إلى قادة الحركة الإسلامية في كل مكان "الشورى ليست لعبة أرقام"

زهير سالم*

درس عملي من حياة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى

وأتابع في أجواء الحركات الإسلامية - مع شديد الأسف - محاولات واقعية تتسربل ثوب المصلحة، تجهد وتجاهد للالتفاف على مفهوم الشورى، حقيقتها وجوهرها.

وجوهر الشورى فيما علمنا هو عملية حثيثة للبحث عن الصواب وعن المصلحة في ظرفيها. بعض الناس باستخدام بعض الآليات والمواهب الشخصية، حولوا عملية الشورى في معطنها الحقيق، إلى مجرد لعبة أرقام. وأصبحنا - كثيرون ممن يحكون لي وأحكي لهم - لا نميز كثيرا بين المجالس المهيأة للشورى وبين..

وأتيح لي في ثمانينات القرن الماضي أن أعايش بعض التجارب العملية للبحث عن الأصوب والأحكم في شخص الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى، وكان رجل علم وحكمة وإدارة وبعد نظر...

ما سأكتبه عايشته، وعايشه معي قوم آخرون، وبعضهم ما زال حيا يستطيع أن يشهد إذا شاء...

في الدرس الأول للشورى أنه عندما تسلم الشيخ عبد الفتاح رحمه الله تعالى إدارة جماعة الإخوان المسلمين في 1985 وكان يصر على أنها إدارة وليست قيادة كما كان معتمدا ، واجتمع بالفريق العامل حوله، وكان منا عدد يستشعر بحق أن الشيخ شيخ والمريد مريد، وربما منهم شخصي الضعيف قال لنا بكلمات وجيزات : نحن الآن فريق إدارة واحدة . حق على كل منا أن يقول. لا تقولوا قال الشيخ، ولا تقولوا رأي الشيخ. وليقل كل واحد منكم ما عنده. فما أحد دون أن يعين، ولا أحد فوق أن يستعين. وكان كثيرا ما يحتفظ برأيه حتى تكاد القضية أن تقضى، حتى لا يحرج مخالفيه. كانت تلك بداية، وأحب أن أنهيها لرجال ضاقوا ذرعا بالشورى حتى صادروها، بكل ما نعرف ويعرفون من ألاعيب. أعتقد وكلي إيمان أن للشورى في صيغتها الشرعية بركة تقي العثار، أن أي محاولة للالتفاف على جوهر الشورى، مهما تكن نية صاحبه تذهب بهذه البركة أو تمحقها. حقائق مجربة لقوم يفقهون..

ثم سأمر في هذا المقال على تجربيتين من تجارب الشورى عايشتهما متعلما على يد الشيخ الراحل رحمه الله تعالى...

كانت الأولى: حول موضوع "المفاوضات مع نظام حافظ الأسد" التي دخلتها الجماعة في عهده سنة 1987 ..

وكانت الثانية حول قرار الشيخ رحمه الله تعالى في تسعينات القرن الماضي النزول إلى سورية لأمر قد قُدّر

مهما تكن وجهة نظر أحدنا في هاتين المحطتين، إلا أن تركيزي في هذا السياق هو على الطريقة التي أدار بها الشيخ رحمه الله تعالى عملية الشورى، لتكون درسا.. ولكن هذا لا يمنعني من ذكر المدخلات الأساسية التي شاركت في صنع هذين القرارين.

والمدخل الأول كان واقع الجماعة، بكل ما كان فيه، أو ما آل إليه ..ولا أريد أن أزيد..

ثم أخبار المعتقلين والمعتقلات في سجن تدمر، والأخبار المتواترة التي كانت تأتي من هناك، عما يحصل من انتهاكات وإعدامات وعدوان على إنسانية الإنسان، كان تلك أكبر الأوراق تأثيرا على الشيخ رحمه الله تعالى، وكان كلما حدثه متحدث عن بعض هذا يبكي ويقول : أنا أفدي إخواني بنفسي، عبارة لم أسمعها منه مرة ولا عشرا فقط..

