اليد الساحرة

حماد صبح

لم أعرف اسم الصبية إلا أنني سميتها في نفسي منذ تلك الليلة " اليد الساحرة " ، فيا لسحر لمسة يدها ! كانت لمسة مبهرة حقا . ليس مهما أن أقول متى وأين حدث كل شيء في هذا الشأن ، وحسبي أن أقول  إن الليل أدركنى حين كنت أجوز ناحية قليلة السكان في الريف ، ولم يكن لي أمل في بلوغ  القرية التي أقصدها إلا في وقت متأخر من ذلك اليوم لسيري على قدمي ، ومن ثم آثرت البحث عن ملاذ آوي إليه ، ومبيت الليل في أول منزل متواضع قد يهيئه الله لي . وكان أن ألفيت نفسي مع تكاثف ظلال الليل قرب منزل يلمع النور من نوافذه العارية من الستائر ما بدا وعدا حسنا بترحيب طيب وراحة أنا في أشد الحاجة إليها . ويقوم المنزل داخل سياج  على بعد يسير من الطريق الذي كنت أسير فيه موهون القوى ، فانعطفت جانبا ، ووصلته بعد أن اجتزت بوابة رديئة التركيب ، انفتحت بطيئة على مفصلاتها الخشبية ، وعادت للانغلاق  دون أن يوقع صوت عودتها إليه أي صدى له في الأثير . ولما دانيت شرفة البيت الأمامية لقيت صبية رقيقة العود ، لحظت دخولي فوقفت تنتظرني . واستجاب لصوت انغلاق البوابة نباح عميق سريع كأنه صدى صوت انغلاقها ، وبغتة مثل طيف ، انجلى كلب ضخم في مدخل المنزل . وصرت اللحظة قريبا قربا كافيا لرؤية منظره الوحشي ، وتجميعه لحركة جسمه كأنه يتهيأ للاندفاع صوبي .كانت زمجرته الذئبية مرعبة حقا . وحالما هم بالانقضاض علي انوضعت يد رشيقة على عنقه الكث الشعر ، وسمعت كلمة مهموسة ، وقال صوت : " لا تخف ! لن يضرك " ، وبدا لي الصوت حلوا موسيقيا ، فتقدمت وفي نفسي ارتياب في قدرة الصبية في السيطرة على الكلب الذي ما فتئت  يدها الصغيرة على عنقه الخشن ، ولاح لي أنه لم يتقبل مجيئي بحال ، وعبر عن سخطه عليه بهرير شرير . قالت الصبية : " ادخل يا نمر ! "

دون أن يظهر في نبرة صوتها من السلطة ما يشعرك بأنها ستطاع . ومسحت خلال كلامها على ظهر الكلب ملاطفة له ، فانصرف ودخل المنزل .

وسأل صوت أجش : " من ؟! "

وحل في الباب محل الكلب شخص جهيم الملامح ، وتابع : " من أنت ؟! ماذا تريد ؟! "

وكان في كلامه جلافة مفرطة ونذير سوء . ووضعت الصبية يدها فوق ذراعه ، ومالت ضاغطة على تلك الذراع برقة . سألتُ : "كيف أقطع مسافة طويلة في الليل إلى بلدة (ج) ؟! لذا أبحث عن مكان أبيت فيه هذه الليلة " ، وكنت أحس أنه ليس لائقا قول ما قلت من البداية ،

فزمجر ولكن بصوت أقل جلافة مما سلف : " تقطع مسافة إلى (ج ) ؟! إنها ستة أميال ليس غير " ،

فقلت : " بل هي طويلة ، وأنا ابن سبيل ، وأسير على قدمي ، وسأشكرك لو فسحت لي مكانا أبيت فيه حتى مطلع الفجر " ، وعندئذ رأيت يد الصبية تتحرك سريعة فوق ذراعه حتى استقرت على كتفه ، وزادت ميلها عليه ، فقال : " طيب ! ادخل ! سننظر ما يمكن أن نفعله لك " ، وتعجبت مما حدث في صوته من تبدل . دخلت حجرة فسيحة تتلهب فيها نار يجلس قربها فتيان بدينان ، التفتا نحوي بعيون مثقلة خالية من أي ترحيب ، وفي الحجرة امرأة في منتصف عمرها ، وطفلان يتلهيان بطائرة ورقية على أرض الحجرة .

قال الشخص الذي حياني عند الباب تحية كبيرة الفظاظة : " عابر سبيل يا أمي ! يريد أن يبيت عندنا كل الليل " . فنظرت المرأة إلي عدة دقائق بارتياب ، ثم قالت باردة اللهجة : " ليس عندنا بيت عام " .

