مع كلمة د. عماد الدين خليل

د.عدنان النحوي

في مجلة الأدب الإسلامي العدد (52) 1427هـ /2006م

بعنوان : ترشيد خطوات الأدب الإسلامي

د.عدنان علي رضا النحوي

www.alnahwi.com

[email protected]

 أولاً أشكراً أخي الكريم الدكتور عماد الدين خليل الأديب الداعية والمفكر المسلم ، على هذا الموضوع الهام الذي يعرضه في كلمته بعنوان : " ترشيد خطوات الأدب الإسلامي " . وأشكره على النقاط الهامة والقضايا المؤثرة التي طرحها في كلمته الموجزة . ولكن هذا الإيجاز جعله يكتفي أحياناً بجمل عامة جميلة لا ترسم خطوات ترشيد تطبيقية ، ولكنها تفتح باباً للنصح والتعاون طالما أُغْلِق في حياة المسلمين .

 ومن هذا الباب فلنا بعض الملاحظات التي نرجو أن تضيف إلى باب التناصح والترشيد والتعاون من أجل وضع خطوات عمليّة متجددة في مسيرة الأدب الإسلامي .

 يبتدئ أخي الكريم الدكتور عماد الدين حفظه الله كلمته بالدعوة إلى " أن لا نبقى ثابتين في مواقعنا كي نمضي دائماً إلى الأحسـن والأصـوب ... " ويقول : " من أجل أن لا تُشَدَّ أعناقنا إلى الماضي بأكثر مما يجب " ! ويقول كذلك : " على المسلم أن يكون في قلب العصر ما وسعه الجهد وأن يكون مستقبلياً . " مبادئ عامة لا نختلف عليها ونؤيد أخي الكريم بالدعوة إليها مع إضافة بعض الملاحظات التي نرجو أن تعين على مبدأ الترشيد ، وذلك بما يلي :

أولاً : لا بد أن يكون بين يدي المؤمن وهو يمضي إلى الأمام ، إلى الأحسن والأصوب ، ميزان ربّاني أمين دقيق يحدّد له الصواب من الخطأ ، والحق من الباطل ، والجوهر من الزخرف ، حتى لا تزلَّ خطواتنا بين تيارات عنيفة ضاغطة وزخارف مغرية وفتن هائجة .

ثانياً : أن يكون هنالك هدف عظيم واضح محدّد يشدَّ القلوب والأَبصار إِليه أثناء المسيرة . وهذا الهدف هو الهدف الأكبر والأسمى لكل مسلم لا يستطيع بلوغه إلا على صراط مستقيم بيّنه الله لنا وفصله ، يحمل أهدافاً ربانيّة ثابتة تكون منارات على الدرب . هذا الهدف الأكبر والأسمى هو الدار الآخرة والجنّة ورضوان الله . ولا بد من التأكيد على هذا الهدف الأكبر والأسمى أثناء التطلع إلى المستقبل أو الالتفاف إلى الماضي أو النظر في الحاضر ، ولا بد من الميزان الرباني للمؤمن ، وحتى لا ينحصر نظرنا في المتطلبات الماديّة ومغرياتها في الحياة الدنيا ، لنرعى بذلك مصير المسلم الفرد ومصير الأمة كلها ، ومصير البشريّة كلها ، التي اختار الله الأمة المسلمة لتبلِّغها رسالة الله وتتعهّدها عليها .

 لقد أصبح شعار الواقع اليوم وشعار المستقبل في كثير من مواقعنا اليوم دعوة إلى مجاراة الغرب في إنجازاته الفكرية والعلمية والصناعية المادّية ، ويكاد الشعار يحصر الجهود والعزائم في التصور المادّي لهذه الإِنجازات . فمسؤوليتنا نحن المسلمين أن ندفع هذه الإنجازات إلى مسيرة ربَّانية إِيمانية تربط الماضي والحاضر والمستقبل بالهدف الأكبر والأسمى ، بعد أن نُنَقِّيها من كل مفاسدها المادية واستعمالاتها الإجرامية .

