لابس السترة البنية

حماد صبح

أحترف كتابة تاريخ ما يفعله الناس ، وكتبت حتى الآن ثلاثة من هذه التواريخ مع أنني ما فتئت في فجر شبابي . كتبت ما عدده ثلاثة ، أربعة آلاف كلمة اليوم . زوجتى موجودة في موضع ما من هذا البيت الذي انقضى على جلوسي فيه وانصرافي للكتابة عدة ساعات . وزوجتي امرأة طويلة ، لها شعر أسود  وخطه بعض الشيب . أصخ سمعا ! إنها ترتقي الآن الدرج برقة ، ولبثت طول النهار تلوب في البيت لينة الحركات وهي تؤدي أعماله الواجبة .  وعني ، فإنني قدمت إلى هذه المدينة من مدينة أخرى في ولاية إيوا حيث كان والدي يعمل دهان بيوت ، وبداهةً لم يقدر له أن يرتقي في هذه الدنيا ارتقائي ، أنا الذي درست في الكلية ، وصرت مؤرخا . وتملك أسرتي البيت الذي أجلس فيه ، والحجرة التي أكتب فيها الآن حجرتي الخاصة ، وسلف لي أن كتبت تواريخ ثلاثة شعوب أوضحت فيها كيف أسست الدول ، وكيف أديرت المعارك ، وفي وسعكم أن تروا كتبي منتصبة على رفوف المكتبات انتصاب الحراس . وأنا طويل مثل زوجتي ، وكتفاي مائلتان قليلا ،  كما أنني  شخص خجول مع أنني جريء في كتابتي ، وأميل إلى أن أكتب وحيدا في هذه الحجرة والباب موصد ، وفي الحجرة كتب كثيرة ، وفي هذه الكتب تذهب الشعوب وتجيء ، وجو الحجرة هادىء بينما يوالي الرعد العظيم قصفه في هذه الكتب . ولزوجتي سحنة جادة ، بل قل صارمة ، وأحيانا تروعني الخواطر التي تساورها . ومن عادتها أن تبارح البيت عصرا للتنزه ، فتقصد المحلات ، أو تزور إحدى الجارات . وهناك بيت أصفر الطلاء قبالة بيتنا ، وتخرج زوجتي من باب جانبي ، وتمضي في الشارع الذي يفصل بيتنا عن البيت الأصفر . وأسمع الآن دقا على الباب الجانبي لبيتنا ، وتعبر لحظة ترقب ، وينساب وجه زوجتي في الخلفية الصفراء للصورة . الأشياء الصغيرة تصير كبيرة في ذهني ، والنافذة المواجهة لمكتبي تمثل مكانا صغيرا مؤطرا يشبه الصورة . أجلس يوميا على هذا المكتب أبحلق خلال هذه النافذة ، وأنتظر بشعور غريب وقوع تهديد وشيك لي . يدي ترتجف . الوجه المنساب في الصورة يفعل ما لا أفهمه . إنه ينساب ، ثم يتوقف . يذهب من اليمين إلى اليسار ، ثم يقطع حركته . يلج ذهني ويبارحه .  ينساب فيه . سقط القلم من يدي . البيت ساكن . تنأى عني عينا الوجه المنساب . وقد جاءت زوجتي إلى هذه المدينة من مدينة أخرى في ولاية أوهايو ، ولدينا خادم إلا أن زوجتي غالبا ما تكنس أرضية البيت ، وتهيء الفراش الذي نرقد فيه نحن الاثنان . وعادة نجلس معا مساء إلا أنني أجهل كنه شخصيتها كما أنني لا أقدر على الخروج من ذاتي  ، وألبس سترة بنية لا يمكنني خلعها . لا يمكنني الخروج من ذاتي  . وزوجتي رقيقة جدا ، وكلامها لين ، ولكنها مثلي لا يمكنها الخروج من ذاتها . وقد خرجت الآن من البيت ، وهي تجهل أنني أعلم كل خاطرة من خواطرها . أعلم في ما فكرت حين كانت طفلة تمشي في شوارع أوهايو . سمعت أصوات عقلها هناك . سمعت أصواته الصغيرة . سمعت صوتها بكائها خوفا حين اجتاحها الانفعال أول مرة وهي تنسل بين ذراعي ، وسمعت أصوات خوفها ثانية حين نبست شفتاها كلمات جريئة أول مساء بعد زواجنا وانتقالنا إلى هذا البيت . وستكون قدرتي على الجلوس هنا ، مثلما أجلس الآن ، غريبة في الوقت الذي ينساب فيه وجهي في الصورة التي يرسمها البيت الأصفر والنافذة ، سيكون غريبا وجميلا إذا لقيت زوجتي وجها لوجه . إن المرأة التي ينساب وجهها في صورتي لا تعلم عني شيئا الآن ، ولا أعلم عنها شيئا . ابتعدت في شارع . أصوات عقلها تتكلم . وأنا وحيد في هذه الحجرة وحدة لا شبيه لها . سيكون غريبا وجميلا إذا جعلت وجهي ينساب في صورتي ، وإذا صار وجهي المنساب مع زوجتي منسابا أيضا مع أي رجل وأي امرأة آخرين . حدوث هذا سيكون غريبا وجميلا . وأخبركم أن حياة هذا العالم كله تنساب أحيانا في ذهني في صورة وجه بشري . وجه العالم ذو السمات الدالة على غياب الوعي يتوقف  وينتصب ساكنا أمامي . لماذا لا أقول كلمة للآخرين ؟! لماذا لا أستطيع طول حياتي مع زوجتي اختراق الجدار الفاصل بيننا ؟! كتبت من قبل ثلاثة ، أربعة آلاف كلمة . أليس من كلمات أخرى تقود إلى الحياة ؟! يوما سأكلم نفسي ، يوما سأجعل بيني وبينها عهدا بأن يكون ولائي ووفائي لها وحدها .

*الكاتب الأميركي شير وود أندرسون ( 1876 _ 1941 ) .

وسوم: العدد 852