ذكريات علي الطنطاوي من الصفحة 159

الشيخ: علي الطنطاوي

من الجزء الثالث :

"لقد جاءت ساعة الوداع , وما أصعب ساعة الوداع ؛ إن آلام البشر كلها كتاب عنوانه : الوداع , فالمرض وداع للصحة , والفقر وداع للغنى , والسجن وداع للحرية , والموت وداع للحياة : أين فرحتنا لحظة رأينا الكعبة قادمين من لوعتنا حين نودعها قافلين؟ 

إن حزناً في ساعة الموت أضعاف سرور في ساعة الميلاد

توجهنا إلى الأمام إلى جدة , وقلوبنا تتلفت إلى الوراء ؛ إلى الحرم , إلى الحطيم , إلى الكعبة والملتزم , لقد فهمت الآن معنى قول الشريف :

وتلفّتتْ عيني فمذ خفيتْ                عني الطلول تلفتَ القلبُ

ونأينا عن مكة بأجسادنا , وخلفنا فيها قلوبنا وأفئدتنا , , ولولا أننا نأمل أن نداوي لوعة هذا الفراق بروعة ذلك التلاق , لقاء المدينة المنورة لتضعضعت قلوبنا في موقف الوداع , ومشينا من حيث مشى سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم إلى حيث أراد من مكة إلى المدينة , وذكرت الهجرة التي لم تكن نقلة لثلاثة رجال من قرية إلى قرية , ولكنها رحلة التاريخ البشري كله من عهد إلى عهد , من الليل الذي طال حتى ظن المظلومون الذين يترقبون الفرج أنه لن يطلع عليهم بعده النهار من عهد الاستبداد والقهر والجهل إلى عهد الحضارة الخيرة النيرة التي جمعت مطامح الروح , ومطالب الجسد , ومنطلقات العقل ؛ لقد كان أعظم موكب مشى على ظهر الأرض , لم يكن موكباً ضخماً , ولم تكن تتقدمه الطبول والصنجات , ولم تكن ترفرف فوقه الأعلام والرايات , ولم يكن يحف به الجيش معه الحراس والأعوان , ولكن تحف به ملائكة الرحمن , وترفرف فوقه راية القرآن , وتتقدمه البشائر من السماء بأن رحمة الله للعالمين قد أقبلت , وتمثلت بشراً يأكل الطعام , ويمشي في الأسواق , ولد ويموت , وكان يصح ويمرض , ويجوع ويشبع , بشر مثلكم , ولكنكم لستم مثله , وليس فيكم من يقدر أن يدانيه فضلاً عن أن يساويه , أو يساميه , ولو لم يكن خاتم الرسل , لكان أفضل البشر خلقاً وسمواً وصفاء ونقاء .

وإذا كان العرض العسكري تمثل فيه فرق الجيش وفصائله بأفراد تمشي فيه , فهذا العرض يمشي فيه وراء محمد صلى الله عليه وسلم من خلال القرون الآتية خريجو مدرسة محمد من كل خليفة كان صورة حية للمثل البشرية العليا , وكل قائد كان سيفاً من سيوف الله مسلولاً , وكل عالم كان للبشر كالعقل من الجسد ؛ يمشي فيه أبو بكر وعمر ونور الدين وصلاح الدين وأورنج زيب , يمشي فيه خالد وطارق وقتيبة وابن القاسم والملك الظاهر ومحمد الفاتح , يمشي فيه البخاري والطبري وابن تيمية وابن حزم وابن خلدون , يمشي فيه الغزالي وابن رشد وابن سينا والبيروني , يمشي فيه الجاحظ والخليل وأبو حيان , يمشي فيه أبو تمام والمتنبي والمعري , يمشي فيه معبد وإسحق وزرياب" .

وسوم: العدد 979