النقد البنّاء سبيل تقدم ورفعة المجتمعات

م. أسامة الطنطاوي

النقد البنّاء سبيل تقدم ورفعة المجتمعات

م. أسامة الطنطاوي

[email protected]

النقد هو شرط النهوض الحضاري ، وهو الآلة الفاعلة لتنقية الطريق أمام حركة المجتمعات والشعوب ، ولإزالة العقبات أمام المسار الإصلاحي ، لأن هذه الرغبة النقدية تظل وقفية لكل جهة ضد الأخرى ، ولتمييز عيوب الآخر دون النظر إلى عيوب الذات

وعلى المستوى الثقافي فيمكن الإشارة إلى كم هائل من المقولات التي يعتنقها كل فريق ويرى صحتها ويرفض أي مساس بها ، بينما يسمح لنفسه أن ينتقد مقولات الآخرين ويستبيح مسلماتهم دون تحفظ أو مراجعة تذكر ، كما تتم عملية تأويل أحداث التاريخ بطريقة إنتقائية وعلى خلفيات صراعية ، مما يضفى على الرؤية التاريخية للمذاهب استاتيكيّة صارمة

و عند مراجعة  عدد من كتب التراث تطالع الباحث باستمرار أحاديث وسير وروايات غير قليلة تتناول أهمية النقد وضرورة حساب الذات والنفس ، و ضرورة تعميق الروح النقدية في مفاصل اجتماعنا السياسي والمدني الحالي، وإعلاء كلمة العقل، وترسيخ مبدأ العقلانية الواقعية، والعمل على إيجاد تربته المناسبة.

 وذلك من أجل الكشف عن حقيقة أزمات الواقع المعاصر الذي نحياه ونعايشه بإيجابياته وسلبياته، وتحليل ظروفه وأحواله المختلفة، وأخذ العبر والدروس منه، بحيث يقودنا ذلك إلى ضرورة تجديد الروح الإسلامية والعقل الإسلامي، والانفتاح على العالم والحياة، واعتماد مبدأ الاجتهاد والتجديد والروح العلمية المجردة، والرؤية الموضوعية للذات والإنسان وللعالم بشكل دائم.

وقد يظن البعض أن هذا الحديث محصور بالجانب العاطفي الوجداني (النفسي) من حياة الإنسان، لأنه يحضه على ضرورة التزام النقد والمحاسبة على صعيده الذاتي فقط، ولكن المسألة هنا هي أنَّ ذاتية الإنسان غير منفصلة بالمطلق عن خارجيته، إذ إننا نجد أن حركة الإنسان وفعالياته ونشاطاته مرهونة ومعلولة بمعظمها لطبيعة تصوره ومفهومه عن الحياة والوجود كله، مما يعني أن وعي الإنسان وإدراكه لواقعه الخارجي هو -في الإجمال- وعيٌ لذاته، وإدراكٌ لمفاهيمه ولأفكاره وتكيفٌ مع الواقع الخارجي.. وإلا فإنه سيصبح عاجزاً تماماً عن السير من حالة إلى أخرى أكثر تطوراً وكمالاً في حركة الحياة.

من هنا بالذات كان اهتمام وتركيز الإسلام  منصباً على فكرة التربية، أي الحض على ممارسة الفرد لمختلف أساليب وطرائق الإعداد الروحي والبناء الأخلاقي المتين، وتوعيته على حقائق الحياة والوجود، كجزء أساسي من مسيرته التكاملية نحو تمثل قيم العدل والتوازن والمساواة في السياسة والاجتماع والاقتصاد و.. الخ.

وقد استفاض العلماء والمفكرون في الشرح والحديث عن أهمية بناء النفس وتنمية الروح (والأخلاق المعنوية الذاتية) كمقدمة وأساس لبناء وتنمية الواقع الخارجي، ليكون بالتالي تغيير ما بالنفس هو الأساس لتغيير ما بالواقع.

ومن هنا جاء تركيز الإسلام على ضرورة تعميق منهج وخط الإعداد الروحي عند الإنسان المسلم ليكون ذلك مقدمة لازمة حيوية لتغيير الحياة والواقع في الاتجاه الذي يحقق كرامة الإنسان وعدالة الحياة والوجود.

ولعل من أبرز تجليات هذا التوجه في طبيعة العمل التغييري الخارجي هو في سلوك وممارسة حق النقد والذي يستلزم في هذا السياق ، عملية أخرى و مفهوم آخر الا و هو مبدأ المساءلة التي هي من أهم عوامل و أساسيات النجاح، سواء للفرد أو الأسرة أو المؤسسة أو المجتمع و الدولة ، و المساءلة هي غير النقد ، و لكنها السبب أو الأداة التي ينبثق منها النقد و يخرج من رحمها. فالمساءلة هي عملية تقييم للأداء و السلوك و العمل ، هل هو صحيح أم خاطئ ؟؟ هل هو ناجح أم فاشل ؟؟ جيد أم سيء ؟؟. بينما النقد هو عملية الإشارة إلى الخطأ الظاهر عن عملية المساءلة و توضيحه و تبيان أسبابه و عوامله

ذلك كله يقودنا في سلسلة منطقية عقلانية ، إلى مفهوم آخر يمكن من خلاله أن نعبر إلى منهج الانتقاد و المساءلة الصحيحين.. و هذا المفهوم هو الشفافية.... والذي يقوم بالإضافة إلى دوره في تمييز الخطأ من الصواب ، فإنه يمنع ارتكاب الخطأ و في حالة تم ارتكاب الخطأ فإنه يبدأ بالوخز و اللوم والتنبيه حتى يتم العدول عن هذا الخطأ

و لا يجوز أن نبدأ بالشفافية مع غيرنا قبل أن نبدأها مع أنفسنا ، و لا يجوز أن ننتقد غيرنا قبل أن ننتقد أنفسنا ، مطبقين الحكمة القائلة « من نصب نفسه للناس إماماً ، فليبدأ بتعليم نفسه و تأديبها قبل تعليم الناس و تأديبهم ، ومعلم نفسه و مؤدبها أحق بالطاعة من معلم الناس و مؤدبهم «. 

بناء عليه ، لا يجوز لمن يرتكب الخطأ مع نفسه أو مع غيره أو مع مجتمعه، أن يـوجه النقد لغيره , ولا يجوز لكل مستهتر و غير مبال أن ينتقد

ولذلك ليس هناك من أمل للخروج من هذه الأزمة إلا بتوجيه سهام النقد الموضوعي إلى الجذور النفسية والفكرية التي أنتجت وولدت هذه الحداثة وواقعها الراهن، وتهيئة شروط جديدة لتجاوزها، والخروج من أخطارها العقيمة.

وحتى تسترجع مجتمعاتنا صدقيتها الداخلية والخارجية –على صعيد بناء وجودها العملي الفاعل والمؤثر- ليس لها من سبيل سوى ارتفاع نخبها الفكرية والسياسية إلى مستوى المرحلة والتحديات الكونية الهائلة، واستعادتها لمعاني المسؤولية الوطنية، والعودة إلى اعتماد طريق الإدارة الحديثة القائمة على معايير الكفاءة والنزاهة والقانون والنقد الموضوعي وتكافؤ الفرص، بدل معايير الزبونية والمحسوبية والعلاقات ما قبل وطنية.