امرأة ضعيفة

حماد صبح

ذهب كيستونوف صبحا إلى مكتبه رغم نوبة داء المفاصل التي نابته ليلا وما خلفته في بدنه من وهن ، وشرع في الوقت المحدد يقابل عملاء المصرف والأشخاص الذين قدموا حاملين دعاواهم . بدا نحيلا منهكا ، وتكلم بصوت واهن لا يكاد يعلو على الهمس كأنه يُحتَضَر . 

سأل سيدة تلبس معطفا عتيقا، ويوحي مظهرها الخلفي إلى حد بعيد بما يشبه جُعلا كبيرا : ماذا تريدين مني ؟! 

فطفقت تتكلم سريعا : لعلمك يا صاحب الفخامة ، زوجي شيتشوكين مخمن الضرائب مريض منذ خمسة أشهر ، وأثناء انطراحه في البيت ، إن أذنت لي بقول هذا ، فصلوه من عمله يا صاحب الفخامة .وحين ذهبت لاستلام مرتبه خصموا منه أربعة وعشرين روبلا وستة وثلاثين كوبكا ، فسألتهم : " لماذا ؟! " ، فأجابوني : " اقترضها من مال النادي " ، وكفله الكتبة الآخرون . كيف حدث ذلك ؟! كيف اقترض المبلغ دون إذني ؟! مستحيل يا صاحب الفخامة . ما سبب اقتراضه ؟! أنا امرأة فقيرة . أكسب قوتي من إيجار بيت لي . أنا امرأة ضعيفة . لا حول لي ولا طول . أنا مجبرة على تحمل الإساءة من كل الناس دون أن أسمع كلمة طيبة واحدة . 

وكانت تطرف بعينيها ، وتغوص في معطفها حتى منديلها ، فأخذ كيستونوف دعواها وراح يقرؤها ، ثم سألها هازا كتفيه : ما هذه ؟! لا أستطيع فعل أي شيء بها . واضح أنك جئت إلى العنوان الغلط يا سيدتي . لا يستطيع أي منا أن يفعل شيئا لدعواك . عليك أن تقدميها إلى الدائرة التي كان زوجك يعمل بها .  

فقالت :  لماذا يا سيدي العزيز ؟! ذهبت من قبل إلى خمسة أمكنة ، فلم يقبل أي واحد منها الدعوى .فقدت عقلي تماما . إنما الحمد لله ، بارك الله في بوريس ماتفييتش زوج بنتي الذي نصحني بالمجيء إليك قائلا : " اذهبي يا أمي إلى السيد كيستونوف ، فهو صاحب نفوذ ، وقادر على أن يفعل لك أي شيء . ساعدني يا صاحب الفخامة ! " .  

_ لا نستطيع فعل أي شيء لك يا سيدة شتشوكين ، ويجب أن تفهمي أن زوجك خدم في القسم الطبي التابع للجيش ، ومؤسستنا تجارية خاصة . مصرف . وبالتأكيد يجب أن تفهمي هذا . 

وهز كتفيه ثانية ، والتفت إلى سيد منتفخ الوجه يلبس زيا عسكريا . فقالت السيدة شتشوكين في صوت يبعث على الشفقة : يا صاحب الفخامة ! معي شهادة الطبيب التي تثبت أن زوجي مريض . هاهي ! إن تلطفت بالنظر إليها . 

فقال كيستونوف ضيق الصدر : رائع جدا . أصدقك ، لكن أكرر أن لا جدوى لها عندنا . غريب ولا معقول تماما . مؤكد أن زوجك يعلم أين يجب أن تقدمي دعواك . 

_ لا يعرف شيئا يا صاحب الفخامة . دائما يقول : " هذا ليس شأني . انصرفي ! " . هذا كل ما أناله منه . إذن شأن من ؟! يجب أن أقول كل شيء .  

فالتفت إليها كيستونوف ثانية ، وطفق يشرح الفرق بين إدارة الجيش الطبية وبين مصرف خاص ، فأصغت إليه متنبهة ، وهزت رأسها موافقة ، وقالت : نعم . نعم . نعم . أفهم يا سيدي . في هذه الحالة قل لهم يا صاحب الفخامة أن يدفعوا لي على الأقل خمسة عشر روبلا تحت الحساب ! 

