سرديات «حلم صهيوني»: صدوع وانكسارات وفاشية

صبحي حديدي

انقضت 25 سنة على صدور «رصاص مطاطي: القوّة والضمير في إسرائيل الحديثة»، كتاب الأكاديمي والفيلسوف الإسرائيلي يارون إزراحي (1940-2019)، الذي صدر بالإنكليزية عن مطبوعات جامعة كاليفورنيا؛ وطوّر فيه المؤلف أطروحة مركزية في قراءته لمعضلات الاحتلال الإسرائيلي خلال تلك الحقبة. هذه دولة، ساجل إزراحي، تسدد أبهظ الأثمان لقاء انتقالها من المعجزة بحدّ السيف، إلى ما بعد الملحمة بالرصاص المطاطي؛ واستخدام هذه الذخيرة، تحديداً، في قمع الانتفاضة كان نقلة نوعية في السردية الصهيونية الكلاسيكية، الأسطورية والملحمية والتربوية. وكان، على صعيد شخصي، عتبة تدشّن انقطاع خيط الرواية الكبرى التي لمّت شمل أسرة إزراحي اليهودية طيلة خمسة أجيال، منذ أواخر القرن التاسع عشر حين غادر أجداده أوكرانيا إلى فلسطين، وحتى أواخر القرن العشرين حين أدرك أنه يصارع قراراً مؤلماً بتجنيب ابنه آلام حلم صهيوني فادح الأثمان.

وكتب إزراحي: «في تلك الليلة من شهر كانون الثاني (يناير) عام 1988، حين شاهدت على شاشة التلفزة جندياً إسرائيلياً شاباً يجثو على ركبة واحدة ليسدد بندقيته إلى طفل فلسطيني لا يحمل سوى الحجارة، انتابني إحساس حادّ لا سابق له بالصدوع العميقة التي أخذت تتشكل داخل ملحمة عودتنا وتحريرنا في هذه الأرض، ولقد شعرت بفداحة الخسران، وبالتناقص الشديد في قوّة الرواية التي أدامت الحلم الصهيوني». وأقرّ إزراحي بأنّ محاولة دولة الاحتلال مصالحة أزمة الضمير مع فحشاء استخدام القوّة، لن تسفر عمّا هو أقلّ من هوّة فاغرة بين أجيال الجدّ والأب والابن؛ ولسوف تكون معركة سرديات متنازِعة، ومتنازَع عليها، كلما اقتضت الحال تخليص النفس الإسرائيلية من، أو تحصينها بوسيلة، «الملحمة الكبرى» و«الحلم الصهيوني».

الأقدار شاءت أن يرحل إزراحي قبل أن يشهد ما هو أفظع بكثير: واقعة استشهاد الطفلة الفلسطينية إيمان الهمص (13 سنة)، خريف 2004، التي سقطت أرضاً بعد أن تعرّضت لإطلاق من نقطة مراقبة عسكرية إسرائيلية. لكنها كانت قد جُرحت فقط، حين تقدّم منها الضابط الإسرائيلي، قائد الفصيل، وأطلق طلقتين على رأسها من مدى قريب، ثمّ عاد من جديد إلى الطفلة وغيّر سلاحه إلى التلقيم الآلي، وتجاهل اعتراضات زملائه التي تواصلت عبر جهاز الاتصال، وأفرغ كامل الذخيرة في جسدها!

وعلى شاكلة قيادة جيش الاحتلال، التي برّأت الضابط المجرم من أيّ اتهام يومذاك، فإنّ طراز الضمير الذي اعتاد أمثال إزراحي امتلاكه في قليل أو كثير، لم يعد يؤرّقه الرصاص المطاطي، ولا الإعدامات الميدانية والتصفيات الجسدية للناشطين الفلسطينيين، ولا انحدار «الحلم الصهيوني» إلى سياسات فاشية صريحة ومنظومات أبارتيد أكثر صراحة. وجلّ ما يوقظه من سبات، إذا استيقظ حقاً، لا يتجاوز القلق على صلاحيات المحكمة العليا وتعيينات القضاة وهيمنة أمثال إيتمار بن غفير على مصائر سياسية وعسكرية وأمنية لا يجوز أن يلهو بها هواةٌ لم يؤدوا حتى الحدّ الأدنى من الخدمة العسكرية.

وقد لا تكون واقعة استشهاد الشيخ خضر عدنان محطة نوعية فارقة ضمن السجلّ الدموي الفاشي لطرائق الاحتلال في معاملة الأسرى الفلسطينيين عموماً، ومعتقلي ما يُسمّى «الاعتقال الإداري» خارج أيّ سلطة قضائية غير عسكرية، وخارج أيّ اتهام أساساً؛ لكنها، مع ذلك، تنطوي على امتياز مقاومة مدنية رفيعة صنعها الشهيد بنفسه، لجهة ما بات يُعرف تحت اصطلاح المقاومة بالأمعاء المضربة عن أيّ إطعام سوى حبيبات ملح أو سكّر. وما دام تاريخ الأسر الفلسطيني يبدأ من مطالع تأسيس الكيان الصهيوني، وتوفرت على الدوام ملاحم مقاومة سطرها السجين الفلسطيني من قلب زنزانته، وثلث أبناء فلسطين عرفوا تجربة الاعتقال أو الاحتجاز أو السجن أو الأسر، على نحو أو آخر… فإنّ تواريخ الاحتلال والإخضاع هي، أيضاً وفي آن معاً، تواريخ انتفاض وصمود ومقاومة؛ مقابل «حلم صهيوني» تلهث سردياته نحو أقصى الفاشية.

وسوم: العدد 1031