فخ الهويات وإجهاض المسيرة العالمية نحو غزة

الحسن جرودي

على الرغم من الزخم الإعلامي الذي تحظى به الحرب الصهيونية الإيرانية في هذه الأيام، فإن ذلك لا يمكن أن يحول دون معايشة الأحداث المتعلقة بجوهر هذه الحرب المتجسد في الاحتلال الصهيوني لفلسطين الذي ما فتئت بشاعته تتضاعف يوما بعد يوم، إلى أن بلغت أوجها مع إصراره على مواصلة الإبادة الجماعية لأهل غزة، على مسمع ومرأى العالم. ومن بين أهم هذه الأحداث ما يتعلق ب "المسيرة العالمية نحو غزة" التي يساهم فيها مواطنو أكثر من 80 دولة على المستوى العالمي، وقافلة الصمود التي انطلقت من تونس، والتي تهم بالأساس شعوب المغرب العربي، بالإضافة إلى المسيرة التي كان يفترض انطلاقها من المغرب. ولعل مجريات هذه الأحداث من أهم الكواشف(indicateurs) التي تسمح بتمحيص التصريحات التي يطم بها الخطاب الرسمي لعدد من الأنظمة على مستوى العالم عموما، وعلى مستوى العالم العربي خصوصا، في شأن مساندتها "اللامشروطة" للشعب الفلسطيني. هذا في الوقت الذي عجزت فيه حتى عن توفير رغيف خبز يُقلِّص من حدة الجوع الذي يتضور منه أهلنا في غزة، ولا الحد الأدنى من الأدوية لمعالجة الحالات الحرجة من المرضى والمعطوبين، أما إيقاف عمليات التقتيل اليومي للأطفال والنساء والشيوخ منذ ما يقارب العامين، فلا شك أنه مستثنى أصلا من المساندة حتى على المستوى الشكلي.

وفي غياب أي إجراء عملي يجسد هذه المساندة من قبل أغلب الأنظمة العالمية عموما، والأنظمة العربية على وجه الخصوص، استفاق ضمير أغلب شعوب الكرة الأرضية بعدما تأكدت من وحشية العدو الصهيوني، وعدم إيلائه أدنى اعتبار لا للقيم الإنسانية، ولا للقرارات الأممية، وشرعت في تنظيم مظاهرات شملت حتى الدول المساندة أنظمتها للعدو، هذا في الوقت الذي حُرمت بعض الشعوب العربية من فرصة التعبير الرمزي عن مساندتها للشعب الفلسطيني، في مقابل شعوب أخرى قامت بمئات المظاهرات منذ طوفان الأقصى.

واليوم وقد أتيحت فرصة المشاركة في هذه المبادرة الداعية إلى كسر الحصار، وإدخال المساعدات إلى أهلنا في غزة، وُضعت الشعوب العربية وحكامها على المحك على حد سواء، وعلى رأسها شعوب وحكام دول المغرب العربي التي تنطلق منها قافلة الصمود، ذلك أنه لن يبقى هناك أي مبرر لعدم المساهمة الشعبية في هذا المسعى، ولا لحيلولة الأنظمة دون إنجاحه، بحيث وجب على كل مؤمن بعدالة القضية الفلسطينية، استنفاذ الوسع للمساهمة فيه، بل وفي إنجاحه، ولعل انخراط عدد كبير من المغاربة الراغبين في المشاركة على حسابهم الخاص من جهة، والمحاولات المتكررة التي تم القيام بها للحصول على التأشيرات، وعلى التراخيص التي تسمح بالوصول إلى معبر رفح، من بين المؤشرات التي تُبرهن على تشبث الشعب المغربي بالقضية الفلسطينية، واستعداده للتضحية من أجلها، على غرار ما قام به أجداده عبر التاريخ. في مقابل ذلك وجد هؤلاء المتطوعون أنفسهم أمام عائقين أساسين، الأول يتعلق باستحالة الالتحاق بالقافلة المقرر انطلاقها من تونس برا عبر التراب الجزائري، بسبب الحدود المغلقة، والثاني يرجع إلى تعذر السفر جوا بسبب رفض السلطات المصرية منحهم تأشيرات الدخول إلى "أراضيها".