فزفر كيستونوف رادا رأسه إلى الخلف : أف ! لا سبيل إلى تفهيمك .افهمي أن تقديم مثل هذه الدعوى إلينا غريب غرابة تقديم دعوى طلاق مثلا إلى مختبر كيميائي أو إلى دائرة تحليل . لم يدفعوا لك حقك ، ما دخلنا نحن ؟! 

فولولت السيدة شتشوكين : يا صاحب الفخامة ! دعني أذكرك في صلواتي بقية حياتي ! ارحم امرأة وحيدة محرومة ! أنا امرأة ضعيفة لا حول لي ولا طول . أنا قلقة حتى الموت . أنا مضطرة لتسوية أموري مع المستأجرين ، والاعتناء بشئون زوجي ، والطواف حول البيت للاعتناء به ، وأذهب هذا الأسبوع يوميا إلى الكنيسة ، وزوج بنتي عاطل عن العمل ، وقد لا آكل ولا أشرب . بالكاد أقف على رجلي الآن . ما نمت طول الليل . 

شعر كيستونوف بسرعة وجَبان قلبه ، فوضع يده فوقه والكرب بادٍ على وجهه ، وأخذ يشرح للسيدة شتشوكين ثانية إلا أن صوته خذله ، فقال ملوحا بيده : لا . معذرة . لا أستطيع محادثتك . رأسي يدور . أنت تعيقننا وتضيعين وقتك . أف !  

ونادى أحد كتبته : أليكسي نيكوليتش ! هل تتفضل بالشرح للسيدة شتشوكين ؟!  

وذهب إلى حجرته الخاصة بعدما نظر في كل الدعاوى ، ووقع حوالى اثنتي عشرة دعوى في الوقت الذي كان فيه أليكسي لا يزال منشغلا بالسيدة شتشوكين .وسمع كيستونوف في غرفته صوت أليكسي الممتلىء الخفيض المنضبط ، وولولة السيدة شتشوكين الصارخة : أنا امرأة ضعيفة . امرأة بلا حول ولا طول . أنا امرأة صحتي ضعيفة . أبدو قوية شكلا ، لكن إن فحصتني بعناية فلن تجد في جسمي نسيجا واحدا سليما . لا أكاد أقف على رجلي ،وفقدت شهيتي .احتسيت صباح اليوم فنجان قهوتي دون أدنى التذاذ . 

فوضح لها أليكسي الفرق بين الإدارات وبين النظام المعقد لإرسال الدعوى ، وما لبث أن أعياه الإجهاد ، فحل محله المحاسب . قال كيستونوف محتدا مفرقعا أصابعه بعصبية دون أن يتوقف عن الذهاب إلى إناء الماء : امرأة قبيحة قبحا مذهلا ! كاملة الغباء . أجهدتني وستجهدهم . يا لها من مخلوقة كريهة ! أف ! قلبي يخفق بعنف .  

ودق جرسه بعد نصف ساعة ، فحضر أليكسي نيكوليتش ، فسأله واهن الصوت : كيف تسير الأمور ؟! 

_ لم نستطع تفهيمها أي شيْ ! يا بيوتر أليكساندريتش ! ببساطة استنزفت طاقتنا . نتكلم في شيء ، وتتكلم هي في شيء آخر . 

_ أنا ...لا أقدر على تحمل صوتها ... أنا مريض ، لا أقدر على تحمل هذا . 

_ اطلب البواب بيوتر أليكساندريتش ! ومره بطردها ! 

فصاح كيستونوف مرعوبا : لا .لا . ستصرخ ، وفي البناية شقق عديدة ، ويعلم الله ما قد يظنه ساكنوها بنا . حاول أن تشرح لها يا زميلي العزيز ! 

وبعد دقيقة سمع صوت أليكسي نيكوليتش العميق ، وانقضى نصف ساعة ، وبدلا من صوته العميق الخفيض سمعت غمغمة المحاسب القوي الصوت . وفكر كيستونوف غاضبا هازا كتفيه في عصبية : امرأة كريهة بصورة عجيبة . عقلها لا يكبر عن عقل شاة . أظن وخز داء المفاصل (النقرس ) عاد لي . .. وصداع  الرأس النصفي يعود .  

وفي الغرفة الملاصقة كان أليكسي نيكوليتش في نهاية صبره ، فدق المنضدة بإصبعه ، وضرب جبينه ، وقال : الحقيقة أنك بلا عقل سوى هذا ... 