 ويدعو أخي الكريم د. عماد الدين إلى ضرورة التطلّع إلى المستقبل ، ويضرب المثل على ذلك بالغرب الذي صرنا نشهد في معاهدهم وجامعاتهم ، كما يقول د. عماد الدين ، أقساماً علميَّة للمستقبليات .نعم ! ولكن الغرب لا يصلح لنا أن يكون مثلنا في النظر إلى المستقبل وفي دراساتهم المستقبلية العلمانيّة المادية التي لا تفكّر في الموت والدار الآخرة والغيب الذي لا تؤمن به ، ولا يدخلونها في توجيهاتهم وتربيتهم وبنائهم للإنسان والأجيال المتدفّقّّة على الميدان ، ولا في بنائهم للمجتمع ، ولا في علاقاتهم مع الآخر . إننا نريد أن ننطلق في نظرتنا المستقبلية من نظرة إيمانيّة ربّانيّة يأمرنا بها الله سبحانه وتعالى حين يجعل نظرتنا تُؤْثر الدار الآخرة على الدنيا حتى لا نكون كالآخرين الذين يأخذون بالدنيا ويذرون الآخرة :

( الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) [ إبراهيم :3 ]

 ( كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ . وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) [ القيامة :21،20]

 ( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) [ الأعلى :17،16 ]

 وآيات أخرى كثيرة وأحاديث شريفة تلحّ بهذه القضيّة إلحاحاً شديداً ، حتى يؤثر المؤمن الصادق الدار الآخرة على الدنيا . وليس معنى هذا الإيثار إهمال الحياة الدنيا ، ولكن ذلك يعني أن يكون كلُّ سعيٍ للمؤمن في الحياة الدنيا : من أداء الشعائر وطلب العلم من الكتاب والسنَّة واللغة العربية أًساساً لطلب سائر العلوم ، وطلب الرزق أو الصناعة أو الأدب أو غير ذلك ، عبادة خالصة لله سبحانه وتعالى وحده يرجو بها رضاه وجنته والدار الآخرة ، ويتزوّد من الدنيا بكل زاد طاهر يعينه على بلوغ الآخرة . وأما إيثار الدنيا فيعني أن تصبح الدنيا غاية ما يرجوه الإنسان ، وخلاصة أهدافه ، تستهلك جهوده وطاقاته في جوٍّ من التحاسد والتنافس ، كما نرى كثيراً من النماذج في واقعنا اليوم ، فتنزلق النفوس إلى الانحراف عن الإسلام تحت شعار الإسلام .

 وحتى تستقيم النفوس على نهج الإسلام ولا تنحرف عنه لا بدّ من التربية والإعداد والبناء المستمرّ المتواصل من خلال نظرية التربية الإيمانية ومناهجها النابعة من حقيقة الإيمان والتوحيد ، ومن منهاج الله ـ قرآناً وسنة ولغة عربيّة ـ ومن مدرسة النُبوّة الخاتمة ، حتى تستقرَّ حقيقة الإيمان في القلوب ، فيروي الإيمان فطرة الإنسان ريّاً متوازناً ، يطلق قواها وغرائزها لتؤدّي المهمة التي خلقها الله لها ، ويروي الحوافز الإيمانية والمبادرات الذاتية ، ويجلو البصر ليرى الحق ، ويروي نشاطه كله عروقه وأعضاءه وجوارحه .

 ويتعرّض أخي إلى الحداثة يكشف فيها ما تحمل الحداثة من تصورات مخالفة للإسلام وما تحمل من ضلال ومفاسد . فجزاه الله خير الجزاء حتى لا تظل الحداثة ومذاهبها أبواب فتنة كما هي اليوم لبعضهم . ولكنه يقـول بعد ذلك : " ولكن يجب أن لا يحجب هذا عن بعض الجوانب الإيجابيّة التي تمثّل خبرات جيدة ... " ! وأختلف مع أخي د. عماد الدين في هذه الناحية . وحسبنا في ذلك ما يقوله كثير من رجال الحداثة : " من أن الحداثة كلٌّ لا يتجزأ فإما أن تؤخذ كلها أو تترك كلها " ! وأرى أن هذه قاعدة عامة في جميع المبادئ خيرها وشرّها ، حيث تكون قواعدها ومبادئها متماسكة كلها فيما بينها على شرٍّ وفساد أو خير وصلاح . وكل ناحية أو فرع أو جزئية هي نابعة من المبدأ نفسه مرويّةٌ بمائها وغذائها ، لا يمكن فصل الجزء عن قاعدته وأصله ، ويظلُّ ما نحسبه إيجابيّاً في زخرفه ملوَّثاً بالفساد الذي تحمله القاعدة فيها ، وبالشرّ الذي يحمله المبدأ وينشره في جميع أجزائه وجزئياته . وإن كان المبدأ خيراً فإنه يبث خيره في كل أجزائه ، حتى لا يصلح فصل شيء منه عن أصله . ونرى أن هذه قاعدة ثابتة في جميع المبادئ ، ولذلك جاء قوله سبحانه وتعالى :

( ... أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) [ البقرة :85]

 هذه ناحية ، والناحية الأخرى التي تثير العجب هو كثرة الدعوة بين المسلمين اليوم إلى الأخذ من أفكار الغرب . فلقد أخذنا الكثير من فكره وعاداته ولباسه ، رجالاً ونسـاءً ، فما أفدنا من ذلك بشيء إلا أن زدنا ضعفاً وهواناً وهزائم . وأؤكد أن كلّ ما زينته الزخارف لنا من أفكار الوثنية والعلمانية وأمثالها لم نكن بحاجة إليه ، فمنهاج الله قادر بفضل الله على أن يظلّ يمدّ المؤمنين بكل ما يحتاجونه من فكر وغذاء وافرٍ كافٍ ، أطيب وأطهر وأغنى .

 وأودّ أن أشير إلى أني تناولت معظم نواحي الفكر الغربي وأدبه بدراسات مفصَّلة ، ورددت على ما فيها من زخرف كاذب بالبينة والحجة من آيات وأحاديث أغنتني عن أيّ حجة أخرى ، فما وجدت في ذلك شيئاً نحتاجه اليوم لننجو مما نحن فيه من ذلّة وضعف وهوان ، وزاد يقيني بسبب هذه الدراسات بما كنا نردده من أن منهاج الله حقٌّ متكامل يغني البشرية في كل زمان ومكان . وعجبت كيف أن الله منّ علينا بكنز عظيم لا مثيل له بين الأمم كلها ، ثم نتركه أو لا نكتفي به لنأخذ من زخارف كاذبة لا تغني في الدنيا ولا تنجي في الآخرة يوم البعث والحساب . ولكن يجب أن نأخذ من الغرب والشرق ومن أيّ أمة ما نحن بحاجة إليه من علوم وصناعة وأسباب القوة الحقيقية .

 وقضيّة أخرى نجدها في كثير مما يكتب في مثل هذه الموضوعات ، حيث ينحصر الحديث فيما يمكن أخذه من الغرب ، ولا يُتَطرَّق إلى ما يجب أن نعطي الغرب وسواه ، فكأنّ دورنا هو أن نأخذ وأنه لا شيء لدينا نعطيه ، فتهاون الكثيرون عن العطاء . والبشريّة كلها بأمسّ الحاجة إلى ما نقدّمه من فكر ودين .

 إنّ المواهب المؤمنة ، إذا انطلقت بإيمانها الصافي وعلمها الصادق تخوض الواقع بهذا الزاد العظيم ، نستطيع أن تقدّم روائع الإبداع لخيرنا وخير البشريّة كلها . ولكننا نحن قتلنا كثيراً من مواهبنا وطاقاتنا بانحرافاتنا التي استهلكت كثيراً من جهودنا وقدراتنا .

 ويحسن أن نقف وقفة قصيرة مع مصطلح الحداثة من وجهة نظر الكتاب والسنة . ذلك أنه لما نـزل القرآن الكريم وجاء الإسلام جديداً على الجاهلية وفكرها ، سّماه القرآن الكريم محدثاً ولكنه الحق :

( مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ) [ الأنبياء : 2 ]

( وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ) [ الشعراء : 5]

 ولما استقرّ الإسلام في القلوب واستقرّ حكمه في الواقع وسادت مبادئه حقّاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، أصبح كلُّ ما يخالف الإسلام محدَثاً باطلاً كما جاء في الحديث الشريف الذي يرويه عن الرسول r العرباض بن سارية : " ... فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً . فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي . عضّوا عليها بالنواجذ . وإياكم ومحدثات الأمور فإنه كل بدعة ضلالة "

[ أخرجه أَبو داود والترمذي وقال عنه حسن صحيح ، وأخرجه ابن ماجة ] (1)

