الحاكمية بين الإسلام و العلمانية، إذا لمن الحكم؟ رؤية في فكر المسيري الجزء الرابع والأخير

د. براءة زيدان

fddf1125.jpg

توقفت في المقال السابق عند جوهر تعريف العلمانية في فكر المسيري وإذا أراد المرء تفكيكها من المركز إلى السيولة يلاحظ بحسب تعريف المسيري، أنها وحدة الوجود المادية والروحية. لكنها تشطب وجود الله وتدعم قوانين الحركة! بينما نحن كمسلمين نقول لا وجود سوى الله وهو يسري في كل البشر إذا هذه مرجعية كامنة فينا كبشر ومسلمين و مسلمين (بفتح السين) بوجود الله عزوجل وهذا بحسب المسيري، كامن أيضا في الأشياء وتعادل تماما ما هو كامن في الطبيعة! إذا هو قانون واحد الأول لصالح الله و الثاني لصالح الطبيعة وكامن فيها، وهذا يعني أن الطبيعة هي المركز والإنسان هو الهامش! لقد احتج نيتشه على مفهوم الطبيعة والمركز، قائلا:"إذا أردتم علمانية مادية خالصة لابد من إزالة ظلال الله! أحد أهم دعامات العلمانية السوق وهنا تظهر ثنائية السوق و كذلك الإنسان والمصنع لأنه غير منتج! بمعنى نموت ويحيا الوطن! هذه هي المطلقات العلمانية . عند فرويد على سبيل المثال المركز هو الجنس، و عند بنتام هو المنفعة، وعند ماركس هي الطبقة العاملة. إذا صفات المركز العلماني هو الطبيعة المادة لقد طالب نيتشه بإزالتها وهنا دخلت العلمانية الغربية مرحلة السيولة. لا يوجد مركز بالمطلق ولا يوجد مرجعية والأمور عندهم نسبية وهذا يشبه الرواية البوليسية تخمينات للحصول على أدلة، تفضيل حاجة على أخرى، أو تخمين على آخر . لقد حصر المسيري تعريف العلمانية في نطاق واحد و من تعمق في دراسة هذا المصطلح، يرى أن العلمانية في السياق الثقافي لها عشرات التعريفات، ولا يمكن حصرها في تعريف واحد، لقد عرفها محمد أرغون مناضلة الروح تجاه الحقيقة. بشكل عام هناك فضفضة وزئبقية في تعريف المصطلحات يعرفونها على هواهم لا كما يجب أن تكون! هذا مشروع قائم بحد ذاته يحتاج لتحرير وعينا بحيادية ومنطقية. العلمانية تعبر عن وعي مسيحي صرف لا يمكن تطبيقه في بلادنا أو من خلال شريعتنا. لهم دينهم و حكمهم و لنا ديننا وحكمنا . يقول جان جاك روسو أحد أهم مؤسسي الفكر الليبرالي في الحداثة الغربية:" تأتي السلطة المزدوجة تنازع الاختصاص الأبدي، الذي جعل قيام سياسة صالحة أمرا محالا في الدول المسيحية العلمانية، العلمانية لا يمكن أن تنشأ إلا في وسط مسيحي، أما في الإسلام فلا. ذلك أن روح المسيحية قد جرفت كل شئ فظلت الشعائر الدينية على الدوام مستقلة عن السيادة، أو عادت مستقلة عنه، كما كانت لا تربطها بجسم الدولة رابطة عضوية، وأما محمد صلى الله عليه وسلم كانت له تصورات قويمة جدا، فقد شد عرى نسقه السياسي رغم أنه شكل الحكم الذي أقامه استدام في عهد الخلفاء الراشدين، فقد كان واحد هو هو تماما لذلك كان حكما صالحا." إذا الدولة العلمانية في بلادنا الإسلامية مستحيلة التطبيق، علما كل الدول الغربية تحمل في دساتيرها دساتير دينية وروحية وفلسفية وقيم حضارية .

