إسلام السوق: النموذج الماليزي

د. مدى الفاتح

مصطلح «إسلام السوق» لم يتوقف عن التداول في الدراسات المرتبطة بالمجتمعات الإسلامية، منذ أن نشر السويسري باتريك هايني كتابه الذي حمل الاسم ذاته في عام 2005. أثار الكتاب الذي يتحدث عن تأثير العولمة وقيم النيوليبرالية الاقتصادية في المجتمعات المسلمة، خاصة بعد صدور ترجمته العربية، كثيراً من النقاش.

يقول هايني في كتابه، إن هناك تَبنيا متزايدا في العالم الإسلامي لقيم السوق الغربية، التي تمجد النجاح الفردي ونزعة التمتع بالحياة التي سبق أن دمغت التدين المسيحي، خاصة في نسخته البروتستانتية. هذه النزعة وهذا التبني لأسلوب الحياة الغربي المهيمن على الساحة الدولية، سوف يؤدي، وفق هايني، لسيولة في التمسك ببعض ما كان أصلاً دينياً، كمفهوم الخلافة أو عقيدة الولاء والبراء، أو غيرها من المسائل الشرعية.

على الرغم من إشارة هايني للبروتستانتية ولأفكار ماكس فيبر، إلا أن أطروحته بدت أكثر تأثراً بالنظرية الماركسية، التي تتمحور حول تأثير الاقتصاد في طريقة التدين وهو ملخص ما ذهب إليه كتابه. من المهم هنا القول إن في حالة المسيحية الأمريكية أثّر التدين البروتستانتي في الاقتصاد فكان ذلك، على النقيض من رؤية هايني، يمثل دليلًا على إمكانية تأثير العقيدة الدينية في مجال الأعمال. يلفت هايني، الذي عمل على كتابه على مدى عشر سنوات، إلى حقيقة مهمة وهي، أن إضافة كلمة «إسلامي» إلى مصرف ما لا تجعله إسلامياً، إذا كان الفارق الوحيد هو استبدال المصطلحات والأسماء ومتابعة العمل فيه بالطريقة التقليدية، وهو ما يمكن سحبه على غيره من الأعمال، فبدء العمل بالبسملة، أو الاحتفاظ بقيادة نسائية محجبة، لا يعني أن مجالاً ما صار منفصلاً عن المفاهيم الغربية. يضرب هايني مثالًا آخر متسائلاً عن الفرق الموضوعي الذي يجعل من لحن ما نشيدا، وآخر أغنية، فالخطوط الفاصلة تبدو له شديدة الضعف. الجديد في «إسلام السوق» هو اختلافه عن الرؤية الكلاسيكية التي تتبناها «الحركات الإسلامية» والتي تجعلها تتعامل مع المنتجات الغربية بحذر، على العكس من ذلك يبدو «إسلام السوق» أكثر تعايشاً وانسجاماً مع المحيط الغربي، وإن استمر في رفع الشارات واللافتات الإسلامية. الحجاب الحداثي، على سبيل المثال، لا يتحول إلى رمز معادٍ للثقافة الغربية، بل يكون متماهياً معها وحاملًا اسم بعض بيوت أزيائها وألوان موضتها. يشتبك هذا المصطلح مع مصطلح «ما بعد الإسلاموية» الذي استخدمه آصف بيات وأوليفييه روا وغيرهما من الباحثين للحديث عن اهتمام الإسلاميين، بما هو متجاوز لنطاق اهتماماتهم السابقة، التي كانت تضع الأصول العقدية في صلب اهتماماتها. الفارق هنا هو أن حالة «إسلام السوق» لا تخص «الإسلاميين» التقليديين من المنتمين لما يعرف في هذا النطاق بجماعات «الإسلام السياسي»، بل يشمل كل الطبقة المتدينة التي تحاول الجمع بين الأصالة والمعاصرة والتي تميل، لا شعورياً، وبسبب الضغط الثقافي لمجاراة الحداثة وأساليبها.

