هلْ السوريونَ يَرغبونَ في تحريرِ أرضهِمْ؟!

د. موفق السباعي

إن جميعَ شعوب العالم التي تتصف بالحيوية، والقوة، والعزة، والكرامة، والإباء، والشمم، وتحب الحرية، وتعشق السيادة على أرضها.. تأبى، وترفض رفضاً قاطعاً؛ أن يحكمها مستبدٌ؛ ظالمٌ؛ غَشُومٌ؛ متكبرٌ؛ متجبرٌ.

وإذا هاجمها عدو خارجي؛ يريد أن يحتل أرضها؛ استنفرت كل قواها للدفاع عن أهلها؛ وعرضها؛ وأموالها؛ ووقفت كلها كالبنيان المرصوص؛ للتصدي له؛ ومنعه من أن يحتل شبراً واحداً من ترابها.

مواصفات الشعب الحي 

وهذه هي صفةُ الشعبِ الحيِ، الأبيَّ – سواءً كان يؤمن بعقيدة إيمانية، أو عقيدة كفرية – الذي يتشبث بأرضه؛ ويدافع عنها بكل ما يملك؛ ولو بأظافره. ولا يهرب من الميدان، ولو سقط عليه مليون طن من المتفجرات. لأنها معركة مصيرية، إما أن يكون هذا الشعب الحي، أو لا يكون. إما أن يعيش على أرضه عزيزاً، كريماً، أو يموت عزيزاً كريماً. كما قال الشاعر المتنبي:

عِشْ عزيزاً أوْ مُتْ وَأنتَ كَرِيمٌ ...... بَينَ طَعْنِ القَنَا وَخَفْقِ البُنُودِ

وأما الذين يفرون من المعركة بالملايين، ويسيحون في الأرض، فيستجدي بعضهم اللقمة، وكسرة الخبز، أو بعضهم؛ قد يملكون المال الوفير؛ فيهربون بأموالهم؛ ليعيشوا حياة البذخ؛ والنعيم؛ مع الذل؛ والهوان؛ والتهديد؛ بالطرد في كل آن وحين، ويتركون أهلهم، وأقاربهم، وبلدهم، تحت سلطة الاحتلال، ليذيقهم الهوان، والذل، والصغار، ويعيث في الأرض فساداً.

أولئك ليسوا من الشعوب الحية، الحريصة على عزتها، وكرامتها. أولئك فقط يُهمهم السلامة بجلدهم، ولو تعرضوا إلى الذل، والهوان، وأكلوا الطعام مغموساً بالذل، والهوان؛ فيستكينون، ويرضخون.

فهؤلاء مثلهم كمثل الذي قال فيه الشاعر: دعِ المكارمَ لا ترحلْ لبُغيتها.... واقعدْ فإنك أنت الطاعمُ الكاسي

الفيتناميون تشبثوا بالأرض ولم يفروا

 

ولو راجعنا تاريخ الشعوب التي تعرضت للغزو، والاحتلال، وعلى سبيل المثال: الفيتناميون الذين احتلت أمريكا الطاغية، المستبدة، أرضهم في أواسط القرن الماضي.

حيث احتلت بالذات القسم الجنوبي من فيتنام، ومن ثَمَّ أخذت طائراتها الجبارة؛ تلقي بحممها على القسم الشمالي، الذي رفض هذا الاحتلال الغاشم، وأبى أن يَذل أو يُهان، وأبى إلا أن يقاومها بكل ما يملك من إمكانيات؛ بكل بسالة؛ وجرأة؛ وشجاعة.

وتحمل الشعب الفيتنامي الشمالي، القتل، والقصف، والجوع، والعطش. وعاش بين الكهوف، والمغارات، في الجبال. وأبى أن يفر، أو يهرب من المعركة، أو أن يلتجئ إلى البلدان المجاورة القريبة، أو البعيدة.

بل صمد صموداً أسطورياً وبطولياً، مما أجبر في النهاية، على أن يُرغم أمريكا على الخروج من فيتنام، ذليلة، صاغرة، مهانة، تجر أذيال الخيبة، والخسران، وتفقد حوالي الستين ألفاً من جنودها. وانتصر الشعب الفيتنامي الضعيف، المسكين، الفقير على أقوى دولة في العالم، وهي أمريكا.

