لص... وتوبة

عبد الرحيم عبد الرحمن منصور

عبد الرحيم عبد الرحمن منصور

الزمان :القرن الهجري الأول

المكان : البصرة

الأشخاص : مالك ومجموعة من الأصحاب ( ابو الحجلان  ابن الزعيم   ابن الوكيس   ابو الساهي ) في حانة بالبصرة .

ترفع الستارة  موسيقا هادئة  اضاءة متوسطة

ابو الحجلان : هاتها يا ياقوت  فقد اكتمل النصاب  وطاب الشراب  . بدندن: (اسقنيها   اسقنيها .. امزج الحب فيها ..)

ابن الوكيس : مالي أراك مدبر غير  مقبل يا سيدي مالك  ، اركبتك الهموم أم  أعياك اللصوص !!؟

مالك : لا والله ... وأنت تعلم أنه لا يسمع بي لص في الموصل وأنا في البصرة إلا وترتجف أوصاله , وأنا كما علمت كنت أمارس اللصوصية فبل أن أقلع وأنخرط في الشرط وإني أعلم مداخل اللصوص ومخارجهم , وحيلهم وألاعيبهم .

ابو الساهي : نعم انت كذلك , ولكن ما بك تبدو حزينا مهموما ؟ هلا شاركتنا شرابنا وسمرنا ؟

ابن الزعيم : اتركوه لعله تذكر أمه أو أباه  !

مالك:  لك لسان ياابن الزعيم أخذ يطول , ولا يعي ما يقول , ولئن مارسته  فسأقلعه لك , فأولى لك , وتفكر فيما تقول !.

ابن الوكيس : على رسلك يا مالك  حقا نراك حزينا مهموما  فلو شاطرتنا حزنك وقاسمتنا همك لخففنا عنك .

أبو الحجلان : لا والله لا يطيب المجلس , ولا يخصب بين أيدينا السمر إلا إذا كنت أنت يامالك من يفك أزراره ويطرح إزاره .

مالك : بورك فيكم جميعا ، فلقد رأيت اليوم والله غريبا , وسمعت عجيبا , وأقسم لو تطلب هذا الأمر عمري كله لما توانيت في سبيله , وقد عزمت ...

أبو الساهي : إحك لنا الذي رأيت وسمعت لعل الخير يعم والفائدة تنالنا .

ابن الزعيم : إحك أخي مالك إحك   وأنا أعتذر إليك عما قلته .

مالك : كنت اليوم في السوق (سوق البصرة ) والوقت ضحى أراقب اللصوص والشطار أن يظهروا  فإذا بي أسمع صوتا من وسط السوق  ( ماذا تفعل أيها اللص .. لقد سرقت فرحة بنيتي .. لقد سلبتني ضحكة بنيتي ..)

ابو الحجلان : إذن لقد وقعت على لص سارق .

مالك : ليس اللص الذي أهمني يا أبا الحجلان .

ابن الوكيس : يبدو أن الأمر أهم وأكبر من لص سارق , أكمل يا مالك أكمل ..

أبو الساهي : لقد علمنا أن لا لص يفوتك , ولا شاطر يعجزك , وأنت   من أنت في البراعة والحزم   .

مالك : لقد أمسكت باللص وأشبعته ضربا وتبريحا حتى استجار بحجارة الطريق .

ابن الزغيم : فأين المشكلة إذن ؟

مالك : لقد استوقفتني كلمات الرجل المستغيث :  فرحة بنيتي ... ضحكة بنيتي  ...

ابن الوكيس : ثم .. ماذا حدث ... ماذا فعلت ؟

مالك : لحقت بالرجل ورجوته أن يحكي لي عن ابنته وفرحتها , فقال :

( الكل يتركون ما بأيديهم , ويصغون باهتمام )(الراوي لا يظهر بل يقرأ كلام الرجل بصوت مميز من وراء ستارة )

الراوي : يقلد صوت الرجل ويقول : أنا رجل من سواد البصرة , ولي ابنة صغيرة وحيدة , وكانت تخرج كل يوم إلى ساحة الحي تلعب مع أترابها فإذا عادت إلى البيت عادت حزينة كاسفة البال , أسألها عن سبب حزنها  فتقول : أريد لعبة كما لهن لعبة , أريد لعبة يا أبي  البنات معهن لعبة وأنا لا أملك لعبة .

مالك : فلما رأى الرجل اهتمامي وشغفي بمعرفة ما حدث تابع يقول :

الراوي : فأخذت _ وقد عزمت على شراء لعبة لها _ أوفر كل يوم فلس من المصروف حتى جمعت عدة دراهم  هذه التي حاول اللص سرقتها .

ابن الوكيس : إنها قصة مؤثرة جديرة بالاهتمام أكمل يا مالك !!

