حقيقة المواقف الغربية تجاه المحاولة الإنقلابية في تركيا

قطب العربي

حين وقعت محاولة الإنقلاب الفاشل في تركيا تباطأت الولايات المتحدة الأمريكية ودول الإتحاد الأوربي في إدانة ما حدث، فربما كانت معلوماتها أو تقديراتها تفيد بإحتمالات أكبر لنجاح الإنقلاب وهو ما ترغب فيه فعلا نظرا لعدائها الظاهر أحيانا والمستتر أحيانا أخرى لرئيس الدولة التركية رجب طيب أردوغان وسياساته الخارجية، ولكن تلك الدول بدأت في إعلان مواقف رافضة للإنقلاب حين ظهرت دلائل فشله، بل وبعد ظهور الرئيس أردوغان في وسائل الإعلام ودعوته لشعبه للنزول والتجاوب الشعبي الواسع معه من مختلف الفئات والتيارات السياسية.

كانت إدانات الولايات المتحدة والدول الأروربية لمحاولة الإنقلاب الفاشل خجولة ومترددة فالبيت الأبيض أعلن "أن الرئيس أوباما يتابع الموقف في تركيا" قبل أن يخرج وزير خارجيته لاحقا بإدانه المحاولة الإنقلابية وتأكيد دعم واشنطن للحكومة المنتخبة ديمقراطيا، كان واضحا أن الحكومات الغربية غير صادقة، وأنها مضطرة لإعلان تلك المواقف بعد أن حسم الشعب التركي المعركة مع الإنقلابيين ، ولذلك سرعان ما عادت الولايات المتحدة والدول الأوربية للتنديد بملاحقة الحكومة التركية للإنقلابيين ومن دعمهم في مؤسسات عدة، ومساعي الحكومة التركية لإعادة عقوبة الإعدام عبر البرلمان، وفي هذا الإطار عقد وزراء خارجية الإتحاد الأوربي إجتماعا مشتركا مع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بعد يومين من فشل المحاولة الإنقلابية، وبعيدا عن الإدانة الروتينية لمحاولة الإنقلاب الفاشلة، فأن اهم ما شغل الوزراء هو دعوة السلطات التركية لما وصفوه بضبط النفس وحماية النظام الدستوري، وأبدى الوزراء قلقهم الشديد من عواقب حملة الإعتقالات ضد العناصر الإنقلابية، وتحدث المفوض الأوروبي لشؤون التوسيع وسياسة الجوار عن مؤشرات على "وجود قوائم مسبقة" تضم أسماء المسؤولين الذين يجري اعتقالهم خارج إطار القانون، في حين دعا كيري إلى " تقديم المتهمين إلى القضاء وتفادي تجاوز حدود دولة القانون".

كانت مسألة إعادة أحكام الإعدام الأكثر إزعاجا للوزراء الأوروبيين ونظيرهم الأمريكي، ذلك أنهم أدركوا أن هذه العقوبة ستطبق على الإنقلابيين الأتراك، ولذا فقد سارعوا لإبراز البطاقة الحمراء لتركيا بحرمانها من عضوية الإتحاد الأوربي إن هي أقدمت على تلك الخطوة، وأكدت منسقة السياسة الخارجية والأمن المشتركة فيدريكا موغريني أن إلغاء عقوبة الإعدام سيعني انتهاء مفاوضات العضوية في الاتحاد. وأشارت الى أن تركيا عضو في مجلس أوروبا حيث يراعى تنفيذ المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، منها بند إلغاء عقوبة الإعدام في دول المجلس، وهو ما كرره  وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير الذي أوضح أن أي تحرك من جانب تركيا لإعادة عقوبة الإعدام ستخرج جهودها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي عن مسارها، في حين قال وزير الخارجية  الفرنسي جان مارك آيرولت أن محاولة الانقلاب في  تركيا لا تعني إعطاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان "شيكاً على بياض" لتنفيذ عمليات تطهير، ولم يكتف الوزير الفرنسي بإظهار قلقه على حياة الإنقلابيين بل تجاوز ذلك إلى التشكيك في الدور التركي في مواجهة داعش، وكان رئيسه فرانسوا أولاند إدعى أن تركيا ستعود  إلى فترة القمع في أعقاب الانقلاب الفاشل.