قلت : " أعلم هذا يا سيدتي ، ولكن الليل دهمني ، والطريق طويل " ، وهنا قال رب البيت عاطفا : " مسافة طويلة يصعب على رجل منهك قطعها سيرا على قدميه ، لا فائدة من الكلام يا أمي في الأمر ، لابد من وهبه فراشا " .

وفي سلاسة خالصة حتى إنني لم أنتبه إلى حركتها ، اقتربت الصبية من المرأة ، ولم أسمع ما قالت لها ؛ لأنها نطقت كلماتها القليلة هامسة الصوت إلا أنني لحظت خلال كلامها يدا صغيرة جميلة تستقر على يد المرأة . ترى أكان في لمسة تلك اليد سحر ما ؟!

ذلك أن منظر المرأة البغيض المقزز انقلب إلى ترحيب بي ودود . قالت : " صحيح ، ستة أميال مسافة طويلة . أحسبنا قادرين على وجدان مكان له . تعشيت ؟!

فنفيت أنني تعشيت ، فسحبت دون مزيد من الكلام مائدة من خشب الصنوبر من تجويفةٍ في حائط الحجرة ، وحطت فوقها بعض اللحم البارد ، وخبزا جديدا وزبدة وإبريق حليب جديد .

وانتاح لي خلال هذه الإجراءات مزيد من الوقت لملاحظة حال الأسرة ملاحظة مدققة ، فاكتشفت تباينا بين الصبية وبين بقية المقيمين في الحجرة إلا أنني توثقت من شبه قوي بينها وبين المرأة التي قدرت أنها أمها بقسماتها البنية القاسية التي تشبه قسمات الصبية . وما أن شرعت في تناول عشائي حتى شرع الطفلان اللذان كانا يلعبان على أرض الحجرة في الشجار ، فقال الأب في صوت حاسم بات يخاطب أحدهما : " جون ! انصرف إلى فراشك ! "

إلا أن جون أبى مطاوعة الأمر الذي سمعه ، فأعاد الأب الغاضب مخاطبته : " أتسمعني يا سيد ؟! انقلع ! " ، فأن الطفل قائلا : " لا أريد أن أنصرف " ، فقال الأب : " أقول لك انصرف في هذه الدقيقة ! " ، ولم يبدِ الطفل أي حركة للمطاوعة ، وظهر متمردا حرونا . ولما تأزم الموقف ، ولاح أن هبوب عاصفة ما قادم لا محالة ؛ انسابت الأخت _ مثلما قدرتها _ في الحجرة ، ومالت على الطفل ، وأخذت يديه بين يديها دون أن تنطق أي كلمة ، فارتدع المتمرد الصغير من فوره ، وقام وخرج معها ، ولم أره بقية تلك العشية . وما تعشيت حتى دخل جار للأسرة ، وسرعان ما انهمك مع ربها في جدل سياسي ساخن حوى من التوكيدات الجازمة أكثر مما حوى من التدليلات الفاهمة . ولم يكن مضيفي صاحب عقل صافٍ نير بينما ظهر خصيمه في الجدال ذا بيان وروغان ، ومن ثم ، وهو أمر مقطوع بحتميته ، استثير مضيفي استثارة عالية ، وانغمس بين حين وآخر في استعمال عبارات محتدة مشتدة نحو جاره الذي رد بدوره بضربات بلاغية تحاكي في قوتها الضربات التي سددت إليه ، بل زادت ضرباته زيادة كبيرة من تكدير مضيفي وتنغيص باله . وها أنا ينتاح لي من جديد شهود قوة لمسة يد الصبية السحرية . ولم ألحظ تحركها إلى جانب أبيها ؛ إذا كانت إلى جانبه فعلا  حين لحظتها تضع يدها على خده ، وتلاطف شعره في حركة حانية ، وفورا سكنت نبرة صوته العالية المحتدة ، وقل الحقد الشخصي في كلماته مع اتصال الجدال . ولحظت أن يد الصبية المستقرة على خد الأب عندما يفوه بالكلمات المحتدة كانت تعاود ملاطفتها لخده حالما تلوح أصغر بادرة غضب في صوته . كان المشهد فاتنا حقا ، ولم أقوَ على منع   نفسي من متابعة النظر إليه والتعجب من قوة سحر لمسة  يد تلك الصبية الفائقة الخفة والسلاسة ، ومع هذا لها سحر غلاب على قلوب كل المحيطين بها . وظهرت في وقوفها في المكان مثل ملاك سلام أرسل لتسكنة أمواج العواطف الإنسانية الهائجة المضطربة . وإذ سيطر علي الأسى عند مبارحتي المكان فإنني لم أتوقف عن التفكر فيها بين الأجلاف الأوقاح الذين لا يحتاج أحد أكثر منهم إلى التأثير المسكن والجالب للمشاعر الإنسانية المنبعث من لمسة مثل لمسة يد تلك الصبية الساحرة . ولحظت مرارا خلال تلك العشية قوة سحر يدها وصوتها اللذين يتماثلان قوة وسحرا . وعندما كنت أتهيأ صبيحة تلك الليلة بعد الفطور للمبارحة ؛ أخبرني مضيفي أنه سيقلني في عربته إلى بلدة ( ج ) إذا تريثت نصف ساعة لكون عمله يستدعي ذهابه إليها ، فسررت كل السرور لقبول تلك الدعوة . وتحركت عربته في الوقت المحدد إلى الطريق الكائن أمام البيت ، ودعيت إلى ركوبها ، ولحظت أن فرسها يشبه في خشونة منظره الفرس الكندي القزم ؛ إذ بدا عليه الجمود والحرن ، ولما اتخذ المزارع مقعده إلى جانبي خرجت الأسرة لتودعنا .

