغة التركية، تشرح للإنسان التركي كل ما يحتاجه إنسان عاقل واع حي صاحب ضمير، ليتفهم ما يدور، وليأمن مما يحذر . يجب أن يأخذ العقلاء السوريون بعين الاعتبار أن تركية قد أصبحت بالنسبة إليهم، وطن الضرورة، وأن مقامهم فيها حسب المعطيات التي بين أيديهم لن يكون قصيرا، وأن عليهم أن يحسنوا علاقاتهم مع الذين يستضيفونهم.

وأعود بعد هذا ، وأمام هذه المعطيات الصادمة لأسأل : ماذا أرضعونا عربا وتركا ؟؟ ليكون هذا الجنى الذي يخيب الآمال..!!

وأبدأ لكم رحلتي المدرسية من الصف الثالث الابتدائي أي سنة 1957 ، وللعلم لم يكن يحكم في تلك الفترة حزب البعث، ولكن ساطع الحصري القومي الطوراني هو الذي تولى بشكل عام أمر وزارات المعارف منذ الاستقلال ، كما تولى أمر وضع المناهج فيها..

في الصف الثالث الابتدائي في كتاب "التاريخ" كانوا يدرسوننا شخصيات من التاريخ العربي سأسرد لكم بعضهم : الشريف حسين - الملك فيصل الأول- أحمد مريود - معاوية ابن أبي سفيان-  ومصطفى كمال أتاتورك ، درسنا نحو عشرين شخصية كأبطال ..- وأذكر بين ثنايا هذه الشخصيات وضعت لنا صفحة تحت عنوان للمطالعة، وهو عنوان  يعني أن هذا الموضوع غير مقرر  للتدريس. ، أتذكر العنوان: نهاية الاستبداد وتحته صورة رجل بطربوش وزي رسمي عليه نياشين كتب تحت الصورة الطاغية أو المستبد النسيان مني عبد الحميد الثاني، ولأنني كنت منذ صغري أظل ملهوفا أبحث على شيء أقرؤه ، فقد قرأت الصفحة التي على القفا أكثر من مرة . السلطان عبد الحميد ، وما كان عقل طفل في العاشرة ليعرف منه هو السلطان عبد الحميد" كان مستبدا وطاغية وكان يعذب الناس ويقتلهم ويتخلص منهم في مضيق البوسفور..شيء مخيف فعلا ما أزال أذكر رهبة الأمر في نفسي ، وتختم الحكاية، أن هذا "الطاغية" طبعا حسب لغة الكتاب المدرسي، بعد أن وضع في السجن، لم يشرحوا لماذا ، طلب مقصا ليقص شاربه، فلما أعطاه الحارس المقص انتحر !! لعلم من لا يعلم أن السلطان عبد الحميد لم يسجن ، ولم يكن وحيدا عندما توفي كان يشرب قهوته بين زوجه وابنته عندما ذكر لفظ الجلالة وانسكبت القهوة من يده ، أعدكم بتفصيل لهذا المقام ..

ما زلت أذكر هذا الكذب الصريح القبيح من كتاب مدرسي وأقول كم حشو عقولنا وقلوبنا بالكذب والزور  والبهتان...

ثم خضناها حربا ضروسا طوال أعوام دراستنا للتاريخ وللأدب، وعند كل منعطف ومنحنى، يقرر الكتاب ومن بعده المدرّس " الاستعمار العثماني" فيقوم جيل من الطلاب بالرد  بكل قوة وجرأة : ليس استعمار ا، بل هي أمة واحدة ، ونتلقى العقوبة ضرب بالعصي، طرد من الفصل وإخراج من الدرس،  ويصل الأمر أحيانا إلى التهديد بأنك ستصير إلى مكان لا يعرف أهلك أين أنت إذا استمررت ونظل نقول ولا نبالي  ...كان هذا فعل بقية من أبناء أمة، رفضوا رضاعة الكراهية والعداوة والبغضاء..

كل شيء سلبي، كل شيء خاطئ، كل جهل كل فقر ، كل تخلف كل مرض، يلقى على كاهل العثمانيين والرجل المريض،

حتى الإعلام والمسلسلات والمسرحيات دائما تجعل هزأة السلطان أو الوالي التركي يلوك بلسانه الكلام العربي، بالطريقة التي كنتم تسمعون ..هكذا أسسوا للكراهية التي نحصد ثمارها اليوم عربا وتركا وكردا ،

كنا بحاجة إلى أن نقرأ كثيرا لنعرف أن كل غيظهم من السلطان عبد الحميد، وكل حقدهم عليه، لأنه رفض أن يبيع فلسطين التي باعوا ..

وحين تآمروا لعزله أرسلوا له لجنة مكونة من خمسة أشخاص لإبلاغه قرار العزل الممهور بتوقيع المفتي ومجلس المبعوثان ..كان في الخمسة أرمني ويهودي، هو نفسه قرصوه الذي ساومه على فلسطين فأبى

قال لهم رحمه الله تعالى: إذا كانت القضية عزل خليفة المسلمين، فهذا الأرمني وهذا اليهودي ماذا يفعلان هنا ؟؟

وزينوا للتركي الأذان بغير العربية ، وعلموه أن يقول : " عرب بيس ملت"  وسقوه كما سقونا، وأرضعوه كما أرضعونا ، والمطلوب اليوم الكثير من الترياق لغسل تأثير السموم وبقاياها في العقول والقلوب ..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 953