كَبُر مقتا عند الله أن تُلزِموا غيركم بما لا تَلتزِمون

الحسن جرودي

ما كادت شعوب العالم، التي ضحت بأبنائها لنيل استقلالها، تصدق بإجلاء الاستعمار عن بلدانها، وأنها أصبحت تمتلك حرية اتخاذ قراراتها والتصرف فيها، حتى تبين لها أن تلك الحرية إنما هي حرية ناقصة وشكلية، أكثر منها فعلية، وذلك بسبب الشروط المجحفة التي ساهمت في التوقيع عليها، والقبول بها، مع الأسف، تلك النخب المحسوبة في جزء منها على الفعاليات الوطنية، التي شاركت في مفاوضات "الاستقلال"، كما هو الشأن بالنسبة لمفاوضات سايس بيكو على سبيل المثال، لِتَجِد نفسها مُكبَّلة بقيود استعمار من نوع جديد، لا يَقنَع بالتحكم في مواردها الطبيعية واستنزاف خيراتها، بل أصبح يتطاول عليها في أخص خصوصياتها، ويتدخل إن لم أقُل يفرض عليها نوعَ السياسات التي يتعين نهجها في مجالات حيوية، كالتعليم والصحة والفلاحة... بل وحتى في التعامل مع دينها، الذي يمثل الحصن الأخير الذي تتحصن به، للمحافظة على ثوابتها وخصوصياتها، من خلال إرغام حكامها على التنصيص في دساتيرها على بنودٍ تفسح له مجال التدخل لفرض ما يراه مناسبا لخدمة مصالحه، وما تضمين دساتير جل الدول الإسلامية، إن لم تكن كلها، ضرورة الالتزام بما يسمى المواثيق الدولية، حتى وهي تتناقض تناقضا صارخا مع شعار "الإسلام دين الدولة"، إلا مؤشرا واضحا على أن الاستقلال المُتشَدَّق به استقلالا صوريا لا غير، هذا في الوقت الذي ُيضرب بهذه المواثيق عرض الحائط، كلما كانت لا تخدم مصلحة هذا المستعمِر الذي انبرت مجموعة من المُستلبين، من المحسوبين علينا للدفاع عنه باعتباره المخلِّص لنا من تخلفنا، وهم يعلمون أن خلاص أمةٍ لم يكن، ولن يكون يوما سوى بالاعتماد على النفس، والتمسك بهويتها العقدية وثوابتها الوطنية.

وإذا كان المقال لا يتسع لجرد مختلف التجليات المؤشرة على صورية استقلال شعوب العالم الثالث عموما، والشعوب العربية والإسلامية خصوصا، وأَنها لا زالت لا تملك سلطة اتخاذ قراراتها بنفسها، سأقتصر على بعض الأمثلة المعبرة، التي يمكن أن تنطبق على جل الشعوب، لسبب بسيط هو أن مصدر الإملاءات والقيود ليس سوى مستعمري الأمس الذين يجمعهم، رغم اختلاف جنسياتهم، هدف استبقاء هذه الشعوب في حالة تخلف واستلاب ثقافي، يضمن لهم استدامة هيمنتهم عليها، مستعملين في ذلك كل الآليات، والوسائل ابتداء من الفرنكوفونية والأنكلوفونية والمساعدات الإنسانية... وانتهاء بمنظمة الأمم المتحدة، ومنظومتها:

ختاما أقول بأنه آن الأوان إن لم يكن قد فات، أن تستوعب الشعوب الإسلامية، ومعها كل الشعوب المستضعفة، بأن الغرب بتصرفاته هذه قد ضرب بمصداقيته، وبالأخلاق عرض الحائط، وأن تلك "القيم الكونية"، ما هي إلا آلية للاستحمار، والاستغفال، تسهيلا لسلخها من مقومات استقلالها، ومن ثم ترويضها والسيطرة عليها وعلى خيراتها. ولا يبقى أمامها سوى التشمير على السواعد، وشحذ الهِمم لنيل استقلالها الحقيقي، والتحكم في تقرير مصيرها. ولا يفوتني في الأخير أن أذكِّر الغرب وأذنابه، بأن الاجتهاد في إلزام غيرهم بما لا يلتزمون به أمر ممقوت عند الله وعند الناس، وأن عاقبته إلى زوال طال الأمد أمر قَصُر، ولعل الشاعر المتوكل الليثي قد أحسن التعبير عن ذلك في قصيدته التي افتتحها ب:

يا أَيُّها الرَجُلُ المُعَلِّمُ غَيرَهُ            هَلا لِنَفسِكَ كانَ ذا التَعليمُ

ويختتمها ب:

لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتأتيَ مِثلَهُ                 عارٌ عَلَيكَ إِذا فعلتَ عَظيمُ

وسوم: العدد 1076