الشاعر الأميركي هنري ديفيد ثورو (1817 _ 1862.. ) حياته وشعره

حماد صبح

فارق ثورو دنيا الناس في الثالثة والأربعين من عمره بعد أن نشر بعض كتاباته . وقد صور مأزقه الخاص حين قال : " كانت حياتي القصيدة التي تمنيت كتابتها إلا أنني لم أعشها ولم أكتبها " ، ولعله لم يفعل سوى ذلك ، أي عاشها وكتبها . وعكست حياة ثورو الخارجية حياته الداخلية مثلما تعكس البركة الصغيرة الساكنة صورة الجبل مصغرة على صفحتها . كانت كونكورد التي عاش فيها ومات بلدة صغيرة إلا أنها كانت مركز حياة عقلية وثقافية نشطة ، ولم يحل فقر أسرته دون أن يبدأ بداية حسنة في دراسة الأدب الكلاسيكي في الأكاديمية المحلية . وأقام أوَدَه في كلية هارفرد بكيمبردج على مبعدة أميال قليلة بمعونة خالته ، وبأدائه أعمالا رخيصة الأجر مملة ، وإعطاء دروس في أوقات فراغه وإجازاته . وهنالك طفق يكتب " يومياته " التي صارت أضخم كتاباته حجما ، ومستودعا لنظراته وفكراته . واختبر حظه في التعليم عقب تخرجه ، فأدار  لبعض الوقت مدرسة خاصة مع أخيه جون ، وما لبث أن عزف عن مهنة بالمعنى الحرفي للمهنة . صحيح أن العيش غاية الحياة إلا أن العمل ليس غاية في ذاته ، وإنما وسيلة لبلوغ احترام الذات التي يشق بها الإنسان سبيله في الحياة . وأثناء بنائه لبيته الخاص عاون أباه في صناعة الأقلام إلا أنه فقد حماسته لها حالما استطاع مع أبيه صناعة أحسن قلم رصاص حتى ذلك الحين . وخلال عيشه مع الكاتب إيمرسون بين سنوات 1841 _ 1843 ، و 1847 _1848 امتهن أعمالا متدنية الأجر ، ولبث في البيت حين كان إيمرسون مسافرا في الخارج . ونراه حين أقام في منزل وليم شقيق إيمرسون في جزيرة ستاتن في 1847 يدرس الصبية .  

ومارس في كونكورد مهنا متنوعة ، فعمل أجيرا ، ومسح أراضي الآخرين دون أي حب لتلك المهنات . وفي هاته الأثناء ، مثلما كتب في يومياته ، شرع  يثري حياته العقلية إثراء متوسعا بالخبرة ومتابعة القراءة . وفي سنة تخرجه في هارفارد في 1837 ، وجه إيمرسون خطابه الشهير عن " الدارس الأميركي " ، فغدا إيمرسون والخطاب المقال المرشدين المبكرين له من ذلك الحين . 