 لقد منّ الله على البشرية بهذا الدين العظيم وأمر المؤمنين بدراسته وتدبّره ، والتزامه والعمل به ، ثم أمرهم بتبليغه إلى الناس كافّة كما أنزل على رسول الله r وتعهدّهم عليه ، فما بال بعض المسلمين في عصرنا الحديث يستبدلون دعوة بدعوة ، وتبليغاً بتبليغ , فحيناً يدعون إلى الاشتراكية ، وحيناً يدعون إلى العلمانيّة دعوة صريحة جريئة حتى قال أحدهم : لا نملك إلا أن نندمج بالنسيج الثقافي والديني الفرنسي " ! ومثل ذلك كثير . وحيناً يدعون إلى هذه الدعوة أو تلك ، حتى طغت هذه الدعوات لدى بعْضهم على الدعوة إلى الإسلام ، وصار الخلاف بين المسلمين نابعاً حول مواقفهم من هذه الدعوات المختلفة ، يغذيها إعلام قوي وطوفان جارف ، بعد أن تآكل بعض هذه الدعوات في الغرب ونسوها وتركوها ، فتمسَّك بعضننا بها .

 ويقول أخي الكريم د. عماد الدين : " أن البنيوية ، على سبيل المثال ، تملك قدرة فائقة في مجال النقد التطبيقي من خلال اختراقها للنص ...! " وأرى أنه إن كان للبنيوية من خطأ قاتل فهو في ميدان اختراقها للنص . حيث حاولت اختراق النص القرآني بنفس الأسس النقدية التي تخترق بها نصوصاً بشرية . فادَّعَوَا أن شجرة الزقوم في القرآن الكريم ليست حقيقية ، ولكنها تخضع لتصورات مادّية لديهم بعيدة عن تصور الغيب . و" جان بياجيه " في دراسته للبنيوية يقرر " أن البنية تعتمد على نفسها لا على أيّ شيء خارج عنها " ويقول جان بياجيه : " منذ قانون غودل توقّف الله نفسه عن جموده وأخذ يبني من دون انقطاع ... "(2) . وبذلك عزلوا النصّ بعد اختراقه عن المرسِل والمُرسَل إليه . والنصوص عن البنيوية عند كمال أبو ديب وغيره كثيرة تكشف أن قواعد النقد التطبيقي في البنيوية تحمل من الخلل والاضطراب والانحراف الشيء الكثير(3) . فالفساد في أسس البنيوية يمتد إلى جميع أجزائها النظرية والتطبيقية . وأكتفي هنا بالإشارة إلى الدراسات التفصيلية التي قدّمتها عن الحداثة ومذاهبها ، والبنيوية عند " كمال أبو ديب " وغيره ، والتفكيكية والأسلوب والأسلوبية ، مما أقنعني أننا لسنا بحاجة إلى أيّ شيء من هذا الباطل الثابت في القواعـد والممتدّ إلى الفروع والأجزاء كلها .

 ويتحدّث أخي الكريم في كلمته عن التراث ، ويذكر أن التراث ليس مقدَّساً كله ، إلا الكتاب والسنة (كما جاءا باللغة العربية) ! وهذه كلمة حق نؤيّدها ونؤيد الدكتور عماد الدين ، نشكره على إثارتها ، إلا أَننا يجب أن نحذَر من أن يتخذ بعضهم هذا الرأي ليهاجم التراث كلَّه كما تفعل الحداثة . ذلك لأن بعضهم يظنّ أن التراث كلَّ التراث مقدّس ، وإذا لم يكن التراث مقدساً فإنه يصبح معرَّضاً كله للنقد والرفض . نحن بحاجة إلى إعادة دراسة التراث ، وردّه إلى منهاج الله ردّاً أميناً ، فنرفض ما يخالف منهاج الله ، ونحترم كل تراث التزم منهاج الله ، وهو إن شاء الله كثير وضروريّ ، حتى يرتبط ماضينا بحاضرنا ومستقبلنا من خلال نهج رباني يربط الأزمنة كلها ، ويربط الدنيا بالآخرة ربطاً يحمل النور الممتد والحق الثابت . ولا بدَّ أن نؤكد أن منهاج الله هو الذي يمدّنا بالنظرة الإيمانية التي تجمع الزمـن كله والأمكنة كلها ، على سنن ربانية ثابتة في الماضي والحاضر والمستقبل . وأنه هو الذي يزوّدنا بالحوافز الإيمانية ويطلق فينا المبادرات الذاتية ، على قدر صدق الإيمان والتوحيد وصفائه ، وصدق العلم به ، ويدفع إلى النظرة المستقبلية في صورة منهجيّة جامعة رائعة لا نجدها لا في العلمانية ولا الحداثة ولا البنيوية ولا الديمقراطية ، إنه نهج رباني معجز ميسّر للذكر !