ولنا على المواقف الأوربية والأمريكية عدة ملاحظات

أولا التلكؤ المتعمد من تلك الدول في إدانة الإنقلاب في لحظاته الأولى على أمل نجاحه يشي "بدور ما" لتلك الدول أو بعضها في هذا الإنقلاب، فقبل أسابيع وتحديداً في 30/05/2016 نشرت مجلة فورين بوليسي مقالاً مطولاً عن " الانقلاب العسكري التركي القادم" تتحدث فيه بشكل واضح ضد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ولا يمكن تجاهل استضافة الولايات المتحدة لزعيم جماعة الخدمة (التنظيم الموازي) فتح الله كولن في بنسلفانيا، ورفضها طلب تركيا تسليمه لمحاكمته بتهمة ضلوعه في عدة أحداث سابقة، ثم ضلوعه في المحاولة الإنقلابية الأخيرة، كما أن الحكومة الفرنسية  قامت قبل يومين من محاولة الانقلاب الفاشلة وتحديداً يوم الاربعاء 13/07/2016 بإغلاق سفارتها في أنقرة وقنصليتها في اسطنبول لـ"دواع أمنية" وألغت احتفالات مقررة يوم 14/07م2016

ثانيا : إن هذه الدول حتى وإن إفترضنا عدم ضلوعها مباشرة في التخطيط والتنفيذ والدعم لهذا الإنقلاب فإنها كانت ستبدو سعيدة بنجاحه، وكانت على استعداد تام لدعم الحكم العسكري الجديد لأنه سيخلصها من شخص غير مقبول من حكومات تلك الدول نظرا لخطه المستقل في السياسة الخارجية، والذي يتعارض مع توجهاتها وسياساتها في كثير من المواضع خاصة في الملفين السوري والمصري والتحالف مع السعودية، وتحركاته المتسارعة للوصول ببلاده إلى مراكز أكثر تقدما في سلم الإقتصاد العالمي وإمتلاك النفوذ الدولي، كما أن هذه الدول سبق أن  دعمت إنقلابات عسكرية أخرى في المنطقة ومنها الإنقلاب في مصر ضد أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر.

ثالثا: أن تلك الدول التي أبدت إنزعاجا كبيرا من إحتمال إعادة عقوبة الإعدام لم تفعل شيئا يذكر تجاه تنفيذ الإعدام فعلا بحق ساسة ومفكرين في دول أخرى مثل مصر التي نفذت حكومتها العسكرية الإعدام بحق عدد من رافضي الإنقلاب فيها، وسبقت لك بمذابح جماعية للآلاف في إعتصامين سلميين في رابعة العدوية والنهضة، كما أن تلك الدول الأوربية لم تتحرك لوقف تنفيذ حكم الإعدام في أمير الجماعة الإسلامية في بنجلادش مطيع الرحمن نظامي، وهي تدعم جيش الإحتلال الإسرائيلي في عمليات قتله المستمرة للفلسطينيين، كما أنها تقف الآن متفرجة على قتل آلاف السوريين على يد قوات بشار الأسد، وتقف حجر عثرة أمام إطاحته رغم أنها تبدي أحيانا مواقف ظاهرية مختلفة ومخادعة.

رابعا: أن جيوش تلك الدول قتلت المئات بل الآلاف فعلا في أماكن كثيرة سواء أفغانستان، أو البوسنة والهرسك، أو بعض الدول الإفريقية، وبالتالي فإن حديثها عن رفض الإعدام  يبدو حديثا عبثيا كاذبا،

خامسا: أن تلك الدول تتخذ من التدابير كل ما يمكنها من حفظ أمنها القومي كما حدث في الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر أيلول 2001 وكما حدث في بريطانيا وفرنسا ، والغريب أنهم يتباكون على حياة الإنقلابيين التي تتعرض للخطر في تركيا في حين أنهم قتلوا من قبل ولايزالون يقتلون كل من يقف في طريق أطماعهم الإستعمارية، وفي نفس الوقت تخرج رئيسة الوزراء البريطانية معلنة أنها تقبل بقتل مائة الف من الأبرياء في ضربة نووية، وهو ما سبقها إليه بشكل عملي الأمريكيون الذين ألقوا قنابلهم على هيروشيما ونجازاكي فقتلت وشوهت الملايين.

