حقيقة الأخوّة في نفوس الإخوان

د. عبد الرحمن البر

قال الإمام المؤسّس حسن البنا رحمه الله: "وأريدُ بالأخوّة: أن ترتبط القلوب والأرواح برباط العقيدة، والعقيدةُ أوثقُ الروابط وأغلاها، والأخوّة أخت الإيمان، والتفرّق أخو الكفر، وأوّلُ القوة قوة الوحدة، ولا وحدة بغير حب، وأقل الحب سلامة الصدر، وأعلاه مرتبة الإيثار (ويؤثِرون على أنفسهم ولو كان بهم خَصاصة. ومَن يُوقَ شُحّ نفسه فأولئك هم المُفلحون).

والأخ الصادق يرى إخوانه أولى بنفسه من نفسه، لأنه إن لم يكن بهم فلن يكون بغيرهم، وهم إن لم يكونوا به كانوا بغيره، و"إنّما يأكلُ الذئبُ من الغنم القاصية"، و"المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشدُّ بعضه بعضاً"، و(والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياءُ بعض)، وهكذا يجب أن نكون".

ذلك هو معنى الأخوّة التي يسعى الإخوان لتحقيقه في واقع الأمة، حتى لا تبقى معاني نظرية مثالية حالمة، وإنما تتجسّد في نماذج حية تسعى بين الناس، ويحسّ أثرَها الجميعُ. وقدّم الإخوانُ في ذلك ما أدهش الكثيرين، حتى قال بعضُهم عن متانة رابطةِ الأخوّة بين الإخوان: "لو عطس أحدُ الإخوان في أسوان لشمّته أخوه في الإسكندرية".

لم يزل الإخوان المسلمون حريصين على تحقيق الأخوة الصحيحة الكاملة فيما بينهم، مجتهدين ألا يعكّرَ صفو علاقاتهم شيء، مُدركين أن الأخوّة في الدين من أفضل ما يتقرّبون به إلى الله زُلفى، ومُلتمسين بالمحافظة عليها نيل الدرجات العُلا، ويحرص الأخُ على تذكّر إخوانه والدعاء لهم مع كل غروب شمس في وِرد الرابطة.

ولمَ لا وصِدقُ الحب في الله علامةُ الولاية وعنوان التقوى، بنص حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد أخرج أبو داود بسند صحيح أن عمر بن الخطاب قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: "إنّ مِن عِباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شُهداء، يغبطهم الأنبياءُ والشهداء يومَ القيامة بمكانهم من الله تعالى". قالوا: يا رسول الله، تُخبرنا مَن هم؟. قال: "هُم قومٌ تحابّوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنُورٌ، وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس". وقرأ هذه الآية: (ألا إنّ أولياءَ الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون).

وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشُّعَب (واللفظ له): عن أبي مالك الأشعري قال: كنتُ عند النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ قال: "إنّ لله عِباداً ليسوا بأنبياء، ولا شهداء، يغبطهم الأنبياءُ والشهداء بقُربهم من الله يوم القيامة". وقام في ناحية القوم أعرابيٌّ، فجثا على ركبتيه ورمى بيديه، فقال: حدّثنا يا رسول الله عنهم مَن هُم؟. قال: فرأيتُ في وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البِشر. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: "هُم عِبادٌ من عباد الله، من بلدان شتّى، وقبائل شتى، من شعوب القبائل، لم يكن بينهم أرحامٌ يتواصلون بها، ولا دُنيا يتباذلون بها، يتحابّون بروح الله، يجعلُ الله وجوههم نوراً، ويجعل لهم منابر من لؤلؤ، يَفزع الناسُ ولا يَفزعون، ويخاف الناسُ ولا يخافون".

ومن ثم يتواصى الإخوان المسلمون ويحرصون على مراعاة حقوقها التي تُصفّيها عن شوائب الكدورات ونَزَغات الشياطين، وقد جعل أهلُ العلمِ أقلّ درجات الأخوّة أن يُعامِل الأخُ أخاه بما يُحبّ أن يعامله أخوه به.

- من حقوق الأخوّة وآثارها:

1- الصبر على خطأ الأخ حتى يرجع للحق: من غير تشهير به أو إشاعةٍ لزلّاته، والتماسُ أسباب عودته إلى الاستقامة والصواب، فالمؤمن كما قال ابن المبارك: "يطلبُ المعاذير، والمنافقُ يطلب العثرات".

