متى ينسحب هؤلاء ؟؟
متى ينسحب هؤلاء ؟؟
كاظم فنجان الحمامي
انسحبت الفلول الامريكية من أرض العراق المقدسة, وذهبت في (ستين داهية), وغادرتنا الجحافل المؤازرة لها والمتحالفة معها, وانسحبت قبلها عصابات البلاك ووتر, ولم يعد للمارينز أي تواجد ملموس في المديات المنظورة عند مقتربات المدن والقصبات. .
فنحمد الله ونشكره على اختفاء القوافل اللوجستية الجرارة, التي كانت تجوب الطرق الدولية الرئيسة داخل العراق, تزعجنا بعجلاتها المدرعة, تستفزنا بآلياتها المصفحة, وشاحناتها العملاقة, وأنوارها الساطعة, وصهاريجها الخطرة المعبأة بمواد سريعة الاشتعال من كل صنف ونوع, وتلاشت المظاهر الأجنبية المسلحة من المطارات والمنافذ الحدودية والمراكز الحساسة. .
لكننا مازلنا نواجه في مدننا تعزيزات عسكرية من نوع آخر, ويدب في قلوبنا الرعب كلما شاهدنا تلك المظاهر المسلحة, التي فرضها علينا جيراننا الذين حالفهم الحظ في ارتقاء المناصب الحكومية العليا. .
تواجهنا صعوبات جمة, من النوع الذي لا يمكن أن يخطر على بال سكان كوكب الأرض, حيث يتعين علينا أن نمر بسلسلة من المعوقات اليومية غير المسبوقة, مصحوبة بمنغصات, وتصرفات استفزازية عجيبة, حتى صار من المتعذر علينا العودة إلى بيوتنا, أو الوصول إلى مواقع أعمالنا عبر الطرق السالكة, بسبب انتشار الثكنات العسكرية, التي أقامها أصحاب المعالي والرفعة والوجاهة واللياقة والسمو وسط الأحياء السكنية وبين الأزقة الضيقة, فتكاثرت الكرافانات (البيوت الجاهزة) حول مساكن المدراء والوزراء والنواب والسفراء, الذين حصّنوا بيوتهم بالكتل الكونكريتية العملاقة, ففرضوا العزلة على أنفسهم, وبسطوا نفوذهم على الأرصفة والأزقة الخدمية, وأغلقوا مداخل الطرق المؤدية إلى منازلهم, ووزعوا نقاط التفتيش المعززة بالحراسات المسلحة على الجهات الأربعة, تمادوا في استعراض القوة, نشروا الحواجز الكونكريتية, والأسلاك الشائكة, والعوارض الأنبوبية, والمعرقلات البلاستيكية, والمطبات الحجرية, ونصبوا حول بيوتهم مجموعة من الأبراج والكاميرات المخصصة للقيام بمهمات الرصد والمراقبة. .
يتصرفون وكأنهم لهم الحق المطلق بغلق الشوارع والفروع والأرصفة, ولهم الحق بتطويق منازلهم بمجموعة من العناصر المدججة بالأسلحة النارية الفتاكة المحشوة بالذخيرة الحية, فاستعانوا بالكشافات الضوئية المخصصة لملاعب كرة القدم, ثبتوها حول أركان دورهم ومكاتبهم, حتى صرنا لا نستطيع الخروج من بيوتنا, ولا التجوال في الطرق التي كنا نسلكها قبيل استحواذ هؤلاء على المناصب العليا, فتعثرت خطواتنا, وتغيرت خارطة مدينتنا, تقطعت أوصالها أربا أربا, انقلبت معالمها الجغرافية رأسا على عقب, فتشوهت صورة ضواحينا, وتحولت إلى ثكنات حربية, ومعسكرات قتالية تحتشد فيها الهمرات, تصول فيها المصفحات والمدرعات, تصطف على أرصفتها العجلات الحديثة ذات الدفع الرباعي. .
تتجمع المواكب الاستفزازية حول بيوتنا, لتنطلق في الصباح بسرعات صاروخية, وحركات جنونية, تمهد طريق حضرة جناب جارنا السلطان, وهو يغادر منزله الحصين في موكبه المهيب, تحف به السيارات المدرعة الفارهة بصفاراتها وضجيجها وصخبها. .
كان جارنا الوجيه مواطنا بسيطا معروفا بتواضعه وبساطته قبل أن يصبح سلطانا, كان متميزا بنبله ودماثة أخلاقه, لكنه حالما جلس على عرش السلطنة حتى بان على حقيقته, فتخلى عن بساطته, التي كان يتظاهر بها, ولم يعد يحمل أي صفة من صفات التواضع, ليس لأنه صار في رتبة أعلى, ولا لأنه أصبح سلطانا, بل لان الشيطان غرس في قلبه فيروسات جنون العظمة, وانتزع من روحه خصلة التواضع, فعزل نفسه عنا, وتنكر لنا, وتقوقع في دوائر التكبر والتجبر, وصار في نظرنا مجرد سلطان مؤقت في طريقه إلى الفناء والانقراض, لكنه مازال يتمتع بصلاحياته المؤقتة, ويتباهى بخصاله الاستعلائية, التي لا مكان لها إلا في الغابات والمستنقعات حيث الأقوياء ينتهكون حقوق الضعفاء, بينما راح الناس يتندرون ويتهكمون على أمثال هذه الدفعات الجديدة من السلاطين والأباطرة, الذين اقفلوا الشوارع, وأغلقوا الطرق, وخنقوا الأزقة, واستحوذوا على محرمات الأرصفة. .
انتشرت هذه الظاهرة في عموم المحافظات العراقية, وصارت موضة من الموضات البرمكية المزعجة. تفننت بها شرائح ومجاميع لها مكانة مرموقة في المؤسسات القوية, بل أنها صارت من المظاهر الشائعة المنتشرة حول بيوت المسئولين ومكاتبهم, واللافت للنظر أنها ظلت تُمارس من قبل المسئولين السابقين, والمحالين منهم إلى التقاعد, وصار بعض رجال الدين يمارسونها أيضا, ولكن على نطاق ضيق. .
فمتى ينسحب هؤلاء ؟؟, ومتى تُزال أغطية الخوف والذعر ؟؟, ومتى تتلاشى الانتهاكات الأمنية السافرة من مدننا وقرانا وأحيائنا السكنية ؟, ومتى تختفي المظاهر العسكرية من المدن العراقية ؟؟, ومن ذا الذي منحهم الحق بانتهاك حرمة المدن وتحويلها إلى ثكنات ومشاجب ؟؟, ومن الذي سيجبرهم على إخلاء الطرق والشوارع والساحات ؟؟, إنها مجرد أسئلة نطرحها على أسيادنا الجدد, بانتظار الإجابة. . .