سادسا: أن الدول الأوربية التي تحذر تركيا من إعادة عقوبة الإعدام وتهددها بالحرمان من استكمال مباحثات الإنضمام للإتحاد الأوروبي لم تكن جادة بالأساس في قبول طلب إنضمام تركيا، وظلت ترواغها على مدار السنوات الماضية، رغم أن تركيا ألغت عقوبة الإعدام فعلا في العام 2004

سابعا: أن هذه الدول الأوربية تتجاهل الإتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان التي حظرت في مادتها السابعة عشرة على أية جماعة أو فرد أن يقوم بنشاط أو عمل يهدف إلى هدم الحقوق والحريات المقررة فى الإتفاقية ، وأن تلك الدول إتخذت هذا النص ركيزة لإضفاء الشرعية على عدد من التدابير المقيدة للحريات التى اتخذتها فى خضم معركتها من قبل ضد الأحزاب والحركات الشيوعية وجماعات اليمين المتطرف على حد سواء .

ثامنا: أن الولايات المتحدة التي كان وزيرها شريكا في ذلك الإجتماع لاتزال تطبق عقوبة الإعدام ولم تجرؤ أوربا على إعلان رفضها لذلك المسلك الأمريكي:، كما أن فرنسا التي تقود حركة الدفاع عن الإنقلابيين الأتراك بحجة حماية حقوق الإنسان والحريات تفرض حالة الطوارئ التي تعطل كل القوانين بعد هجوم نيس، وهي التي تدخلت عسكريا لتنظيم إنقلابات أو دحر أخرى في افريقيا، ولايمكن نسيان تدخلها في أفريقيا الوسطي نهاية العام 2013 بحجة معالجة الوضع الأمني المتدهور بينما كان الهدف هو الوصول قبل غيرها من الأمريكيين أو الصينيين أو الإسرائيليين  إلى الموارد الطبيعية من نفط ومعادن ثمينة ومناجم اليورانيوم في الصحراء الأفريقية .

تاسعا : أن هؤلاء الإنقلابيين لو تمكنوا من مفاصل الحكم فإنهم كانوا سيبدأون مذابح كبرى بحق الشعب التركي لتأديبه، وإخضاعه لحكمهم، ولاننسى أن إنقلاب العسكر عام 1980 لايزال محفورا في الذاكرة التركية بالفظاعات التي ارتكبها والتي سجلتها وثائق تركية ومنها  : اعتقال 650 ألف مواطن ـ إدراج 1.680.000 (مليون وستمائة وثمانون ألف) مواطن في القوائم السوداء لدى السلطات الأمنية ــ محاكمة 230 ألفاً في قضايا سياسية ولكن بتهامات جنائية ــ الحكم على 517 بالإعدام ــ تنفيذ حكم الإعدام في 50 محكوماً منهم. فصل 30 ألف موظف من أعمالهم ـ تجريد 14 ألف مواطن من الجنسية التركية ـ تصنيف 98 ألفاً وأربعمائة وأربعة مواطنين والتحقيق معهم بدعاوى انتمائهم لجماعات إرهابية ــ إدانة 21 ألفاً و764 بتهمة الانتماء لجماعات إرهابية ــ استدعاء 29 ألفاً من المواطنين الأتراك المقيمين بالخارج للتحقيق معهم في تركيا ووضعهم على قوائم الترقب والوصول ــ سحب جوازات السفر من 338 ألف مواطن ــ إغلاق 23 ألفاً و700 منظمة ومؤسسة خيرية في أنحاء البلاد. التحقيق مع أعضاء 644 منظمة خيرية ــ وفاة 146 مواطن في ظروف غامضة ــ وفاة 14 مواطناً أثناء إضرابهم عن الطعام في أماكن الاحتجاز ــ قتل 16 مواطناً أثناء محاولتهم الفرار ــ وفاة 74 مواطناً أثناء الصدام مع قوات الأمن ــ وفاة 73 مواطناً في أماكن الاحتجاز ادعت السلطات أن موتهم كان طبيعياً ــ وفاة 43 مواطناً ادعت السلطات أنهم انتحروا ــ مقتل ثلاثة صحفيين(فقط) في مواجهات مع قوات الجيش ــ وفاة 171 مواطناً تحت التعذيب على أيدي قوات الأمن ــ الحكم على 18 ألفاً و525 من الجيش والشرطة بالبراءة من جرائم وجنح مختلفة ضد المواطنين بدعوى قيامهم باستخدام حقهم في "الدفاع عن النفس" إبان حوادث الانقلاب. تعرض 3854 مدرساً لإجراءات تعسفية باسم تطبيق القانون ـ عدد الموظفين العموميين الذين تم نقلهم إلى مناطق أخرى للعمل بلغ 7233 موظفاً ــ إقالة 4891 موظفاً حكومياً ـ اعتقال 31 صحفياً لمدد طويلة ـ عدد أحكام الإعدام التي صدقت عليها المحكمة العسكرية 124 حكماً ــ  الحكم على 259 مواطناً بالإعدام دون إخطارهم بهذا الحكم. إعدام 18 مواطناً يسارياً ـ إعدام 8 مواطنين من الاتجاه المحافظ ـ حظر عرض 900 فيلماً سينمائياً ــ حرق 30 ألف طن من الكتب والروايات والمسرحيات والمؤلفات الدينية والشيوعية في أشهر ميادين أنقرة واسطنبول حتى إن دخان الحرائق كان يتسبب في اختناق بعض السكان القريبين من تلك المحارق.

