الظاهر والمخفي في اتفاق الدول الكبرى وإيران ..

عقاب يحيى

الاتفاق مع إيران تحت عنوان الملف النووي، ومستتبعاته في مجموعة البنود التي تخدم إيران ـ بالنتيجة ـ لجهة شرعنة تخصيب اليورانيوم لسنوات، وحقها في استخدام المفاعلات النووية للأغراض السلمية، بينما يغطي الغموض قدراتها الفعلية على إنتاج أكثر من قنبلة نووية.. كانت قد جهّزت مستلزماتها.

ـ الأمر يتجاوز النووي ـ فيما يخصّ المكاسب الإيرانية ـ وأهمها :

ـ رفع العقوبات كافة في زمن قصير منظور .

ـ رفع الحصار على استيراد البضائع، والسلاح، بما فيه السلاح الصاروخي لزمن معين .

ـ رفع تجميد الأرصدة الإيرانية التي تتجاوز 150 ملياراً من الدولارات .

ـ رفع الأسماء من القائمة السوداء، ومنع السفر، والتي تضمّ أزيد من 1800 مسؤول كبير وشخصية .

ـ إلغاء البند السابع فيما يخصّ إيران من قبل مجلس الأمن، وتحويل الملف كله من مجلس الأمن إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية .

وبنود تفصيلية عديدة حول امتلاك السلاح بعد خمس سنوات، والصواريخ البالستية بعد ثمان، وأمور تفصيلية كثيرة تخصّ الجانب الإيراني، بينما تخضع المنشآت النووية لتفتيش متواصل، ومراقبة الإجراءات التي ستقوم بها فيما يُعرف بفترة بناء الثقة، والتأكد من تنفيذ الالتزامات .

والأهم من كل ذلك الاعتراف ـ عملياً، ومن حيث النتيجة ـ بدور إيران وما تقوم به في المنطقة، والذي يخصّ تدخلاتها السافرة، أو عبر أذرعتها وأتباعها في الشؤون الداخلية لعدد من البلدان العربية ..

                                                    ****

ـ السؤال الكبير : هل تحقق ذلك بفعل الشطارة الإيرانية في التكتيك والمناورة وحسن إدارة المفاوضات الطويلة والتمسّك ببعض الثوابت التي لم تتراجع عنها ؟..

ـ بفضل الدور المركزي الذي تلعبه إيران في المنطقة، وما يمثله من ثقل وفعالية تتجاوز حدود بلداننا إلى بحر قزوين، وعديد الجمهوريات الإسلامية، وأفغانستان،وما يحكى عن شعار محاربة الإرهاب، وموقع إيران ودورها الراهن والمناط لاحقاً فيه ؟.

ـ أم أن الأمور مختلطة، تتزاوج فيها وتتماوج مجموعة عوامل تخصّ هذه الأسباب، وتتخطاها إلى الأعمق، والأبعد ؟؟؟؟....

                                                    **

يجب الاعتراف أن إيران فرضت نفسها قوة إقليمية كبيرة يُحسب لها ألف حساب، وأن ثروات إيران المتعددة، وثقلها البشري، وموقعها الجيواستراتيجي، وعمقها وخلفياتها التاريخية عوامل ذاتية مهمة تسمح لها بالتشدد في المفاوضات تحصيلاً لأفضل الشروط الإيجابية التي تُحقق عدداً من أهدافها. وأن خلف كل ذلك قيادة إيرانية متماسكة، عقيدية، موحّدة، رغم كل ما يحكى عن التباينات بين الإصلاحيين والمتشددين،وأن الأساس في كل هذا أن إيران تملك مشروعها الخاص : الاستراتيجي، القومي، الإمبراطوري.. بحوامله الدينية، المذهبية.. وتراكم الخبرات الطويلة من أيام الشاهنشاهية، والخبث في باطنية التعامل، والتكتيك .

ـ ناهيكم على أن إيغال إيران القوي في المنطقة، وبسط نفوذها في مفاصل مهمة من البلدان العربية، ونجاحها في اختراق المجتمعات العربية وتكوين المليشيات التابعة لها، وعديد المؤيدين، والأذرع.. يضعها في موقع المفاوض القوي الذي لا يمكن تخطيه، أو فرض إرادات خارجية قاسية عليه.. رغم سنوات الحصار، والمقاطعة، والعقوبات.. ونسبية تأثيرها، وأمواج التهديد التي لم تكن يوماً ما جدّية وحقيقية، وإيران كانت تدرك ذلك ..

                                                 ***

لكن هناك قطبة مخفية تشكل حالة محورية.. تتعلق بالماضي والحاضر. باستراتيجيات القوى الخارجية ومنظورها لموقع ودور إيران فيها، وبشبكة العلاقات التحتية، المخابراتية التي لم تنقطع بين جهاز المخابرات الإيراني والإسرائيلي، والأمريكي وغيرهما في جميع الظروف والحالات.. ومن خلال ما تقوم به إيران من خدمة مباشرة، أو من حيث النتيجة، لرؤية صهيونية تفتيتية تقوم على تلغيم وتفجير المجتمعات العربية من داخلها، واستنزافها في حروب إثنية ودينية ومذهبية وغيرها .