مالك : لقد بدأ فلبي يخفق بقوة للطريقة التي كان يحدثني بها الرجل , قال :

الراوي : قلت لها : سأذهب غدا إلى سوق البصرة وسأشتري لك اللعبة التي تريدين . فصاحت المسكينة من فرحتها وقامت ولم تقعد  ولعلها لم تنم ليلتها لفرط فرحها .

ابو الحجلان : ماكنت أحسب أن رجلايراعي أولاده ويهتم بهم كل هذا الاهتمام , ثم ماذا ؟                                                                                                      مالك: والذي   صدمني وأثر في نفسي وزهدني في كل هذا الذي أنتم فيه قول الرجل :

الراوي : اعلم يا سيدي إني لأرجو أن يدخلني الله الجنة , جزاء اهتمامي بهذه الطفلة والإحسان إليها لأني سمعت إمام مسجدنا يخبر عن رسول الله صلى ا لله عليه وسلم أنه ( من كان له بنت أو بنتان ,أو أخت أو أختان فرعاهما وأدبهما , وأحسن إليهما ,أدخله الله الجنة )وأنا أطمع في ذلك .

الكل صامتون كأن على رؤوسهم الطير , ينظرون إلى مالك وقد بدأت الدموع تسيل من عينيه .
 مالك : فكيف سأسمح لذلك اللص أن يسرق مال هذا الرجل ,  وابنته _كما أخبرني _ تنتظر عودته على رأس الطريق بفارغ الصبر , وهي تمني نفسها باللعبة الموعودة التي سيحضرها لها أبوها !؟

يعاف الجميع الطاولة وما عليها من شراب وطعام وقد بدا عليهم التأثر بينما ينهض مالك ويغادر المكان وهو يمسح عينيه من الدموع .

يسدل الستار مع موسيقا حزينة .

 

المشهد الثاني

الأشخاص : مالك , رفاقه

المكان : حانة في البصرة

ترفع الستارة .. موسيقا هادئة وإضاءة متوسطة

رفقاء مالك حول طاولة في جانب الحانة

ابن الزعيم : هات ياياقوت كالعادة ولا تبطىء

أبو الحجلان :أرجو أن يحضر مالك جلستنا اليوم, فقد غاب عنا البارحة .

أبو الساهي : أخشى أنه لازال متأثرا بما رأى وسمع من ذلك السوادي .

ابن الوكيس: أتريدون الحق , إن قصة ذلك السوادي مؤثرة ومؤلمة ألستم معي ؟

أبو الحجلان : معك... معك . كم في الدنيا من حكايا وقصص غريبة .

ابن الزعيم: اشربوا .. وادعوا..ها ها ها   يضحك ويضحك معه الجميع

أبو الساهي : لقد قاربت السهرة على النهاية , وانقضى أكثر من نصف الليل , ولم يحضر مالك !

ابن الوكيس : غريب .. لم يحدث أن فقدناه  في سهرة من قبل , أخشى أن يكون مريضا طريح الفراش .

أبو الحجلان : في الغد سنذهب لزيارته في البيت إن شاء الله .

الجميع : إن شاء الله

ابن الزعيم : ماذا لو عمل الذي في باله وتزوج !

أبو الساهي : يا لك من عبقري .. فهمان ..بهذه السرعة   ومن الذي يزوج لصا سابقا  وشرطيا متخصصا بملاحقة اللصوص !؟

ابن الوكيس : دعنا من خيالاتك يا ابن الزعيم   معقول !  هب أنه فعلها هل يتزوج دون أن يدعونا إلى عرسه  ونحن كل ما له في هذه الدنيا !

أبو الحجلان :  ليس هناك سوى المرض .. علينا زيارته والإطمئنان عليه .

ابن الزعيم : ها هو مالك قادم .

أبو الحجلان : أين أنت يا رجل ؟ لقد شغلتنا عليك ؟

أبو الساهي :  اسكب كأسا مشعشعا لمالك  يا ياقوت .

يا قوت : حاضر سيدي  أحلى كأس لمالك ( الفحل) .

ابن الزعيم :  اشرب .. اشرب  ليس بعد الشراب إلا الخراب .

مالك : لا أريد الشراب ولا أبحث عن الخراب بعد الآن إني أريد الإعمار .. ابحث عن الإعمار .

الجميع : ينظر بعضهم في وجوه بعض

ابن الوكيس : وكبف ذلك يا سيدي ؟ تبحث عن الإعمار وأنت على ما أنت ؟

مالك : أرجو من الله أن يتوب علي من هذا الأمر ويمن علي بما يصلحني وينجيني

أبو الحجلان : آمين .. كلنا نرجو ذلك

أبو الساهي : إذن كيف ستبدأ  ؟ ماذا قررت ؟

مالك : قررت أن أبحث عن زوجة لعل الله يرزقني منها الولد فيشفعون لي عند ربي

ابن الزعيم : نعم المسعى مسعاك ونحن في خدمتك ولن نتخلى عنك .

