وطن الضحايا

الياس خوري

جاء اعتقال وليم نون، الناشط في لجنة ضحايا انفجار مرفأ بيروت، وكأنه متوقع في زمن بتنا فيه لا نفاجأ بشيء، وأن يحقق جهاز أمن الدولة مع أحد الضحايا بات أمراً عادياً. علماً أن مدير أمن الدولة أنطوان صليبا هو أحد المستدعين إلى التحقيق في جريمة انفجار المرفأ.

المتهم بالقتل يحقق مع القتيل!

المدير كغيره من كبار الموظفين، احتمى بالسياسيين كي لا يذهب إلى التحقيق، والسياسيون احتموا بالزواريب القانونية وبغطاء الحصانة كي يتهربوا من مسؤوليتهم عن الجريمة.

كل شيء ممكن، لأن كل احتمالات الأفق باتت مقفلة وغير ممكنة.

وبعد مئة سنة، عندما سيأتي المؤرخون لكتابة زمننا فإنهم سيصابون بالذهول، وستشلهم المفاجأة، لأنهم سيكونون عاجزين عن فهم كيف عشنا وكيف احتملنا وكيف تأقلمنا مع هذا الخراب المنظم.

مرة وصف شاعر الأعجوبة اللبنانية سعيد عقل لبنان بالكلمات التالية:

«لي صخرة عُلقت بالنجم أسكنها/ طارت بها الكتبُ قالت تلك لبنانُ».

هذا اللبنان الذي غنته فيروز، لم يبق منه سوى طيف نجم لم نعد نراه وسط هذه العتمة الشاملة.

ما هذه السكيزوفرينا التي ولدنا معها؟ نتغنى بوطن يشبه الحلم ونعيش في وطن اللصوص والأنذال. كانت هذه السكيزوفرينا ملجأنا الوحيد، كي نقبل واقع القبائل والطوائف وسط بهرجة الحداثة الكاذبة، وكي نتفاخر في تصاغرنا، وننتشي بمهانتنا، ونشرب كأس الذل ونحن نتفاخر بوطننا الجميل، وببيروتنا التي عمّدها نزار قباني باسم «ست الدنيا».

منذ نصف قرن، أي منذ اندلاع الحرب الأهلية، أو بشكل أدق منذ عام 1976، عندما سحق الجيش السوري احتمالات التغيير الديموقراطي في لبنان، ونحن نعيش كأننا لا نعيش. نتعامل مع الحرب الأهلية بصفتها مؤقتاً أبدياً. المؤقت صار دائماً، والحرب كشفت عن حقيقتها، فهي حرب الأوليغارشية الحاكمة، حرب أصحاب المصارف والسماسرة واللصوص على الناس. نعيش اليوم حرباً طاحنة ولكن بلا قذائف، إنها الحرب التي تجعل الناس يرقصون على إيقاع انهيار العملة الوطنية، وانهيار الدولة.

أعادونا إلى الهمجية، حيث لا دولة ولا قانون ولا قضاء ولا حياة.

ونسأل لماذا هذا الانسداد السياسي الشامل؟

لماذا يتحول انتخاب رئيس جديد للجمهورية، عفواً تعيين رئيس، إلى أزمة مستعصية وإلى صراع بين عصابات السلطة؟

ألا يشعرون أن الجمهورية انتهت؟

ما معنى انتخاب رئيس لجمهورية لم تعد قائمة؟

قد تقولون ونقول إن الحق على الناس، وإننا نستحق هذه الهاوية التي سقطنا فيها.