وألقى في السنة التالية محاضرته الأولى في قاعة المحاضرات العامة lyceum في كونكورد . وألقى بعدها محاضرات امتدت أماكنها من بانجور في مين إلى فيلادلفيا إلا أنه ما حاز براعة إيمرسون في مخاطبة المستمعين  . واكتسب في رحلاته لإلقاء محاضراته أصدقاء متنوعين منهم أوريستس براونسون  وهوراس جريلي وجون براون والشاعر الذائع الصيت والت ويتمان . وكان هو وإيمرسون أول من توسما مخايل العبقرية الشعرية في ويتمان . وحضر بعد رجعته إلى كونكورد " أحاديث " القاصة .والكوت . واشترك في المناقشات الثقافية ومناشط التحفيز والتشجيع التي كانت تنعقد في نادي الارتقاء الشعبي في كونكورد وبوسطون . ورعى ذلك النادي مجلة " المزولة " في سنوات 1840 _ 1844 التي زودها ثورو بمقالات مستقاة من يومياته ، ومن دراسته للتاريخ الطبيعي والفلسفة. ونشر كذلك أجود قصائده في " المزولة " . وجاءت قصائده اللاحقة في غالبها أصيلة في استلهامها  وفي استقلالها . ولم يقصد إيمرسون سوى إطرائه حين قال : " سيرته قائمة في شعره " . وصحيح أيضا أن استجابته الغنائية العاطفية للأفكار تهيمن على شعره ونثره وحياته ذاتها ، وهو نفسه أقر بهذا ضمنا حين ضم كثيرا  من شعره في " أسبوع على ضفاف نهري كونكورد وميريماك " في 1849 ، و " والدن " في  1854، وهما العملان الأدبيان  اللذان نشرهما قبل وفاته ، بيد أنه من الخطأ أن نفترض أن الذاتية النقية التي تميز كتاباته لا تنبىء إلا عن نقاء تحطم في حياته . فكثير من جيرته في ماساشوستس ، وحتى بعض المغالين في أفكارهم وسلوكهم عدوه متطرفا خاصة في القضايا الاقتصادية والقضايا العامة . واصطدم مع إيمرسون  اصطدامات  محنقة مؤلمة . وكابد في حياته الخاصة ضروبا من الحرمان عميقة . وجهر أخوه جون الذي يكبره سنا ، وكان صديقا ودودا له ،  بهواه لإلن سيوول التي كان ثورو يطمح إلى أن يتزوجها ، فرفضت الاثنين كليهما . ومات جون بعد عامين بالكُزاز في السابعة والعشرين من عمره ليكون أول ضحايا بؤس أسرته ، ثم ماتت أختهما هيلين الأثيرة عندهما في السادسة والثلاثين ، ومات بعدها ثورو بسبع سنوات صريع السل . صنع جانبان من جوانب حياة ثورو قوام مادته الأدبية ، وهما : اهتمامه الشديد بالقضايا الاجتماعية ، وشعوره بوحدة الإنسان والطبيعة . واهتم في الجانب الأول اهتماما مبكرا بقضية إلغاء العبودية  متخذا صفة المتكلم باسم التقاليد والقوى المتصدية لها  ؛مرة بالتآزر مع جون براون الذي دافع عنه جهارا بعد الغارة الدموية الرهيبة على هاربرز فري في 1854 ، وفي " التماس  من أجل جون براون " في 1859 . واستطاع ربط تمرده الذاتي بالقضايا الاجتماعية الكبرى مثلما فعل في مقاومته لفرض الضرائب حين رفض دفع ضرائب الكنيسة في 1838 لتحصيلها من الناس دون تمييز بين دخولهم .  وفي رفضه لضريبة حق الاقتراع الذي  سجن بسببه في 1847 فهو إنما كان يقاوم المفهوم " الدستوري " الذي دفع ولاية ماساشوستس ، في الكونجرس ، إلى تأييد القيادة الجنوبية ؛ ذلك المفهوم الذي ظهرت آثاره في الحرب المكسيكية _ الأميركية ، وفي القوانين البغيضة الخاصة ب " استملاك " العبيد . وصاغ بعد أربع سنوات نظريته في العمل الاجتماعي في مقال " العصيان المدني " الذي هو أصل المفهوم الحديث للمقاومة السلمية بوصفها الوسيلة الأخيرة للتعبير عن رأي الأقلية ، والتي وجدت تجليها المذهل في حياة المهاتما غاندي في الهند . وتبين كتابات ثورو في كل حالاتها نزعته الفردية الاقتصادية والاجتماعية إلا أن قراءه لبثوا حتى قريب لا يتجاوبون كثيرا إلا مع وصفه اللطيف والمفعم بالعاطفة للطبيعة ، وانتفاعه المدهش من المخزون المعرفي القديم ، وما في أسلوبه من فطنة ورشاقة وقوة . وأساس وصفه للطبيعة هو يومياته عن نزهاته المتنوعة مثلما سماها . ووصف في ديوانه " أسبوع على ضفاف نهري كونكورد وميريماك " الذي كان أول منشوراته ؛ رحلة في زورق قام بها مع أخيه جون في 1839 . ومن الرحلات الأخرى ذات القيمة الأدبية اكتشافاته لغابات بينوبسكوت في مين في 1846 ، و 1853 ، و 1857 ، وجولاته على قدميه  في  كيب كد في 1840 ، و 1850 ، و   1855،  و 1857 ، وفي كندا . ونشرت بعض هذه المقالات في عدد من المجلات قبل وفاته . ونشر أصدقاؤه عقب تلك الوفاة مقالاته عن " غابات مين " في 1864 ، و " كيب كد " في 1865 ، و " أميركي في كندا " في 1866 التي كانت حصاد رحلة إلى كندا مع و . إي . تشاننج في 1850 . وتقريبا يتكثف أكثر ثراء ثورو الأدبي في كتابه " والدن " متمظهرا في تجليته لبساطة الطبيعة ووحدتها الفطرية ، وفي إيمانه بالإنسان ، وفي فرديته الصلبة ، وفي عشقه العميق الجذور لمكان واحد تحديدا باعتباره صفوة مصفاة لسائر الوجود . إن ثورو يذكرنا بهويتنا الحالية والهوية التي يمكن أن نكون عليها مستقبلا . 

                        *** 

من قصيدة " خريف الشجر " : 

العام يدنو من نهايته ، 

وفي الحقول تبدو سمات نهايته ، 

بعدما ولت زينات الصيف البهيجة . 

وها هو الليل يلون الجو بسواده . 

تبصَر ! هاهي ظلال الشجر تتسع دائرةً 

حول سوقه ، 

كأنها حراس يطوفون حوله  

في خطا وئيدة رفيقة لحمايته . 

*الترجمة موزونة :  

*عن كتاب " التراث الأميركي في الأدب " . 

وسوم: العدد 903