عاشرا: لا يمكن إنكار حق الحكومة التركية ومؤسساتها الديمقراطية المنتخبة في الدفاع نظامها الديمقراطي الذي سعى الإنقلابيون لتقويضه، وإعادة الحكم العسكري للبلاد، وهو الحكم الذي عانى منه الأتراك لعقود طويلة من قبل وعبر 4 إنقلابات عسكرية سابقة، وحين تدافع الحكومة التركية عن هذا النظام الديمقراطي مستخدمة القانون والمحاكمات الشفافة فإن المتوقع من أي دولة ديمقراطية هو دعمها وليس تعويقها، كما أن تحرك الحكومة التركية للقضاء على الجيوب المعادية للديمقراطية في الجيش ومفاصل الدولة الأخرى هو لمصلحة العملية الديمقراطية بشكل عام، وهو يسهم في استقرار الحالة الديمقراطية في تركيا، ما يفتح الباب لانتشار الديمقراطية في دول أخرى في المنطقة بشكل سلمي، وهو ما يسهم في استقرار النظام الدولي وتقدمه وإزدهاره.

لقد كشف الموقف الغربي عموما من المحاولة الإنقلابية الفاشلة في تركيا عن وجه الغرب الإستعماري الذي يكيل بمكاييل مختلفة في التعامل مع قضية الديمقراطية، وأنه لايرغب في تحقيق هذه الديمقراطية في بلدان العالم العربي والإسلامي حتى لا يجد نفسه في مواجهة شعوب حرة مستقلة راغبة وساعية للتقدم والإزدهار، وهو الذي اعتاد أن يتعامل مع حكام أفراد –عسكريين أو حتى مدنيين- لهذه الدول، لايتمتعون بأي شعبية أو شرعية ما يجعلهم دوما لقمة سائغة له يفرض عليهم ما يشاء من صفقات تجارية وعسكرية مقابل توفير الدعم السياسي لهم، لكن نجاح الحكومة التركية في إفشال الإنقلاب ومن ثم تعقب المشاركين فيه والداعمين له أربك المسئولين الغربيين، وزاد هذا الإرباك باتهام وزير الخاريجة التركي مولود جاويش أوغلو لمن يوجهون انتقادات لبلاده  بالمشاركة في دعم المحاولة الإنقلابية الفاشلة، لكن تلك العواصم على الأرجح لن تتوقف عن كيدها لحكومة أردوغان بهدف إفشاله وتحريض الشعب التركي ضده، ولهذا ينبغي الحذر الشديد لتلك المكائد، والسعي لتفويت الفرصة عليها.

_____________________

قطب العربي: كاتب صحفي ومحلل سياسي، رئيس المرصد العربي لحرية الإعلام

قطب العربي                                                             

مركز أمية للبحوث و الدراسات الاستراتيجية

وسوم: العدد 677