يمكن أن تدخل ظاهرة «الدعاة الجدد» من الشباب الذين يستخدمون طرق خبراء التنمية البشرية في مخاطبة جمهورهم، عبر حثهم على النجاح الدنيوي ضمن المصطلحين، فهي تبدو نوعا من «إسلام السوق»، الذي يحرض على الغنى، كما تبدو أيضاً نطاقاً من نطاقات «ما بعد الإسلاموية» التي يتجاوز فيها الخطاب الدعوات التقليدية للثورة، ومحاولة تغيير العالم ورفض الواقع القائم. من الممكن الاتفاق مع ما ذهبت إليه هبة رؤوف عزت، في مقدمتها للكتاب من أن كتاب «إسلام السوق» يدعم بشكل ما أطروحات أوليفييه روا وجيل كيبيل، التي بشرت بفشل حركات «الإسلام السياسي» التي وجدت نفسها مجبرة، في نهاية المطاف، على مسايرة الحداثة في الرؤى والتصورات. جعلت هذه المسايرة الحركات الإسلامية أكثر علمنة، وهو ما ظهر في السعي لإعادة تفسير مفهوم الجهاد، أو الحجاب الذي لم يعد دوره ينحصر في مجرد تغطية الجسد. الوثائقي الفرنسي الذي عرض مؤخراً تحت عنوان: «ماليزيا: جنة مهددة بالإسلام المتشدد» لم يذكر «إسلام السوق» أو كاتبه، لكن الصورة التي عرضها، والتي بدأت بمشهد الشواطئ الماليزية التي يجتمع فيها المواطنون والسياح بسحناتهم المختلفة ولباسهم، الذي يتنوع ما بين البكيني العاري والحجاب، كانت تذكر بكلمات هايني عن الإسلام الحداثي. ماليزيا المتقدمة اقتصادياً والمسلمة، التي تطرح نفسها كوجهة سياحية آسيوية مهمة بفضل طقسها المعتدل وجزرها الخلابة، تبدو متسامحة أكثر من كثير غيرها من الدول الإسلامية في مسائل الحريات على النطاق العام. يلفت الوثائقي لكون أن الغالبية المسلمة المتدينة في ماليزيا تتحكم في مجال الأعمال، لكنها تحاول، في الوقت ذاته أن تكون قريبة من طرق الحياة الغربية، يضرب مثالاً لهذا بإحدى سيدات الأعمال المحجبات الناجحات، التي لا يمنعها حجابها من إظهار جمالها أو الرقص في إعلانات الترويج لسلعها على طريقة النجمات الأمريكيات. يتحدث الوثائقي عن هذا بإيجابية قبل أن يمضي للقول إن هذا النموذج الماليزي المنفتح مهدد بتمدد المتشددين، الذين يطالبون بدولة أكثر صرامة. يرى الوثائقي في تقدم الإسلاميين مهدداً ويضرب مثلاً بسياستهم في الأقاليم التي فازوا بانتخاباتها، بسبب غالبيتها المسلمة، حيث قاموا بتمويل المدارس القرآنية ومحاولة ضبط الشارع، خاصة ما يتعلق بمحاربة العلاقات غير الشرعية، حتى وصل الأمر لتشكيل شرطة ولجان خاصة رسمية لمتابعة الأمر.

بوضع المثال الماليزي في الاعتبار يمكن القول إن، لإسلام السوق عدة مستويات، فمنها ما هو شخصي، ومنها ما هو مرتبط بالجماعة أو الحركات الإسلامية، كما أن منها ما يأتي على مستوى الدولة، كما في الحالة الماليزية، وإذا كان الجدل حول مستوى «السيولة» يقود في الحالة الحركية إلى تفكك وانقسام هذه الحركات ما بين متشدد ومعتدل، فإنه يقود في حالة الدولة إلى تنافس كبير قد يتخذ شكل الشرخ الاجتماعي. في ماليزيا يبدو النموذج الحداثي مهدداً، ليس فقط من جانب الإسلاميين، كما يذكر الوثائقي أعلاه، ولكن أيضاً من جانب العلمانيين المتطرفين، وغيرهم ممن يطالب بتبني النموذج الغربي على علاته. هكذا، وبينما يطالب المتدينون بمزيد من إظهار أحكام الشريعة في النطاق العام، يناضل ليبراليون مسلمون، وغيرهم من أصحاب الأديان الأخرى، من أجل المضي لخطوات أكثر انفتاحاً في ما يتعلق بموضوعات حساسة كالمثلية الجنسية. طرح مناقشو كتاب هايني سؤالًا هو شديد الارتباط بما سردناه عن الحالة الماليزية، هذا السؤال هو: ما هي السيولة وكيف يمكن تعريفها؟ يطرح هذا مع الأخذ في الاعتبار أن هناك، في الدين الإسلامي، مساحة للتطور والتجديد، بما يتناسب مع العصر، فهو دين يؤمن أصحابه بأنه صالح لكل زمان ومكان. كيف يمكننا أن نحدد ما إذا كان تطور ما، كاتباع النمط الغربي في البنوك والشركات، سيولة وتنازلاً، أو أنه مجرد تطويع في إطار الاجتهاد المسموح؟ تطويع كان موجودا منذ نشأة الدولة الإسلامية التي اقتبست نظام الدواوين، الوزارات السياسي من الفرس، حينما توسعت ودعت الحاجة لمزيد من التنظيم وتوزيع المهام.

سوف يكون هذا السؤال محل خلاف، فصاحب «إسلام السوق» يملك تصوراً خاصا به حول السيولة والصلابة، أما أصحاب الوثائقي الفرنسي فيرون في محاولة منع بيع الخمور للمسلمين الماليزيين، أو السعي لتجريم البغاء نوعاً من التشدد المهدد للانفتاح.

وسوم: العدد 990