لكن مهلاً، كيف نستطيع تغيير نظام مملوكي متسلط لا يعبأ بالناس، لأنه يعتبرهم لا شيء؟ هل كان بامكان الشعوب العربية خلال انتفاضات الربيع العربي الموءود أن تزحزح البنية المملوكية للجيوش التي صارت وكأنها جيوش أجنبية؟ أو أن تمنع التشظي الاجتماعي الذي صنعته عقود من الاستبداد؟ أو أن تواجه قراراً دولياً أمريكياً بإبقاء العرب في برزخ الموت؟

أنا لا أبرر فشل ربيع الانتفاضات العربية، لكن قبل أن ندين أنفسنا، وهي تستحق ذلك، علينا أن نرى حقيقة الفشل بصفته جزءاً من بنية عسكرية مافيوية تعلمت من المماليك ضرورة فصل أدوات السيطرة العسكرية عن الشعب، بحيث صارت المجزرة احتمالاً دائماً.

آلية عمل السلطة السياسية اللبنانية تختلف عن بقية السلطات المملوكية العربية، فقمعها مبتكر؛ إذ يقوم الشعب بقمع بعضه بعضاً عبر البنى الطائفية، فيقتل الفقراء الفقراء، بينما يقهقه أصحاب المصارف والسماسرة واللصوص فوق الجثث.

هذا لا يعني عدم وجود تناقضات بين زعماء الطوائف والقبائل. التناقضات موجودة ويتم إعادة إنتاجها عبر خطاب ديني مصاب بالرعب من الآخرين.

خلال انتفاضة تشرين التي زرعت بذور خطاب لا طائفي يدعو إلى الخروج من زمن الحرب الأهلية الدائمة، لم يجد النظام مخرجاً إلا عبر إفلات ميليشياته الطائفية المدججة بالسلاح، ووصلت الأمور إلى ذروتها مع تفجير المرفأ. وتم طمر الجريمة بجثة القضاء الذي انهار بشكل شبه تام.

وكان خطأ مجموعات الثورة أنها ارتضت الذهاب إلى الانتخابات، معلنة التسليم بهزيمتها. فحين نرتضي لعبة نظام كان شعارنا إسقاطه، فهذا لا يعني أننا انهزمنا فقط، بل يعني اعترافاً بالهزيمة وخضوعاً لشروطها.

هذا الخطأ حوّل نواب 17 تشرين إلى كومبارس وشهود زور.

حادثة اعتقال وليم نون من قبل جهاز أمن الدولة، دليل إضافي على أننا نعيش في قبضة عصابات لا هم لها سوى غسل جرائمها بمزيد من الجرائم، والاستمرار في سياسة نهب المنهوب.

من هم هؤلاء الذي يحكمون ويتحكمون فوق كومة الخراب اللبنانية؟

والله صار مجرد الإشارة إلى أسمائهم أو التوقف عند تصريحاتهم ومواقفهم، أو مشاهدتهم وهم يمتطون كاميرات الإعلام، إهانة للعقل والعين.

انتهى الكلام وفرغت الصفات من معانيها.

نحن نحيا في زمن الهباء اللبناني والخواء العربي. ومع ذلك، لا نزال نغني مع سعيد عقل وفيروز:

«من حفنة وشذا أرز كفايتهم/ زنودهم إن تقل الأرض أوطان

هل جنة الله إلا حيثما هنئت/ عيناك كل اتساع بعد بهتان».

من أين أتى سعيد عقل بجنة الله هذه، وهل قادته هذه الجنة إلى جحيم العنصرية، التي صار من أوائل الداعين إليها، قبل أن تفترس كل مراتب السلطة في لبنان.

والله سئمنا، حتى اللامبالاة التي احتمى بها الناس لم تعد ممكنة. اللامبالاة تفرُّ منا، والمبالاة تأخذنا إلى العجز، فإلى أين نمضي؟

يحق لوليام نون أن يغضب ويحكي ما يشاء ويشتم ويلعن، فما عاشه أهالي ضحايا انفجار المرفأ من أهوال محو الجريمة، يجعلهم شهوداً على «وطن النجوم» الذي تحول إلى وطن الكارثة. وحدهم الضحايا هم الوطن، وحدهم يجسدون لبنان الذي لا يزال ممكناً في ضمائرنا.

وسوم: العدد 1015