مالك: شكرا لكم     شكرا لكم  ... أصبحتم في خير وعافية    السلام عليكم

يتركهم ويغادر

تسدل الستارة بهدوء وموسيقا ناعمة معبرة

 

المشهد الثالث

ترفع الستارة  موسيقا عذبة  إضاءة قوية

مالك في بيته وامرأته تسعى بين يديه تعد له طعام الغداء  وهوينظر إليها بامتنان

الزوجة : لقد أعددت لك طعاما يحبه قلبك  كل وأعطني رأيك فيه

مالك: بسم الله الرحمن الرحيم  يمد يده إلى الطعام   يتذوقه ممممممه ما هذا !  لذيذ فعلا هل انا في حلم أم يقظة !  سلمت يداك يا زليخة

الزوجة :  صحة  هنيئا مريئا  إيه   قل لي   كيف رأيت طبخي ؟

مالك: لا أقدر على الوصف    سلمت يداك    ألا تأكلين ؟

الزوجة : بلى سآكل    لحظة لأحضر الماء

مالك : ممازحا   يقولون: أن المرأة عندما تطبخ تشبع من رائحة الطبخ   ويضحك

الزوجة :  بل إن الزوجة المحبة تشبع عندما ترى زوجها يأكل حتى يشبع

مالك : الحمد لله  لا أحسن ولا ألذ  زوجة محبة وطعام مريء

الزوجة : إني أشتهي الرمان  يا مالك 

مالك :غدا سأشتري لك حملا من الرمان ,فقط الرمان ؟

الزوجة : فقط الرمان

مالك : أراك منزعجة   خير إنشاء الله ما بك ؟

الزوجة : لا شيء إني أشتهي الرمان فقط

مالك : ها  ها  ها  ... أخشى أن تكوني ....

الزوجة : نعم .. نعم  أرجو أن يأتي  ويأتي  معه الخير  أدعو لي

مالك :  أرجو أن يتمم عليك الله بالخير والعافية .. يا فرحتي ... يا فرحتي   ماذا تختارين اسما له ؟                                    الزوجة : الوقت مبكر  ولكني أتمنى أن يكون المولود ينتا  وسأسميها  فاطمة  ما رأيك ؟
مالك : يسرح .. ويفكر .. بنت أو بنتان    أخت أو أختان  ثم يلتفت إلى الزوجة : لا بأس بنت   بنت  فاطمة   فاطمة سلمك الله يا أم فاطمة    لا تتعبي نفسك منذ اللحظة   احذري الإجهاد والتعب
تطفأ الإنارة قليلا ثم تضاء

مالك بين يديه طفلة يغني لها ( فاطمة يا فاطمة    إنشا الله تكوني  ناعمة ,  فاطمة يا فاطمة  خلي أمك نائمة )يقول للأم :

أظن ابنتنا جائعة  ألا ترضعينها يا أم فاطمة  ؟
الزوجة : حاضر .. لحظة .. هاتها .. تعالي يا حبيبتي  يا حبيبة ماما  وحبيبة بابا

مالك ينظر إلى الطفلة كيف ترضع ويهمس :

الحمد لله .. زوجة صالحة  و ابنة جميلة   أليس هذا هو النعيم  ! الحمد لله ما كنت أحسب أني سأصبح زوجا وأبا  الحمد لله  الحمد لله ..

تسدل الستارة   وموسيقا تعبر عن الغبطة والفرح



 

المشهد الثالث :

ترفع الستاره   منظر بيت متواضع   شبه مظلم  يخيم عليه الحزن  موسيقا جزينة تناسب الجو

 

 

مالك يحضن ابنته ذات الربيعين من العمر ويخاطبها :

واها يا فاطمة  لقد استعجلت أمك الرحيل  وغادرت إلى موعود ربها  وتركتك لي ريحانة وذكرى

ينتحب ويبكي وفاطمة الطفلة لا تعرف شيئا .. تمد يدها الصغيرة  وتمسح الدموع غن خدي والدها

الطفلة  : أريد ماما ... أريد أن أذهب لعند ماما

مالك :يحضنها بقوة ولا يتوقف عن البكاء والنحيب    يا روح بابا  يا روح ماما وبابا هل ستتركينني وتذهبي لعند ماما

يا ويلي  وسواد ليلي ..

