وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض

حماد صبح

نادت السيدة جروف من الباب المفتوح على حديقة البيت : آمي ! 

فلم يجبها أحد . كانت الشمس انحدرت إلى مغربها قبل نصف ساعة ، فأشعتها المودعة تصبغ باللونين الذهبي والقرمزي الخفيفين ؛ الغيوم  القليلة التي تكسو حافة السماء الغربية . وفي الشرق ، كان البدر يشرق بكل حسنه جالبا الشحوب للنجوم التي كانت تومض في السماء .  

سألت الأم : أين آمي ؟! هل رآها أحد تدخل البيت ؟! 

قال أخو آمي الذي كان مع سكينه يحاول صنع زورق من خشب الصنوبر : رأيتها قبل نصف ساعة تصعد الدرج حاملة حبيكتها . 

فقصدت الأم مدخل الدرج ،ونادت ثانية دون أن يأتيها رد . قالت لنفسها وشعور بالقلق الخفيف يغشاها  : لا أدري أين الطفلة الآن .  

ثم صعدت الدرج بحثا عنها ، فألفت باب حجرتها موصدا إلا أنها حين فتحته رأت صغيرتها قاعدة لدى النافذة المفتوحة تنظر إلى  السماء المنارة بالبدر التي استحوذت على كل حواسها وأفكارها حتى إنها لم تسمع صوت ولوج أمها التي نادتها : آمي !  

ففزعت ، ثم قالت معجلة : أمي ! تعالي انظري ! أما هذا مشهد بديع ؟! 

سألت جروف وهي تقعد قربها ، وتطوقها بذراعيها : إلام تنظرين يا عزيزتي ؟! 

_ إلى البدر والنجوم والبحيرة التي لدى التل . انظري إلى المسار الكبير من النور الذي ينساب خلال الماء ؟! أما هو بفتان يا أماه ؟! يشعرني بالسكينة والسعادة . أتعجب من علة وجوده .  

_ أقول لك العلة .  

_نعم يا أمي العزيزة . ما علته ؟!  

_ الله خلق كل طيب وحسن . 

_ نعم . أعلم هذا . 

_ خلق كل طيب وحسن إكراما للإنسان لكون الإنسان أسمى المخلوقات وأقريها إلى الله . كل المخلوقات خلقت لخير الإنسان . والعلة أن الله خلقها له حفاظا على حياة بدنه أو حياة نفسه . 

قالت آمي : لا أعلم ما نفع البدر والنجوم . 

قالت الأم : ومع هذا قلت منذ لحظة إن حسن نور بدر هذه العشية أشعرك بفرط السكينة والسعادة . 

_ نعم . هذا حق ، وكنت تنوين بيان علته لي . 

قالت الأم :  بداية ، دعيني أذكرك بأن البدر والنجوم تمنحنا النور ليلا ، وأنك إذا صدف وكنت في بيت الجيران بعد غروب الشمس فإنها ستكون ذات نفع جليل في هدايتك إلى بيتنا . 

قالت آمي : لم أفكر في هذا حين تحدثت عن انعدام شعوري بأي نفع لهما . 

وتابعت أمها تقول : خلق الله كل ما هو طيب وبديع لنفع الإنسان مثلما قلت لك توا . وكل هذه المخلوقات الطيبة والبديعة تأتي إلينا بنعمة مضاعفة . واحدة لأبداننا وواحدة لنفوسنا  . فالبدر والنجوم لا تمنحنا النور الليلة لإنارة دربنا المظلمة فحسب ، ولكن وجودها الهادىء يملأ نفوسنا أمنا ، وهي تفعل هذا ؛ لأن كل ما في الطبيعة بصفته من خلق الله فيه شيء من ذات الله لا تبصره عيوننا ، وتستشعره نفوسنا . أتفهمين أي شيء مما أقول يا آمي ؟!  

أجابت : أفهم قليلا فحسب . تقصدين يا أمي العزيزة أن الله موجود في البدر والنجوم ، وفي  كل شيء آخر خلقه ؟!  

_ ليس هذا ما قصدته تخصيصا . قصدت أنه _ سبحانه _ خلقها على هذه الصورة ليكون كل مخلوق منها في شفافية مرآة لترى نفوسنا بعض حبه وحكمته متجليين في هذه المرآة . في الماء نرى صورة حقيقته ، وإذا علمنا هذا فمن شأنه إرواء عقولنا الظماء ، وتنقيتنا من دنسنا . وفي الشمس نبصر صورة من حبه الذي يمنح النور والدفء وكل الحسن والصحة لنفوسنا . 

سألت آمي : وما ذا في البدر ؟!  

_ البدر بارد وهادىء ، وليس دافئا ومشرقا مثل الشمس ، وهو بهذه الصفة يخبرنا بحب الله لنا ، وإذا علمنا هذه الحقيقة عنه ، هو الذي لم يجعله الحب دافئا ومشرقا ، علمنا أنه يهدينا سبيلنا في الظلام إلا أنك أصغر كثيرا من أن تفهمي الكثير عن هذا الأمر ، ويكفيك أن تعلمي أن كل ما تبصرينه من الأشياء الطيبة والبديعة من خلق الله تعكس كل شيء في طبيعته وماهيته في نفسك ، وهذا يفسر أن الأشياء العذبة والجليلة والنقية والحلوة تفعم  قلبك بالأمن والحبور حين تنظرين إليها . 

                               *** 

ولبثتا بعد حديثهما وقتا يسيرا تنظران من النافذة وكلتاهما تشعران بفائض الأمان والسلام بين يدي الله وما خلق ، ثم سمعتا صوتا من أسفل الدرج ، فقامت آمي وهتفت : قدم أبي ! 

وأمسكت يد أمها ، ونزلتا للقائه . 

*للكاتب الأميركي تيموثي آرثر ( 1809 _ 1885 ) .  

وسوم: العدد 953