ـ إيران الحديثة، ووفق التقسيم الاستعماري بين الحربين العالميتين، ثم بعد الحرب العالمية الثانية، وصعود الولايات المتحدة الأمريكية وريثاً للمستعمر القديم، أنيط بها دور مركزي في المنطقة كان جلّه مخصصا ضد الدول العربية، ومشروع النهوض العربي، التوحيدي، الحداثي، ولصالح الكيان الصهيوني . وبات معروفاً للجميع طبيعة ذلك المثلث : التركي، الإيراني، الإسرائيلي الذي أنيط به ذلك الدور بتناغم وتشابك..عقوداً مديدة .

ـ لقد عملت تركيا ـ حزب العدالة والتنمية ـ ومن خلال مشروع تنموي طموح على التملص من التزاماتها في حلف الأطلسي المتعلقة بالبلدان العربية، وبالاتجاه نحو التعاون الاقتصادي بديلا، وإقامة شبكة علاقات تجارية واستثمارية واسعة في عديد البلدان العربية، والتقرّب من الخطاب العربي المطالب بإقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس. ثم في الموقف المؤيد لثورات الربيع العربي، خاصة الثورة السورية .

ـ أما إيران وبرغم قيام" الجمهورية الإسلامية" ورفعها شعارات نارية عن الشيطان الأكبر، والموت لأمريكا، والموت لإسرائيل، وتبنيها علنياً المقاومة ضد الكيان الصهيوني، وكثير من المظاهر الحماسية والمبدئية، إلا أن مشروعها بني على التوسع، وعلى حساب قضايا ومصالح الوطن العربي، حين لم تكتف القيادة الإيرانية بحدود إيران التي ثبتتها اتفاقات الدول الكبرى، وعلى حساب اقتطاع أراض عربية" عربستان، أو الأحواز"، والدوس على حقوق الأكراد، وعديد المكوّنات القومية فيها، إلى جانب استمرار الجزر العربية ـ الإماراتية الثلاث، والإصرار على اعتبار الخليج العربي فارسياً.. بما يعكس منهجاً قومياً عنصرياً لا علاقة له بالأدلجة الإسلامية المرفوعة، والمعتمدة .

ـ إن التوسع الإيراني تحت مسميات" تصدير الثورة"، أو الاهتمام بأوضاع الشيعة العرب، أو حماية الحسينيات والمقدسات الإسلامية التي تريد احتكار تطويب ملكيتها وتبعيتها للمذهب الشيعي..ألقى أرضاً بجميع ما في الجعبة الإيرانية من شعارات تبدو لصالح العرب والمسلمين حين عملت واقعياً على شرخ المجتمعات العربية منن داخلها، وتصعيد الصراعات المذهبية بديلاً للصراعات الاجتماعية الطبيعية، وسبيلاً للتغلغل والنفوذ وتحقيق المآرب.. مما دفع إلى تأجيج الأوضاع الطائفية في عموم المجتمعات العربية، خاصة في بلدان المشرق، والذي ازداد موضعة وبلورة بعد مواقفها المشينة في العراق، ومنها إلى سورية واليمن، فلبنان المحطة، ولبنان رأس الحربة الشيعية .

ـ هذا الفعل الإيراني المنهّج هو الخلفية الحقيقية لذلك التعامل"المرن" مع إيران على مدار سنوات حكاية الملف النووي، وعدم قصفه وتدميره من قبل "إسرائيل" أو أمريكا، وهو ما يكمن في أساس الاتفاق الحالي بما يبدو كنوع من شرعنة، وإطلاق اليد استكمالاً لمواصلة ذلك المشروع الاستراتيجي الصهيوأمريكي غربي نحو الوطن العربي.. وهو ما يثير مزيد مخاوف، وقلق الدول العربية منه، ومن تداعياته..

                                                  ***

السؤال الكبير : ما هو ردّ فعل الدول العربية على هذا الاتفاق؟.. وهل يمكنها أن تملك وسائل جماعية لمواجهة نتائجه، خصوصاً وأن بلدان الخليج العربي على العموم، والسعودية على الخصوص مستهدفة بشكل مباشر، واليمن كاشف، واليمن ساحة المجابهة العنيفة ؟..

ـ التحديات الكبيرة لمصير الأمة وجغرافيتها تطلب من الجميع، وبغض النظر عن طبيعة الحكومات، ومستوى علاقاتها مع شعوبها، العمل المشترك للحفاظ على الأمن العربي من مخاطر التفتيت، وفرض خرائط جديدة مملوءة بالكيانات الجديدة..في حين يعلم هؤلاء أن إسقاط النظام المجرم، الفئوي : جسر العبور الإيراني وقاعدة استناده الرئيس.. سيكون أبلغ ردّ، وبداية منعطف مهم في لجم الاندفاعة الإيرانية وحصارها في حدودها الجغرافية ..

وسوم: العدد 625