إذا كانت المسيرة الجوية للمغاربة قد أُجهضت في مهدها، فإن مصير القافلة التي انطلقت من تونس لا يختلف عن مصير المسيرة الجوية، من حيث تحقيق الهدف المتوخى منهما، وذلك بسبب منعها من التقدم من قبل السلطات الليبية التي تسيطر على شرق البلاد، والأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل تعداه إلى اعتقال عدد من النشطاء المشاركين في القافلة التي تم تعريضها إلى "حصار منهجي" بمنعها من الحصول على الغذاء والماء والأدوية، وقطع الاتصالات عنها. ويقع هذا في نفس الوقت الذي تم فيه حسب موقع "فرانس 24" ب"النسبة للمسيرة العالمية" "اعتراض عشرات الناشطين من جنسيات مختلفة، وتعرضوا للاعتداء في بعض الأحيان، كما تمت مصادرة جوازات سفرهم، قبل وضعهم بالقوة في حافلات عند نقاط تفتيش مختلفة، وفق مقاطع فيديو نشرت على وسائل التواصل الاجتماعي أو أرسلت إلى وكالة الأنباء الفرنسية".

لم يعد خافيا على أحد بأن دول العالم الثالث عموما، والدول العربية خصوصا، أصبحت مسرحا لتدخلات خارجية في شؤونها الخارجية والداخلية، مما يندرج ضمنها فشل هذه المبادرة الشعبية، غير أن المسؤولين المباشرين، عوض الاعتراف الصريح بهذه الضغوط، والبحث عن كيفية التخلص منها، عمدوا إلى التبرير الذي أسقطهم في فخ الهويات، حسب تعبير حسن أوريد، وإلا فما معنى أن يلجأ منظمو المسيرة المفترض انطلاقها من المغرب إلى تبني فكرة السفر جوا عوض العبور البري عبر الجزائر، سوى تعصب النظام الجزائري لتصورٍ ضيق للهوية القُطْرية، التي لم تكن لتظهر إلى الوجود لولا معاهدة سايس بيكو، ونفس الشيء ينطبق على وقوف السلطات المسيطرة على الشرق الليبي ضد مواصلة القافلة طريقها، لولا العدوان الغربي الذي أدى إلى تشطير الهوية الليبية إلى هوية شرقية وأخرى غربية، وربما إلى هويات أخرى لا زالت كامنة، ومما لا شك فيه أيضا أن للاختباء وراء الهوية المصرية، التي عبر عنها أكثر من مسؤول، بأن مصر دولة ذات سيادة ينبغي الامتثال للتعليمات الصادرة عنها، دور حيوي في منع الالتحاق بمعبر رفح.

ختاما أقول بأن الهويات القطرية أصبحت واقعا يصعب تجاوزه في الوقت الراهن، وهي ليست عيبا في حد ذاتها، لو تم إدماجها ضمن هوية أشمل، على صيغة هوية الاتحاد الأوروبي، التي استوعبت هويات أوروبية مختلفة، على الرغم من المعطيات التاريخية واللغوية...التي تُعتبر عوائق حقيقية لنشوء مثل هذا النوع من الهويات، وهذا على العكس من المعطيات التي تتقاسمها شعوب مختلف البلدان العربية والإسلامية، ومع ذلك فلا هوية الأمة المؤسَّسة على مبادئ الدين الإسلامي وقيمه السمحة، ولا الهوية العربية التي صيغت في المغرب، وأزعم أن نفس الشيء ينطبق على بلدان المغرب العربي، على أساس الانتساب وليس العرق، كما عبر عن ذلك المفكر الجزائري عبد الحميد بن باديس في البيت الشعري التالي:

شعب الجزائر مسلم                 وإلى العروبة ينتسب  

قلت ومع ذلك فلا هذه الهوية ولا تلك، استطاعت أن تشفع لشعوب المغرب العربي على وجه الخصوص، لتجاوز هذه الهويات التي استنبتها الاستعمار منذ معاهدة سايس بيكو، والتي يعتبر تبنيها من قبل الأنظمة مع الأسف برهانا على أن زمان الأمة بمفهومها الشامل قد ولى، في مقابل الأمة القطرية التي ما فتئ كل نظام يَتغنى بها، في انسجام تام مع قول الشاعر: " كل يَدَّعي وَصلاً بليلى          وليلى لا تقرّ لهم بذاك". وهو البيت الذي اشتق منه المثل العربي "كل يبكي على ليلاه"، فإلى متى يستمر البكاء على ليلى، والكل يعلم أن السير وراءها لا يؤدي إلا إلى الهلاك الذي يأتي على الأخضر واليابس.

وسوم: العدد 1128