التصعيد في المتوسط: اليونان تستفز ليبيا والخلفية إسرائيلية

سيد أمين

عود إلى بدء، فبعد فترات قصيرة من الهدوء الحذر، عادت أزمة المناطق الاقتصادية في البحر المتوسط للتفجر مجددًا، بعدما أرسلت اليونان قطعًا بحرية بالقرب من الشواطئ الليبية بزعم منع أعمال الهجرة غير الشرعية الوافدة من الجانب الليبي، في حين اعتبرت السلطات الليبية في طرابلس أن هذا الإجراء مجرد ذريعة لأعمال أكثر عدائية.

فقد تواكب إرسال اليونان لتلك القطع البحرية مع فتحها الباب لعطاءات للشركات الأجنبية للتنقيب عن النفط والغاز جنوب جزيرة كريت، وهي المنطقة التي تقع ضمن المناطق الخاصة بالحقوق الاقتصادية الليبية، مما دفع حكومة الوفاق الليبية الشرعية لاستنكار وإدانة هذه الإجراءات، ثم كانت المفاجأة في إعلان حكومة بنغازي هي الأخرى إدانتها للإجراءات اليونانية، على خلاف مواقفها السابقة، ووقوع ملاسنة بين مندوبي البلدين في الأمم المتحدة.

وطبقًا للمادة (55) في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982، يحق للدول الاستفادة من الثروات العميقة حتى 200 ميل بحري من سواحلها، وبموجب ذلك يصبح لليبيا وجزيرة كريت فقط الحق في استغلال موارد هذه المنطقة اقتصاديًّا، حيث لا تبعد الجزيرة إلا 160 ميلًا فقط عن السواحل الليبية.

ودخلت تركيا على خط النزاع بعد توقيعها اتفاقية الحدود البحرية مع ليبيا في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، التي نصت بنودها على حماية الحقوق البحرية للبلدين وفق القانون الدولي، مع بسط السيادة على المناطق البحرية، وتعزيز التعاون الأمني والعسكري بين البلدين، وتنمية قدرة الحكومة الليبية على بسط نفوذها وحماية حدودها، والتأسيس لمهام التدريب والتعليم. وقد أصبح هذا الاتفاق متوافقًا مع القانون الدولي بطرحه على المؤسسات الدولية المختصة.

وكانت المفاجأة الأخرى التي قدمتها حكومة بنغازي في هذا الشأن هي تغير موقفها من الرفض التام، متعللة بأنها تناقش مساحات تقع ضمن حدود الشرق الليبي البحرية الخاضعة لها ولا يحق لحكومة غرب البلاد توقيع اتفاقات بشأنها، إلى إعلانها موافقتها عليها، مما يعكس الدور الذي تمارسه تركيا خلف الكواليس لجسر الهوة وتقريب وجهات النظر بين حكومتي البلاد.

في الوقت الذي يُعتقد فيه أن الغرض من هذا التحول هو فقط كسب المزيد من الأصوات القوية الداعمة لهذه الحكومة وتخفيف حدة الانتقادات لها في الداخل والخارج.

الشرق الأوسط الجديد

هناك الكثير من التصورات السياسية حول دوافع اليونان من هذا التصعيد المفاجئ، وهي الإجراءات التي قد يكون المقصود منها استفزاز تركيا أكثر من استفزاز ليبيا، وإعادة تنشيط تحالفات جديدة في المنطقة، استعدادًا لموجة جديدة من التصعيد.

لا يمكننا أبدًا أن نأخذ الأمر بمعزل عن الأوضاع السياسية الراهنة في الشرق الأوسط، وقيام مسؤولين إسرائيليين بالإعلان صراحة بأنه بعد الانتصار على إيران فإن الدور القادم سيكون الحرب على تركيا، مع شعور تركي بسعي إسرائيل لمحاصرتها. وقد عبر عن ذلك قول وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، في قمة منظمة التعاون الإسلامي: “لا توجد مشكلة فلسطينية أو لبنانية أو سورية أو يمنية أو إيرانية، لكن من الواضح أن هناك مشكلة إسرائيلية”.

وهناك العديد من بؤر الصدام التركي الإسرائيلي، أولها تبنّي تركيا للحكومة السورية الجديدة سياسيًّا وعسكريًّا، وحدوث عدة مناوشات حذرة وغير مباشرة بين طيران البلدين في السماء السورية. ومنها التصريحات الإعلامية للرئيس أردوغان العام الماضي بأن الأتراك قد يتدخلون لنصرة غزة كما تدخلوا لتحرير إقليم “ناغورنو قرة باغ” الأذربيجاني.

ومنها اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا التي تعتبرها إسرائيل استفزازًا لليونان التي شكلت معها ومع دول أخرى حلفًا عسكريًّا.

ومنها اعتقاد أن تركيا دعمت إيران في الحرب مع إسرائيل وأمدتها بمعلومات استخبارية قيمة، والأهم من كل هذا أن إسرائيل ترى قيام تركيا بدور مشابه للدور الإيراني الرافض لانفراد إسرائيل بالشرق الأوسط.

ويقلق أثينا وحلفاءها أيضًا تنامي العلاقات التركية المصرية بعد فترات من القطيعة، بما تخشى معه أن تفاجئها القاهرة بمواقف تشبه المواقف التي اتخذتها حكومة شرق ليبيا من اتفاق تقسيم الحدود البحرية، خاصة أن تركيا تداخلت في ملفات عديدة تهم صميم المصالح المصرية، منها ملف سد النهضة، الذي عرضت أنقرة قيامها بدور الوساطة فيه لتسوية النزاع مع إثيوبيا بما يضمن تحقيق المصالح المصرية.

وكذلك الدور التركي الداعم لوحدة الأراضي السودانية وحكومتها الشرعية، وإعادة الاستقرار لها، وهو ما يعني وقف تدفق اللاجئين السودانيين إلى مصر، مع تنامي العلاقات الاقتصادية بين البلدين بطريقة كبيرة.

أزمة داخلية

طبعا، قد يكون لليونان دوافع أخرى، منها تعزيز اقتصادها الذي عانى في العقدين الماضيين من إجراءات تقشف شديدة لسداد ديون خارجية وداخلية هائلة، قبل أن تخرج منها نحو الاستقرار المالي، لكنها بحاجة لمزيد من الموارد لتجنب العودة إلى الأزمة.

لجأت الحكومة اليونانية للمناورة واستعراض العضلات وتعزيز الادعاءات عبر هذه الإجراءات من أجل الحصول على مكانة أكبر في أي تسويات اقتصادية مستقبلية لدول الحوض قد تحدث، خاصة مع معلومات أمريكية قدّرت احتياطات غاز البحر المتوسط بنحو 8 تريليونات متر مكعب، وهو رقم كبير للغاية كفيل بسد احتياجات الدول المستفيدة لعشرات السنوات.

وسوم: العدد 1128