الراوي : وكان مالك يودع ابنته عند إحدى الجارات ريثما يعود من عمله , فإذا عاد لا يقر له قرار حتى يسترجعها ويضمها ويقبلها ويشمها وهو يبكي , إلا أن القدر كان له بالمرصاد  فما لبثت فاطمة أن مرضت واستبد بها المرض ثم توفيت فازداد مالك حزنا على حزن  وهما على هم وعاد سيرته الأولى عاد إلى السكر والعربدة لعله ينسى كما يظن

وفي ذات ليلة نام وهو سكران ثم انتبه من نومه في الجزء الأخير من الليل  وهو يردد (بلى  .. بلى ) وقد أخذ منه الخوف كل مأخذ , فقام واغتسل  وتوضأ وأسرع إلى المسجد ولما وصله كان الإمام قد فرغ من الصلاة  وجلس للتدريس , صلى مالك الفجر على عجل   وانتحى زاوية المسجد وهو يرتجف كالعود من الخوف والإشفاق , انتبه الشيخ إليه بعد أن أتم درسه فتقدم منه مشفقا

الشيخ : ما بك يا بني  لم ترتجف هكذا وتبكي ؟

مالك : رأيت رؤيا  يا سيدي أفزعتني
الشيخ : استعذ بالله يا بني من الشيطان الرجيم

مالك : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

الشيخ : ها  ماذا رايت يا بني ؟ أحك لي بالتفصيل

مالك : رأيت يا سيدي وكأن القيامة قد قامت ...

الشيخ متعجبا :  مه..  أعوذ بالله   أكمل يا بني

مالك : ورأيت الناس واقفين ينتظرون الحساب , وأنا واقف خلفهم أنظر    وإذا بتنين ضخم  يأتي مسرعا من بعيد  فاغرا فاه  يريد أن يلتهمني

الشيخ : يا لطيف   أعوذ بالله   وماذا فعلت ؟

مالك : فجريت خائفا مذعورا والتنين في أثري  لا يكف عن ملاحقتي . فصادفت في طريقي رجلا عجوزا بهي الطلعة جميل المنظر وقد أخذ الضعف منه كل مأخذ , قلت له : ألا ترى يا سيدي هذا التنين الذي يلاحقني كيف النجاة منه ؟ قال : الا ترى أني ضعيف لاأقوى على فعل شيء , ولكن اذهب من هذا الطريق لعل الله يحدث لك فرجا ومخرجا  .

الشيخ : لا حول ولا قوة إلا بالله  أكمل يا بني أكمل

مالك :  فمضيت من حيث أشار وإذ بي أمام قصر فخم له نوافذ فخمة عليها ستائر مرخية , ويطل من هذه النوافذ أطفال كالأقمار , فلما رأوني صاحوا جميعا :  يا فاطمة أدركي أباك  يا فاطمة أدركي أباك

الشيخ : ومن فاطمة هذه يا بني  كأنها ابنتك ؟

مالك : نعم هي ابنتي  توفيت وعمرها عامان

الشيخ : هاه  وهل جاءت فاطمة ؟

مالك :  نعم جاءت على الفور ثم أشارت بيدها إلى التنين وصاحت فيه : قف  فوقف  وعاد أدراجه مبتعدا

الشيخ : إنها رؤيا عجيبة ومؤثرة ,  ثم ماذا  ؟

مالك : جلست فاطمة في حضني وصارت تخفف عني , فقلت لها : ما هذا القصر يا بنيتي ؟ قالت : هذا القصر يقطن فيه أطفال المسلمين الذين ماتوا وهم صغار , لا يدخلون الجنة إلا وآباءهم معهم , وأنا أسكن هنا انتظرك يا أبتي .

فسري عني وهدأت نفسي , ثم قلت لها : وما شأن هذا التنين ؟ قالت : يا أبتي إنها أعمالك السيئة , كثرتها وقويتها حتى تمثلت لك تنينا يريد أن يفترسك !
الشيخ : هيه  وهل سألتها عن الرجل العجوز ؟

مالك : نعم سألتها , قالت : هي أعمالك الصالحة واهنة ضعيفة لم تغن عنك شيئا  !

الشيخ : حسبنا الله ونعم الوكيل .. حسبنا الله ونعم الوكيل , ثم ماذا ؟

مالك : ثم مدت فاطمة يدها الصغيرة وأمسكت بذقني وصارت تهزها وتقول :

يا أبتي .. يا أبتي   ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق .. ؟

قلت لها : بلى يا ابنتي بلى  .. ثم انتبهت من نومي مذعورا وأنا أقول : بلى .. بلى  فقمت واغتسلت وجئت إلى المسجد لصلاة الفجر فرأيتك قد فرغت منها وجلست للتدريس وبدأت درسك بالآية نفسها    فلهذا أنا أبكي
الشيخ : لا تخش شيئا يا بني  إنها رؤيا مباركة   إنها رؤيا خير   إنها رؤيا خير  ابق معنا يا بني ولا تتركنا ...

تسدل الستارة  موسيقا ناعمة هادئة .   انتهى