فقالت مستشعرة الأذى : تعال ! تعال ! خاطب بكلامك زوجتك يا برغي ! لا تكن طليق اليدين كثيرا !  

فنظر إليها مغضبا محنقا ، وقال في صوت هادىء مكتوم : غوري !  

فصرخت : ما ... ذا ؟! كيف تتجرأ ؟! أنا امرأة ضعيفة ، لا حول لي ولا قوة . لن أتحمل هذا . زوجي مخمن ضرائب يا برغي ! سأذهب إلى المحامي ديمتري كارليتش ، ولن يبقى منك شيء بعدئذ . عندي ثلاثة محامين مستأجرين ، وسأجعلك ترتمي على قدمي قصاصا منك على كلماتك الوقحة . سأذهب إلى رئيسك يا صاحب الفخامة ، يا صاحب الفخامة ! 

فح أليكسي نيكوليتش عليها : انصرفي يا حشرة ! 

وفتح كيستونوف باب غرفته ، وتطلع في المكتب ، وسأل باكي الصوت : ماذا يحدث ؟! 

كانت السيدة شتشوكين تقف وسط المكتب محمرة مثل سلطعون ، وتدير عينيها ، وتعابث الهواء بأصابعها ، وموظفو المصرف يقفون محمري الوجوه ، ينظرون إلى بعضهم مذهولين والاضطراب يبدو عليهم . وصرخت السيدة شتشوكين واثبة على كيستونوف ، ومشيرة إلى أليكسي نيكوليتش : هنا ! هذا الرجل ! إنه هنا ! هذا الرجل ! 

وضربته على جبينه ، وضربت المنضدة مضيفة : أمرته أنت بالنظر في موضوعي ، وهاهو يهزأ بي ، أنا امرأة ضعيفة لا حول لي ولا طول . زوجي مخمن ضرائب ، وأنا شخصيا بنت رائد في الجيش .  

تأوه كيستونوف : رائع جدا يا سيدة . سأتولى الموضوع . سأتخذ خطوات . اذهبي وانتظري ! 

_ ومتى سأحصل على النقود يا صاحب الفخامة ؟! محتاجة إليها اليوم . 

فمسح كيستونوف جبينه بيده المرتجفة ، وزفر ، وأخذ يشرح من جديد : 

أعلمتك من قبل أن هذا مصرف . مؤسسة تجارية خاصة . ماذا تريدين منا ؟!  

افهمي أنك تعيقين عملنا ! 

استمعت إليه السيدة شتشوكين وتنهدت ، ووافقت على كلامه : مؤكد . مؤكد .فقط أحسن إلي يا صاحب الفخامة ! دعني أدعُ لك بالخير ما عشت ! كن أباً ! احمني ! إن كانت الشهادة الطبية لا تكفي فأنا مستعدة أن أحضر من الشرطة شهادة مشفوعة بالقسم . مرهم بإعطائي النقود ! 

وبدأ كل شيء يسبح أمام كيستونوف ، ونفث كل ما في رئتيه من هواء في زفرة متطاولة ، وانهار يائسا فوق مقعد ، وسألها موهون الصوت : كم تريدين ؟!  

_ أربعة وعشرين روبلا وستة وثلاثين كوبكا . 

فأخرج  محفظته من جيبه ، وانتزع قطعة نقد فئة خمسة وعشرين روبلا ، وقدمها إلى السيدة شتشوكين قائلا : خذيها و ... انصرفي !  

فلفتها في منديلها ، ودستها في ثيابها ،وسألت مبتسمة ابتسامة متكلفة ، بل متغنجة : يا صاحب الفخامة ، وهل ممكن أن يحصل زوجي على وظيفة مرة أخرى ؟! 

فقال كيستونوف موهون الصوت : أنا ماشٍ . أنا مريض . وجبان قلبي مرعب . 

وعقب انصرافه إلى البيت ، أرسل أليكسي نيكوليتش نيكيتا لجلب بعض حب الغار ، وأخذ كل موظف عشرين حبة ،وطفقوا يعملون بينما لبثت السيدة شتشوكين ساعتين في الردهة في حديث مع البواب انتظارا لعودة كيستونوف . وعادت إلى المصرف في اليوم التالي . 

*الكاتب الروسي أنطون تشيكوف ( 1860 _ 1904. 

وسوم: العدد 956