منهج الإسلام في التعامل مع المحن

إحسان الفقيه

عندما تسطو المحن على واقع الأمم والشعوب، تسود نظرات لدى الجماهير تكاد تكون متناقضة، أو في أقل الأحوال ناقصة مبتورة، بين يأس وجزمٍ بانسداد الأفق، وإفراط في التفاؤل مشوبٍ بتواكل ودعة، واكتفاء بالتفسير وتعيين مكمن الخلل والضعف، واعتماد على الغير في أن يُلتمس لديهم الحل.

في هذا الوقت يطالعنا الإسلام بمنهج فريد في التعامل مع المحن، يجمع المحاسن، ويربط بين دنيا المرء وآخرته، ويتحرى الموضوعية في التعامل مع تلك المحن والأزمات، هذا المنهج الذي عرف بالاستقراء، سرى عبر التراث الإسلامي، إلى أقلام الأدباء والعلماء والمفكرين الذين انصهروا في بوتقة هذا المنهج وتأثروا به، لذا تجد ملامحه واضحة في إنتاجهم الفكري والثقافي.

أول ملامح هذا المنهج، هو تفسير أسباب المحن والوقوف عليها، لأن معرفة المرض هو أول خطوات العلاج، ولا يتصور أن تخرج أمة أو شعب من أزمة إلا بعد معرفة سبب هذه المحنة، لمعرفة كيفية الخروج منها أولا، وثانيا لتوقيها مستقبلا. ويتجلى هذا الملمح في أظهر صوره من خلال النص القرآني الذي تناول هزيمة المسلمين في أحد، وأورد تساؤلهم عن سبب الهزيمة، وأتبعه بالإجابة الفورية «أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ» أي الهزيمة في أحد، «قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا» وهي النصر قبلها في بدر، «قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا» أي كيف ونحن أهل الحق وأعداؤنا هم أهل الباطل؟ فأتاهم الجواب: «قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ» بسبب مخالفة أوامر القيادة العليا النبوية بعدم ترك الرماة أماكنهم قبل أن تأتيهم التعليمات. وهذا أمر بديهي أن تكون هناك قيادة جامعة، ولذلك تقوم جميع جيوش الأرض، على طاعة القيادة، ومن هنا كان الدرس الذي خرج به المسلمون من هذه المحنة، معرفة أسباب النصر والهزيمة، بعد تفسير أسباب المحنة. ثم يطالعنا ملمح آخر من ملامح هذا المنهج الإلهي في مواجهة الأزمات والمحن، وهو تطييب النفس بأن المحن سنة من السنن الكونية التي لا تحابي أحدا، فما من فرد أو شعب أو أمة إلا وداهمتهم المحن، لأن الأمة بحاجة من وقت لآخر للتمحيص، الذي لا يظهر حال الرخاء، فالجميع حال الرخاء أسوياء صالحون، لا يعرف الصادق فيهم من الكاذب إلا في وقت المحن، ولذلك أكد القرآن على هذه الحقيقة في غير موضع، ببيان أن المحن سنة كونية لا تختص بأمة أو شعب بعينه، وأنما يعرف بها الصادقون من الكاذبين «وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ.

إن الصفوف فيها البر والفاجر، فيها المصلح والمفسد، ولو ظلت الأمة بلا محن، فإنها تبقى بلا تمحيص، ولن يخرج الخبث الذي تنطوي عليه، ولقد رأينا كيف كشفت ثورات الربيع العربي أسوأ ما فينا، وأظهرت حجم الفساد الذي كانت تنطوي عليه الدول. إن من شأن بيان الإسلام لحتمية البلاء ونزول المحن، ألا يشعر المرء أو الجمهور بأنهم غرباء عما يحدث على هذه الأرض، وأن غيرهم ممن سبقوهم، وممن عاصروهم، وممن سيأتون بعدهم، كلهم قد تعرض وسوف يتعرض للمحن. ومن ملامح هذا المنهج في مواجهة المحن، ما يتجلى في قوله الله تعالى عندما هزت حادثة الإفك المجتمع الإسلامي «لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ»، فالمحنة التي تضرب المجتمع تقويه وتربيه، وقد أدرك الأديب مصطفى صادق الرافعي هذا المعنى، وتأثر بما نقله عن بعض الأئمة في كتابه «وحي القلم»، وفيه:

«ما أشبه النكبة بالبيضة تحسب سجنا لما فيها وهي تحوطه وتربيه وتعينه على تمامه، وليس عليه إلا الصبر إلى مدة، والرضى إلى غاية، ثم تنقف البيضة فيخرج خلقا آخر». فهذا شأن الأمة بعد المحنة، تعود أشد وأقوى وأرقى، إذا أحسنت الاستفادة من هذه الأزمة، وأخذت من سالفها للاحقها، ومن ماضيها لمستقبلها. فيركز القرآن والسنة المطهرة، على أن المحن مهما عظمت، ففيها خير، علمه من علمه وجهله من جهله، وهذا بدوره يقودنا إلى ملمح آخر، وهو ربط المحن بالجانب العقائدي، عن طريق التأكيد على أن كل ما يحدث للأمة، إنما هو بتقدير إلهي، ذلك القدر الذي هو البعد الغيبي في المحن، ويجب الإيمان به والصبر عليه، على أن هذا التقدير الإلهي مرتبط بالأسباب، فمن ثم يسير المرء أو الأمة على بصيرة، في أنه تقدير إلهي له أسبابه، التي أتى بها البشر فوقع المقدور، وهذا يقود إلى ثمرتين: الأولى الهدوء والطمأنينة النفسية على أن الأمر بتقدير علوي، والثانية التعاطي مع الأسباب بكل ما أوتيت الأمة من أساليب ووسائل لدفع المحن. ومن ملامح هذا المنهج في مواجهة المحن، التأكيد على أن دوام الحال من المحال، وأن الأمم تتبدل أحوالها كما جاء في القرآن «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ».