 وأحييّ حرص أخي الدكتور عماد الدين على الحرّية ، وكلنا يجب أن نحرص على الحرّية كما يعلمنا إياها الإسلام . ولكن لا بد من وقفة سريعة مع قول د. عماد الدين : " من أنه في نهاية الأمر يكون الالتزام حرّيّة " ! إنها جملة فلسفية أكثر منها منهجيّة ، وهي جملة حمالة أوجه . لا تعطي صورة جليّة للالتزام ومعناه وتطبيقه ولا للحرّية ومعناها وتطبيقها !

 فالإسلام يطلب من المسلم الالتزام الكامل بمنهاج الله في حدود وسعه الصادق الذي وهبه الله ، والذي تدور عليه التكاليف ، والذي عليه يقوم الحساب يوم القيامة .إنه التزام نابع من الإيمان والتصديق والاستسلام لله سبحانه وتعالى في كل ما أمر به أو نهى عنه :

 ( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) [ البقرة :131]

 فالالتزام في الإِسلام التزام لقواعد ونصوص ونهج وحدود :

( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ )

[ الأعراف :3]

وكذلك : ( وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) [ البقرة : 230]

وكذلك : ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )

[ البقرة :229]

 وهو التزام بالرأي الذي لا يصلح إلا أن يكون معه حجته وبيّنته ،وهو التزام بالموقف الذي يجب أن ينبع من منهاج الله وقواعد الإيمان والتوحيد ، وهو التزام بالكلمة الطيبة وآدابها ، والتزام بالوفاء بإنزال الناس منازلهم ، والوفاء بالعهود والسلوك وغير ذلك .

 وقد جعل الله للحرّية في الإسلام ضوابط وحدوداً لا يجوز تجاوزها . فليس في الإسلام تفلّتٌ كما نرى في مفهوم الحرّية في الغرب ، وبخاصة الحرّية الجنسية المتفلتة وأمثالها .

 والقضية المهمة التي يتميز بها الإسلام في ميزان الالتزام والحرّية هي المسؤولية والحساب ، حتى الكلمة يقولها المسلم فهو محاسب عليها ، كما جاء في حديث رسول الله r يرويه عنه معاذ بن جبل رضي الله عنه ، جاء فيه :

" ... وهل يكبّ الناس على وجوههم ( أو قال مناخرهم ) إلا حصائد ألسنتهم "

[ أخرجه الترمذي وقال عنه حسن صحيح ](4)

 وقواعد أخرى في آداب الكلمة والموقف والسلوك ، مما لا يمكن أن تجده في أي مبادئ أخرى معزولة عن دين الله . فلا حرّية للمسلم بعد إسلامه أن يقبل من الإسلام هذا وأن يرفض ذاك . إنما أعطى الله الحرّية قبل أن يسلم ليقرر هو أيسلم أم يكفر . فعليه أولاً الاستماع لرسالة الله وهي تبلّغ له ، ثم عليه أن يفكّر ، ثمّ عليه أن يتخذ قراره ، ولكل قرار نتيجة وحساب ، ثم عليه أن يتحمّل مسؤولية قراره :

( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً . إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ) [ الكهف :30،29 ]

 ومما يسهّل الالتزام بالإسلام أن جعل الله للمسلم ميزاناً ربانياً يزن فيه الناس والكلمة والموقف والرأي ، وجعل له صراطاً مستقيماً واحداً يمضي عليه ، وهدفاً أكبر وأسمى يسعى إليه :

( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [ الأنعام :153]

 وكذلك :

( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ )

[ هود :113،112 ]

 الحرّية في الإسلام منضبطة بقواعد ربانيّة ملزمة غابت معانيها وظلالها في واقعنا اليوم مع طوفان الإعلام الذي جعل الحريّة في أذهان كثير من الناس تعني التفلّت . فلا بد أن نحرص على تعريف المصطلحات من منطلق إيماني ، وخاصة مع الجهود المباركة في ترشيد خطوات الأدب الإسلامي ، خاصة وأنّ للحرّية في نظر الحداثة والبنيوية والعلمانية والديمقراطية معنى تحذف فيه المسؤولية والحساب في الدنيا والآخرة ، التي هي أساس كلِّ ترشيد في ميدان الإسلام (5) .