ثم أخبار المسلمين في الداخل السوري، وما آل إليه واقع الناس من وهن وخلل عام وخاص

ثم مقابل كل ذلك كانت دعوات ممنهجة من الطرف الآخر، تبدي رغبة في الوصول إلى حل يزعمون فيه رغبة في الإنصاف...

قد تستحق هاتين المحطتين تفصيلا أكبر، ولكنني أكتب في هذه المقام لأمر آخر، وأنا أتابع كماشة الشورى العددية تحكم قبضتها على عنق العديد من الحركات الإسلامية، التي كانت من قبل ملء السمع والبصر.

كيف مارس الشيخ عبد الفتاح أبوغدة رحمه الله تعالى الشورى، أيام إدارته لجماعة الإخوان المسلمين؟؟ وفي أي إطار؟؟

قبيل اختيار الشيخ رحمه الله تعالى لإدارة الجماعة، أشيع أن الجماعة منقسمة إلى فريقين، فريق يريد المصالحة وفريق يريد المقاومة. كانت تلك رايات خادعة مزيفة وبعض الحرب التي تعمل على مصادرة القرار استباقيا من عقول الناس....

وصرنا إلى إدارة الشيخ رحمه الله تعالى وإذا الشيخ ليس لديه موقف مسبق من عملية المفاوضات، رغم أن بعضنا كان متحمسا لها، رغبة في تخفيف المعاناة عن الناس، وليس فقط عن الإخوان!!

بدأ الشيخ رحمه الله تعالى عملية الشورى في أطرها التنظيمية "قرار الإدارة وقرار مجلس شورى الجماعة" طرحت القضية واتخذت فيها القرارات التي رأتها الجهات المعنية صائبة، ولكن الشيخ رحمه الله لم يكن يبحث عن قرار تكأة كمن يبحث عن تحلة قسم!!

في كل الأحزاب والجماعت والهيئات، يكون رجالٌ أصحاب فقه وفكر ورؤية، ولا يكون لهم نصيب من مجالس القرار المعنية، فظل الشيخ رحمه الله تعالى يتواصل مع هؤلاء ويصغي إليهم بحثا عن حكمة وعن صواب وعن بركة..

ثم ولما كانت القضية السورية في إطارها السابق لا تخص جماعة الإخوان المسلمين وحدها، بل تخص كل الشعب السوري، فخرج الشيخ رحمه الله تعالى في البحث عن الصواب، إلى دائرة أو سع من رجال الرأي والفكر في سورية، يسألهم ويستمزج آراءهم، ويصغي إليهم، ويستفيد من مشورتهم. فالحركات والجماعات ليست دكاكين يضع أحدهم مفاتحها في جيبه ثم يقول للناس ما أريكم إلا ما أرى..

ولم يكتف الشيخ بذلك مرة أخرى، بل كان من موقعه بين علماء الأمة رحمه الله تعالى، مما أعانه ليمد شوراه فيسأل كل من يثق برأيه من علماء المسلمين حول العالم وكبرائهم.، عن حقيقة موقف هو مقبل عليه.

من الضروري أن أذكر أن الشيخ عبد الفتاح في قضية نزوله إلى سورية من بعد، ولم يكن له موقع في مؤسسات الجماعةـ لم يتحرك حتى استأذن أصحاب القرار في الإدارة التي كانت قائمة آنذاك. استأذنهم فاذنوا، واستشار غيرهم فاشاروا.. ولله في كل أمر تقدير وتدبير...

أكتب وقد شهدت بعضا من هذه المجالس، مع بعض الطبقات وبعض الشخصيات، وأتذكر حرص صاحب القرار على بركة الشورى وجداوها وأقول:

أيها الناس إن الشورى روحية ومنهج وليس سلما ترتقي عليه الأنا إلى حيث تريد.

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 991