قال أبو الدرداء: إذا تغيّر أخوك وحال عما كان عليه، فلا تدعْه لأجل ذلك، فإن أخاك يعوجُّ مرةً ويستقيم أخرى.

وقال إبراهيم النخعي: لا تقطع أخاك ولا تهجُره عند الذنب، فإنه يرتكبه اليوم ويتركه غداً.

وحتى حين تختلف بالإخوان الآراءُ فإن رابطة الأخوّة ومروءة المؤمن تحميهم من الوقوع في الأعراض، أو إشاعة الشبهات، أو ترديد المفتريات، أو التخلّي عن أدب الوفاء، وهم يحفظون كلمةَ حكيم الفقهاء الإمام الشافعي رحمه الله: "الحُرُّ مَن راعى وِداد لحظةٍ، وانتمى لمن أفاده لَفظةً".

وما ألطف قولَ أحد السلف يُخاطب أخاه الذي هَجَره:

هَبني أســــأتُ كمـا تقـولُ     فأين عاطفةُ الأخوّة؟

أو إن أسأتَ كما أسأتُ   فأين فضلك والمُروّة؟

فليس من أخلاق المسلم في شيء أن يلتمس أسباب العيب لِمن خالفه من إخوانه أو من غيرهم، أو أن يسعى في الانتقاص من فضله، أو التحقير من عمله وعطائه. وينتصحُ الإخوانُ بنصيحة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لغلامه أسْلَم [كما في الأدب المفرد للبخاري]: "لا يكُن حُبّك كَلَفاً، ولا يكن بُغضك تَلَفاً"، قال: وكيف ذلك؟ قال: "إذا أحببتَ فلا تَكلَف كما يكلفُ الصبيُّ بالشيء يُحبُّه، وإذا أبغضتَ فلا تَبغض بُغضاً تُحبُّ أن يَتلَفَ صاحبُك ويهلك".

2- النصيحة بآدابها الشرعية: فلا تعييرَ ولا تشنيع ولا تشهير، ولا تجريح للأشخاص ولا للهيئات، ولا كشفَ لأسرار الناس، ولا اختلاقَ ولا كذب، ولا تسويغَ للخطأ، ولا مجاملةَ على حساب الحق، ولا رغبةَ في التشفّي ولا انتصارَ للهوى، بل هي نصيحةٌ أمينة صادقة، تَبرَأُ بها الذمّة، وتُؤدّى بها الأمانة، مع بقاء المودّة ونماء عاطفة الأخوّة، وهذا نبيّ الله هود عليه السلام يقول لقومه الكافرين: (وأنا لكم ناصحٌ أمين)، فكيف لو كانوا مؤمنين؟!.

أخرج أبو داود عن أبي هريرة، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: "المؤمنُ مرآةُ المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكُفُّ عليه ضَيعتَه ويحوطُه من ورائه".

وفي رواية عند الترمذي: "إنّ أحدكم مرآة أخيه، فإن رأى به أذى فلْيُمِطهُ عنه".

ولْيضع الأخُ نفسه دائماً موضعَ أخيه المنصوح، ومثلما يحبُّ أن تُقدَّم إليه النصيحةُ فليكن تقديمُه النصيحةَ لإخوانه.

وعموماً فهذه جملة مختصرة من حقوق الأخوّة ذكرها ابن مفلح رحمه الله: "ومما لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ، ويَغْفِرَ زَلَّتَه، ويَرْحَمَ عَبْرَتَه، ويُقِيلَ عَثْرَتَه، ويَقْبَلَ مَعْذِرَتَه، ويَرُدَّ غِيبَتَه، ويُدِيمَ نَصِيحَتَه، ويَحْفَظَ خِلَّتَه، ويَرْعَى ذِمَّتَه، ويُجِيبَ دَعْوتَه، ويَقْبَلَ هَدِيَّتَه، ويُكَافِئَ صِلَتَه، ويَشْكُرَ نِعْمَتَه، ويُحْسِنَ نُصْرَتَه، ويَقْضِيَ حَاجَتَه، ويَشْفَعَ مَسْأَلَتَه، ويُشَمِّتَ عَطْسَتَه، ويَرُدَّ ضَالَّتَه، ويُوالِيه، ولَا يُعَادِيه، ويَنْصُرَهُ عَلَى ظَالِمِه، ويَكُفَّهُ عَنْ ظُلْمِهِ غَيْرِه، ولَا يُسْلِمَه، ولَا يَخْذُلَه، ويُحِبَّ لَهُ ما يُحِبُّ لِنَفْسِه، ويَكْرَهَ لَهُ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِه".

وسوم: العدد 998