الأفغانيون صمدوا في مواجهة الأعداء

 

والمثال الثاني هو: أفغانستان! الذي تعرض في ثمانينات القرن الماضي، إلى الغزو، والاحتلال السوفياتي. فاستنفر الشعب قواه كلها، لمحاربته، ومقاومته.

وبالرغم من أن بعض الأفغانيين من النساء، والأطفال، والشيوخ، والمستضعفين الذي لا يملكون حيلة، ولا قوة، قد لجأوا إلى باكستان، وربما أيضاً إلى إيران، إلا أن الشباب، والرجال القادرين على حمل السلاح، أبوا أن يقعدوا مع الخوالف، ومع اللاجئين المستضعفين. وأبوا إلا أن يتشبثوا بالأرض، يدافعون عنها شبراً شبراً، وذراعاً ذراعاً، ولا يغادرونها أبداً، ويتركون المحتل الغاصب، يسرح، ويمرح كما يشاء، ويعيش بأمان وسلام.

وبقي الأفغانيون الشجعان الأبطال، يحاربون الاتحاد السوفياتي - وهو القوة الثانية الضاربة في العالم بعد أمريكا - قرابة العشر سنوات، حتى تمكنوا في النهاية من تحرير أرضهم، وإخراج المحتل ذليلاً، خائباً، خاسراً.

كما أدى هذا الانتصار العظيم للمجاهدين الأفغان؛ إلى تحطيم الاتحاد السوفياتي؛ وتفكيكه إلى دول عديدة؛ وتمزيقه؛ وتشتيته؛ وإزالته من الوجود الجغرافي، والسياسي.

وبعد عشر سنوات من التحرير، تعرض الأفغانيون مرة أخرى، إلى الغزو والاحتلال، من قبل أمريكا. فلم يضعفوا، ولم تلن لهم قناة، وجابهوا المحتل الجديد، بكل جرأة وبسالة، ولم يهربوا، ولم يفروا، ويلتجئوا إلى البلدان المجاورة، ويتركوا المحتلين ينعمون بخيرات البلاد، ويطيب لهم العيش، بأمان وراحة وسلام.

وبقوا عشرين سنة يجاهدون، ويكافحون، ويناضلون، ويحاربون، ويقاومون دون كلل، ولا ملل، حتى أرغموهم في النهاية، على الخروج أذلاء صاغرين.

وهكذا ينتصر الشعب الأبي؛ الذي يهمه أن يعيش كريماً؛ عزيزاً؛ أو أن يموت عزيزاً كريماً على أرضه، وهو يحمل سلاحه، ويحارب عدوه.

وإذا ما أردنا أن نُسقط تلك المشاهد الرائعة، الزاهية، من الجهاد، والحرب الضروس، والمقاومة العنيفة، والصمود البطولي، والتشبث بالأرض، وعدم الفرار من المعركة، على الشعب السوري نجد ما يلي:

كل ذلك لأجل دريهمات معدودة، يتلقونها منه، فيضحون بأرواحهم، ويبذلون دماءهم رخيصة فداء له.

كما حصل في السودان، عقب الانقلاب على نظام البشير، إذ تم التضييق عليهم، بل حتى تم سحب الجنسية من الذين حصلوا عليها، في عهد البشير، وكما يتم تهديدهم الآن بالطرد من قبل المعارضة في بلد آخر.

فعلى أي شيء يدل هذا السلوك الانهزامي؟!

 

إنهم فقط يملكون صفة الأنانية، والفردية المقيتة. فلا يهمهم إلا النجاة بأنفسهم، ولتخرب سوريا، وليهلك أهلهم، وجيرانهم. المهم عندهم! أن ينجوا بجلدهم، ويمارسوا في بلد اللجوء، أي صنعة ولو كانت وضيعة أو حقيرة، ولو حصلوا من ورائها على نصف الأجرة الاعتيادية، مع المهانة والمذلة من صاحب العمل الذي يستغلهم أسوأ استغلال، فلا تفرق عندهم شيئاً.

وسوم: العدد 954