التاريخ يترجم هذه الحقيقة التي أكد عليها القرآن، فأين الحضارات التي سادت العالم، أين الأباطرة والأكاسرة والفراعنة، أحوال تبدلت، حضارات اندثرت وقامت أخرى، ممالك سقطت ونهضت أخرى، المحن ذاتها لا تستمر، مهما ظن الناس أنهم فيها قائمون أبد الدهر، القدس التي ظلت قرابة مئة عام مُحتلة من قبل الصليبيين لم تقم فيها الصلاة، تحررت. محنة التتار التي اجتاحت العالم الإسلامي، وأصابته بالهزيمة النفسية، حتى ظن الناس أنهم لو صعدوا إلى السماء لتمكن منهم التتار وقتلوهم، بسبب المذابح البشعة التي ارتكبها التتار بحق الشعوب الإٍسلامية، انتهت هذه المحنة، ودخل كثير منهم في الإسلام وصاروا فيه أبطالا، وعادت الأمة من جديد. الشدة المستنصرية التي أصابت المصريين في العصر الفاطمي، والتي أكل الناس فيها الكلاب والقطط، إلى أن لجأ الناس إلى اصطياد البشر وأكلهم، كما قال عدد من المؤرخين كالمقريزي وغيره، انتهت المحنة، وجرى نهر النيل بالخير، واستقامت أمور المعاش بعد سنوات عجاف، لم يجد الناس فيها القوت. وهذا يجرنا إلى ملمح آخر، وهو بث التفاؤل في أوقات المحن، فالتفاؤل والأمل أمر لازمٌ لتقوى النفس على البذل من أجل الخلاص من المحنة، وليس هذا سوقًا للناس بالخيال والأوهام، فقد ركز القرآن في هذا الشأن على حقيقة اليسر الذي يعقب العسر «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا»، ومن أوجه البلاغة القرآنية في الآيتين، التكرار، فالمعروف عند العرب أن المعرف بأل، إذا تكرر فهو يعني أمراً غير الأمر الأول، وإذا تكرر النكرة فإنه يعني الأمر ذاته، بمعنى أن هناك يسريين وعسراً واحدا. والنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم كان يبشر وهو مطارد في رحلة الهجرة بالسؤدد، وقال لسراقة الذي كان يتابعه بغية الجائزة من قريش: «يَا سراقَة، كَيفَ بك إِذا وضع تَاج كسْرَى على رَأسك وسواره فِي يَديك»، يقول هذا وهو مطارَد ملاحق، وقد تحقق بالفعل، عندما قلد أمير المؤمنين عمر سراقة بن مالك أسورة كسرى وتاجه. وكان خلال الاستعداد لرد هجوم القرشيين على المدينة بحفر الخندق، وفي لجة الخوف والبرد اللذين أصابا أهل المدينة، كان يضرب بمعوله حجرا اعترضهم، وجعل يبشر بملك الشام واليمن وفارس. وكان يبشر دائما أصحابه حتى في أحلك الظروف، ويعجبه الفأل الحسن، وينهى عن التشاؤم.

ومن هذه الملامح، مواجهة المحنة بالشق الإيماني بالتوبة والعودة إلى الصواب، ومراجعة النفس والاستقامة، والشق المادي المتمثل في التعاطي مع الأسباب ومباشرتها، واستخدام كل الموارد والإمكانات والطاقات للتخلص من هذه المشكلة. أما الادعاء بأن الإسلام يواجه المشكلات بالوعظ بتقوى الله، فهذا محض افتراء على الإسلام، وهو منه براء، ومن المعلوم أن القرآن الكريم قد عنى بالحلول العملية المادية وأولاها اهتماما بالغا، كما في قصة يوسف عليه السلام، حيث ركز القرآن على الحل العملي المادي الذي واجه به يوسف المجاعة التي حدثت في مصر، والكلام ذاته في الأسباب المادية التي باشرها ذو القرنين في قصته المذكورة في سورة الكهف، لكي يخلص الضعفاء من القوم الهمجيين، ببناء سد بمواصفات قياسية في الصلابة والقوة. فمنهج المسلمين الذي ساروا عليه منذ عهد النبوة والصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، هو الأخذ بالأسباب لمواجهة المحن، وقد طبق أمير المؤمنين عمر العزل الصحي، الذي لم يكن مشتهرا حينذاك، عندما داهم طاعون عمواس أهل الشام، فمنع دخول المدينة أو الخروج منها، عملا بالأصل النبوي (لا يوردن ممرض على مصح)، وهذا من باب الأخذ بالأسباب لا ريب. إن على كل خصوم المنهج الإسلامي والمشغبين عليه، ألا يحاسبوا الإسلام كمنهج، بواقع الناس اليوم، ينبغي أن لا يحاسبوا الإسلام على تخلّف أناس ابتعدوا عن تعاليم الإسلام، والتاريخ خير شاهد، الحضارة الإسلامية التي يشيد بها القاصي والداني، كانت في أوج تمسك المسلمين بتعاليم دينهم، الإسلام لم يقل للناس تواكلوا، أو اركنوا للدعة، أو دعكم من الأسباب، أو اتركوا أسباب القوة والحضارة، فمن ثم ليس مسؤولا عن الانحرافات التي أتى بها من نأى عن المنهج الإسلامي، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وسوم: العدد 995