 وأشار أخي الكريم في آخر مقالته إلى الحديث عن الفقه والفقيه . وهي قضية من أخطر قضايانا اليوم . وأقف مع قول د. عماد الدين : " ... وحينئذ لا بد من استدعاء الفقيه " ! وأتساءل هنا : لماذا يجب استدعاء الفقيه إلى قضية أدبيّة يُفترض أن يكون الأديب المسلم أعلمَ بها من سواه إذا استكمل أدوات الأدب والإسلام ، كما يفرض عليه الإسلام . فهناك قاعدة رئيسة في الإسلام أهمل كثير من المسلمين التزامها . تلك القاعدة الرئيسة تأتي في حديث رسول الله r يرويه عنه أنس وابن عباس وابن عمر وآخرون رضي الله عنهم أجمعين :

" طلب العم فريضة على كل مسلم " (6)

 فهناك علمٌ يكون طلبهُ فرضَ كفاية كالهندسة والطبّ وأمثالهما . وهناك علمٌ يكون طلبه فرضاً على كل مسلم ألا هو دراسة منهاج الله ـ قرآناً وسنة ولغة عربيّة ـ ، ودراسة الواقع من خلاله ، كلّ على قدر وسعه الصادق ، دراسة منهجيّة صحبة عمر وحياة لا تتوقف (7) ، على أن يردّ القضايا كلها صغيرها وكبيرها إلى منهاج الله ، ليخلص بالرأي مع حجته وبيّنته . فالأديب المسلم هو الفقيه في ميدان الأدب وإليه يُرجع في قضاياه ، والمهندس هو الفقيه في ميدان الهندسة ، وإليه يرجع في قضاياها ، وكذلك الطبيب في اختصاصه ، وكذلك في سائر العلوم . نحن نعاني اليوم من هذه المشكلة الخطيرة حين نجد من المسلمين من أفنى عمره في دراسة علم من علوم الدنيا ، ونال أعلى الدراجات العلميّة ، ولكنهم لم يصرفوا الجهد الذي كلّفهم به الله ورسوله لدراسة منهاج الله وتدبره دراسة منهجيّة صحبة عمر وحياة ، ليكون هذا هو أساس أيِّ علم آخر . إننا نجد اليوم من بين المسلمين من لا يعرف العربيّة ولا هو حريص على معرفتها ، ونجد كذلك من المسلمين العرب أصحاب أعلى الدرجات العلميّة لا يتقنون اللغة العربية التي لا يُفهم كتاب الله بغيرها ، ولا يُتلى بغيرها ، وما يأتي ترجمة لمعاني القرآن الكريم لا يكون قرآناً . لقد أصبح هنالك شعور عام هو أن المسلم المهندس أو الطبيب أو الأديب لا حرج عليه إن لم يتدبّر منهاج الله تدبُّراً منهجيّاً كما ذكرنا قبل قليل ، فهو لا يشعر بوجوب ذلك ، وغيره لا يرشده ولا ينصحه ولا يذكره .

 إن من أهم ما نحتاجه اليوم في ترشيد خطوات الأدب الإسلامي هو التزام هذه القاعدة الربانيّة الثابتة ، القاعدة التي تؤكدها نصوص الكتاب والسنة ، وتؤكدها مدرسة النبوّة الخاتمة ومناهجها في بناء الأجيال المؤمنة . إن أساس هذه القاعدة هو وجوب دراسة منهاج الله دراسة منهجيّة صحبة عمر وحياة ، فإن هذه الدراسة على هذا النحو تظل تغسل القلوب والنفوس لتصدّ عنها الفتن وزخارفها وأشكالها ، ولتؤلّف بين قلوب المؤمنين ليكونوا إخوة في الإيمان في ميدان الممارسة والتطبيق ، بعيدين عن التحاسد والتنافس على الدنيا ، وليكونوا النموذج الذي يحتذى في فهم منهاج الله ودراسته وتدبره .