قال في صوت حازم محركا الزمام حركة سريعة : " هيا يا دِك ! " إلا أن دك لم يتحرك ولا خطوة ، فعاد المزارع يقول : " دك ! يا متشرد ! انهض ! " ، وفرقع صوته فرقعة حادة قرب أذنه ، فلم يُجدِ قوله الثاني نفعا ؛ لأن دك وقف حرونا متصلبا ، فهوت عليه ثانية يد ذاهبة الصبر بالسوط ، فما زاد على رفع يديه قليلا ، فأهوت عليه عدة ضربات سريعة لاهبة .

وخرج إلى الطريق فتى بدين ، وأمسك زمام دك ، وحركه أماما مستعملا الكلمات المألوفة في هذه الحالة إلا أن دك قابل الفتى بزيادة حرونه ، فرسخ قوائمه في الأرض بزاوية أشد حدة مما سلف ، فضرب الفتى الضائق الصدر جانب رأسه بقبضته ، وحرك زمامه بقوة كبيرة دون فائدة ، فدك ما كان لتغلبه أي من هذه الطرائق . والتفت حين سمعت صوت الصبية الحلو : " لا تفعل هذا ياجون ! " ، وكانت تجتاز البوابة إلى الطريق ، وأمسكت بالفتى وأبعدته عن الفرس دون أن تصرف أي جهد في ما فعلته ، فقد أمسكت ذراعه ، فأطاعها مستجيبا راغبا كأنه لا يفكر إلا في مرضاتها ، وبعدئذ استقرت اليد الرقيقة ناعمة فوق عنق الفرس ، وهمست صاحبتها كلمة واحدة ، فما أسرع ما لانت العضلات المشدودة ، وما أسرع ما اختفى مظهر الفرس الحرون !

قالت الصبية مربتة على عنقه : " يا دك المسكين ! " ، وأردفت في بعضٍ من اللوم وإن بصوت حنون وهي تسحب زمامه : " سر الآن يا صانع المشاكل ! " ، فالتفت إليها ، ومسح رأسه لحظة بذراعها ، ثم رفع أذنيه ، واندفع في خبب رشيق مرح ، وتابع خببه حرا كأنما لم تساور باله من قبل أي نزوة حرن سخيفة . قلت لصاحبي في انطلاقنا : " ما أعجب قوة تلك اليد ! " ،

فنظر إلى قليلا كأن ملاحظتي باغتته ، واستنارت قسمات وجهه ، وقال مقتضبا : " إنها طيبة ، وكل شخص وكل شيء يحبها " . أكان ما قاله سر قوتها حقا ؟! أكانت مزية روحها بادية في أثر يدها حتى لدى الحيوانات المتوحشة ؟! لا ريب في أن تعليله هو التعليل الصحيح لتلك القوة ، بيد أنني تعجبت وما فتئت أتعجب من عظم القوة في اللمسة السحرية ليد تلك الصبية . شاهدت في حياتي شيئا من نفس النوع من القوة يظهر عند المحبوبين والطيبين من الناس إنما ليس بنفس القوة التي لديها والتي ما فتئت لا أجد لها اسما أحسن من " اليد الساحرة " . لمسة رقيقة ، كلمة ناعمة . آه ! ما أقل الذين لا يؤمنون بتأثير القوى التي تبدو ظاهريا بلا قيمة حين يسيطر الهدف بقوة على ما يريدون تحقيقه ! ومع هذا فإن كل صنوف التأثير العظيمة تحقق غاياتها صامتة سلسة وبقوة تبدو عند أول نظرة غير ملائمة . ترى ، أليس لنا جميعا عبرة في هذا ؟!

الكاتبة الأميركية ماري رينهارت ( 1876 _ 1958 ) 

وسوم: العدد 832