لقد تعامل المسيري مع العلمانية كمصطلح مساوي تماما للادينية! لقد فصل في كتابه العلمانية الجزئية الدين عن السلطة، و هو يفرض العلمانية الشاملة وهذا ما قاله في كتابه العلمانية الشاملة. لم تكن العلمانية حتى قيام الثورة الفرنسية مصطلحا ضد الدين، بل هي فصل رجال الدين عن الدولة وفصل الدين عن الدولة، لم يكن العداء للدين سببا من أسباب الثورة الفرنسية بل نتيجة لها. البعض يعرف هذا المصطلح : التسامح مع حقوق الأقليات، وهذا ما يحدث حاليا في سوريا! الجابري على سبيل المثال لا الحصر، يستثمر في الأرضية الإسلامية ويرفض العلمانية بينما يدخل إليها من باب العقلانية!

أما فيما يخص المسيرى فقد كان علمانيا في العمق، وإن كان أيضا يصوم و يصلي الخ … لكن ربما كثرة استيراده لهذا المصطلح و كذلك كونه كان ماركسيا لمدة ثلاثين عاما، إضافة إلى دراسته في الغرب و بقائه في الولايات المتحدة الأمريكية مدة زمنية ليست بالقصيرة، أثرت على تفكيره وجعلته علمانيا من حيث لا يدري. وهذا حال كثير من المثقفين والأكاديميين العرب، فلم يكن وحده استثناء. لكن كان عبقريا حقا في شرحه النماذج المعرفية بعد المفكرين الفرنسيين، وفي تسليط الضوء على قضايا تلامس حياتنا اليومية دون أن ينتبه لها أحد، و كذلك في نظريته وموسوعته ضد الصهيونية العالمية ودفاعه المستمر عن الحق الفلسطيني، وهذه ظاهرة ازعم أنه لم يسبقه لها أي من المفكرين العرب فيما بعد سوى عزمي بشارة . رحم الله المفكر المسيرى لن اطلق عليه مفكرا إسلاميا لأنه بالعمق لم يكن كذلك. له ما له وعليه ما عليه في الحقل الأكاديمي والفكري، لكنه قدم علما صرفا لم ينازعه عليه أحد من المفكرين والأكاديميين العرب في حينه. وعلينا الانتباه كمثقفين مسلمين ومشغولين بالهم الإسلامي أن نتعلم أكثر عن ثقافتنا العربية، ولا نراها في عيون غربية ونعتمد القرآن كمنهج في السلوك و التربية والاقتصاد والاجتماع والسياسة . فهو كتاب منهجي يؤطر ويؤسس حياتنا بالشكل الصحيح و ليس كتابا للبركة، وهذه نقطة مهمة للغاية أشار إليها علي عزت بيجوفيتش. وتبقى المرجعية العليا لله عزوجل و ليست للخلق وحدهم. إن أول من رفع شعار الحاكمية هم الخوارج. لا حكم إلا لله، مكفرين بذلك من ارتضى التحكيم البشري في قضية سياسية. ورد عليهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه:" إنها كلمة حق يراد بها باطل فلا حكم إلا لله ". ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلا لله وأنه لابد للناس من أمير بر أو فاجر. ثم طوي هذا الشعار الإسلامي إلى أن جاء أبو الأعلى المودودي، ومن بعده من تأثر به وهو السيد قطب. علما أن العلامة القرضاوي يقول:" أن هذه الفكرة ليست اختراعا مودوديا أو قطبيا، بل هي أصيلة في الفقه الإسلامي، قررها علماء الأصول واتفق عليها أهل السنة والمعتزلة جميعا، وبهذا المعنى يقول الحاكمية تنفي أن يكون للبشر قدر من التشريع أذن به الله لهم، إنما هي تمنع أن يكون لهم الاستقلال بالتشريع غير مأذون به من الله. التشريع في العبادات والتشريع الذي يحرم ما أنزله الله أو يسقط فرض الله. أما التشريع فيما لا نص فيه، أو في المصالح المرسلة و للاجتهاد فيه نصيب هذا من حق المسلمين. و لهذا كانت نصوص الدين في غالب الأمر كلية لا تفصيلية، ليتاح للناس أن يشرعوا لأنفسهم، ويملأوا الفراغ التشريعي بما يناسبهم". إن فهم فكرة سيادة الشعب وعلاقتها بالحاكمية بعيدا عن العلمانية، و إدراك طبيعة السلطة في العهدين النبوي والراشدي من الأمور التي تساعد على تقريب وجهات النظر بين الإسلاميين وغيرهم، وعلى بناء نظم حكم حديثة في عواصمنا العربية التي تشهد كتابة دساتير جديدة وأولها بلدي سوريا.

وفوق كل ذي علم عليم .

وسوم: العدد 1125