 ومما يجب الترشيد إليه أن منهاج الله يقدّم لنا أعلى النظريات وأكملها في الأدب والنقد ، وبغير ذلك إذا اعتبرنا أنه لا علاقة لمنهاج الله في الأدب ولا في الطب ولا في الهندسة ولا في السياسة ولا في الاقتصاد ، ولا في غير ذلك من ميادين الحياة ، فإننا نكون نحن عزلنا منهاج الله وحقيقة الإيمان وجوهر التوحيد عن الحياة ، عن واقع الإنسان ، ونكون بذلك قد ظلمنا أنفسنا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فسيلجأ الكثيرون عندئذ إلى الحداثـة والبنيوية والعلمانيّة والديمقراطية ، وإلى الاقتصاد الرأسمالي ، وربما يكون ذلك كله تحت شعار الإسلام ، فلا نحصد مع السنين والأيام إلا الهوان والهزائم والفرقة والتمزّق والفواجع ، ثم نتساءل : أنّى هذا ؟! قل هو من عند أنفسكم ! .

 إننا نستطيع أن نأخذ من الغرب أو الشرق ما نحتاجه من علوم وصناعة دون أن نجعلهم المثل الذي يحتذى . هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لا بد أن لا نكتفي بالأخذ والتقليد والتبعية ، بل علينا أن نُعطي كذلك لنقدّم لشعوب الأرض فكرنا الحق ورسالتنا الربانيّة ، دين الله ، الإسلام ، كما يعرضه منهاج الله ، فذلك أمر الله إلينا ، وذلك حاجة الشعوب كلها . فجوهر العبـادة لا يقف عند حدّ الشعائر ، ولكنه يمتدُّ إلى طلب العلم من منهاج الله كما ذكرنا ، ثم إلى تبليغ رسالة الله ودينه إلى الناس كافّة كما أُنزلت على رسول الله r وتعهدهم عليها ، لننقذ البشرية من الظلمات إلى النور ، ومن الهلاك إلى النجاة ، وإننا نحن المسلمين محاسبون ومؤاخذون إن قصّرنا في هذا الأمر ، والأدباء المسلمين محاسبون ومؤاخذون كذلك عن هذه القضية ، حتى نفهم الواقع اليوم وغداً وفي كلّ عصر من خلال منهاج الله ، لا من خلال الحداثة والعلمانيّة وغيرها .

 إنني لأعجب حين أرى أهل الباطل جريئين بعرض باطلهم والدعوة إليه ، وأرى بعض المسلمين كأنهم يستحون من عرض إسلامهم وتبليغه ونشره ، وكأنهم لم يعودوا يؤمنون بأهمية الإسلام في فهم الواقع ومعالجته وإصلاحه ، فأخذوا يتلمّسون ذلك في مذاهب شتى منحرفين بها عن الإسلام .

 ولنذكر جميعنا المصير الحق ، الموت والقبر ، ثم البعث والحساب ، ثم إلى جنة أو إلى نار . فلنملأ قلوبنا بالإيمان ، بالحب ، بالثقة بالله ، بالخير والصلاح ، بآيات الله البيّنات وأحاديث رسول الله r ، ولنعضّ على سنة رسول الله r وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بنواجذنا ، كما أمرنا رسول الله r .

 إن الأدب الملتزم بالإسلام يستطيع اليوم أن يقدّم أروع الخطوات في بناء الإنسان المؤمن والأجيال المؤمنة والأمة المسلمة الواحدة صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص .

 وإني أعود وأشكر أخي الكريم الأديب الداعية والمفكر المسلم على طرحه هذا الموضوع الجاد ، وعلى القضايا الهامة التي عرضها ، راجياً أن يظل موضوع ترشيد خطوات الأدب الإسلامي موضوعاً مفتوحاً على مدى الأيام ، وأن يظلَّ التناصح بيننا قائماً .

 والأدب الإسلامي أدب دين ودعوة ورسالة ، يظل يَغْنى بما يأخذ من فكر وتصور من منهاج الله ، أخذاً متجدداً لا يفتر ولا يضعف أبداً !