عودة التتار
مسرحية تاريخية تعتمد الواقع لأن التاريخ لا يتكرر، ولكنه قد يعتمد عليه بعضهم لبناء وضع جديد
النسخة الأولى
1390 – 1980
النسخة الثانية
1446م - 2024م
بداية الحكاية
تخرجت من الجامعة عام 1974م، وخرجت فوراً مسافراً إلى ليبيا قبل أن أُساق إلى الجيش، لأنني بدخول الجيش لن أتمّ دراستي العليا، وهناك ذهبت في السنة الأولى من وجودي في ليبيا إلى مصر، وزرت جامعة القاهرة لأجد أن من شروطها أن الشهادة الجامعية يجب أن تتضمن دراسة لغتين أوربيتين، وأنا لم أدرس إلا لغة واحدة وهي الإنكليزية، فشددت رحالي إلى جامعة عين شمس، ولما اطلعوا على كشف درجاتي الذي استطعت الحصول عليه، وليس فيه ذكر للتخرج، قالوا يمكن أن تأتي وقت التسجيل في الجامعة، وتقدم هذا الكشف فتنظر الجامعة في المواد التي لم تدرسها في دمشق، وهي من مناهج عين شمس، فتقررها الجامعة، وقد تكون مادة واحدة أو اثنتين، ثم تمنح شهادة التخرج، وتتابع الدراسات العليا بعد ذلك في الجامعة.
فعدت أدراجي إلى ليبيا، وكان لبعض إخوتي هناك صاحب في إدارة جامع قار يونس في بنغازي، فذهبنا عنده طرحنا عليه الفكرة، فرأى – جزاه الله خيراً – أن هذا الأمر يمكن أن تفعله هنا في جامعتنا، وبذلك تدرس وتعمل، وبعد التخرج تذهب إلى عين شمس، وعلى كل حال سأقوم أنا بتقديم أوراقك إلى الجامعة لاستعجال النتيجة والتسجيل.
وفعلاً أخذ الأوراق، وقدمها للجامعة، وأخبرني بموعد صدور النتيجة.
وعند الموعد ذهبت إلى الجامعة، وسألت عن النتيجة، فقيل لي: ليس لك اسم في المقبولين، فطلبت سحب أوراقي التي قدمتها، فأخبروني أنهم لم يجدوها.
وذهبت أنا وأخي إلى صاحبنا، فوجدنا أنه ذهب إلى ألمانيا بسبب مرض والدته، ولم يرجع صاحبنا إلا بعد أكثر من سنة، وزرناه وقدمنا له التهنئة بالسلامة، وقبل أن أسأله سألني هل داومت في الجامعة، فأخبرته بما حدث.
وذهبنا في اليوم الثاني إلى الجامعة، والتقيت به هناك، فذهب وسأل الموظف المكلف الذي استلم منه الأوراق، فلم يتذكرها؛ لأنه مر عليه أكثر من سنة ونصف، وقام هو وإياه بالبحث عن الأوراق، فلم يجدوها بأي مكان، وأخبرني صاحبي أنهم بحثوا عنها في كل كليات الجامعة، فلم يجدوها، وأخبرني أنهم لم يقبلوا بصورة منها، بل لا بد من استلام الأصل، وبذلك أصبحت بلا أوراق، ولا شهادات.
فما هذه الدول التي يحدث فيها هذا الأمر، وما هذه الجامعات المؤتمنة على مستقبل طلابها، كيف تتعامل معهم، فأنا كسبت من وراء هذا الأمر قولهم لصاحبي، وليس لي: نحن نأسف لما حصل، فهذا الأسف لا يكلفهم أي شيء، ولا يلزمهم بشيء، إلا أنه قد يدخل على القلب زيادة في الشعور بالقتل النفسي، أو بنوع من الكمد، والحسرة على هذه الأمة.
هذا إذا علمنا أننا بدأنا نشعر أن الحياة هنا أصبحت قاسية لا تختلف عن الحياة في بلدي، حيث بدأ ينتشر في البلد رجال الأمن، والحرب على كل إسلامي، فقد بدأت الحرب الثقافية، التي كان الهدف منها إزالة أي كتب تتعلق بالإسلام، حيث بدأ حكام البلد بالثورة الثقافية، وبدأت هذه الثورة بتفتيش المساجد، والأمر بتفريغها من المكتبات التي انتشرت في المسجد، وتحوي هذه المكتبات تفاسير القرآن، وكتباً في الفقه، والعلوم الإسلامية، ولا علاقة لها بالسياسة أو الأفكار والفلسفات الأخرى، ولذلك قاموا بحرق جميع ما في هذا المكتبات من كتب، واستثنوا نسخ القرآن الكريم، وكأنما الذين أصبح اسمهم اللجان الشعبية أتوا من كوكب آخر، ولا علاقة لهم بثقافة ودين أهل البلد، فكنت أشعر أن ليبيا من أفضل البلاد العربية، فهي موحدة في كل شيء، فكل أهل البلد لا يعرفون إلا الإسلام، والمذهب المالكي، وأما الأحزاب السياسية، فلو جمعوا كل أفراد وعناصر هذه الأحزاب بكل اتجاهاتهم ما بين شيوعي وبعثي وناصري وإخواني وتحريري، قد لا يتعدون الألف فرد، وباقي الناس لا يعرفون إلا الإسلام، والمذهب المالكي، إلا بعض الإباضيين الذين لا يتعدون العدد السابق أيضاً، وهؤلاء كانت لهم حريتهم الكاملة، لأنهم لم يكونوا متعادين مع المالكية، فكانت ليبيا مع كل الصراخ الذي يصرخه حكامها، وكل ما يقومون به في الإعلام من نشر الأفكار القومية المطعّمة بالاشتراكية، كانت ليبيا وحدة واحدة، ولا تشعر بالفوارق الكبيرة بين مثقفيها وعوامها إلا بنسبة العلوم الشرعية التي حصلها بعضهم.
ومن المعروف عند أهل البلد أن عدداً من المفكرين الذي شعروا بخطر حكومتهم، فأظهروا آراءهم خلافها، فالذين لم يستطيعوا الهرب من البلد، أيضاً لم يستطيعوا الهرب من السجون، وعندها بدأ الليبيون يشعرون بخطر حكومتهم، وشعروا بأنها بدأت تستخدم اللجان الشعبية كعناصر الأمن في البلاد الأخرى، وبذلك أحسوا بأن ما كان تَعِدُهم به الحكومة كان على مذهب من يتمسكن حتى يتمكن، وخصوصاً عندما بدأت تنادي بالتعامل بالربا، فوقف لهم مفتي ليبيا بالمرصاد، فأوقفوه تحت الإقامة الجبرية، ومنعوه من الخطابة.
وبدأنا نشعر بثقل الوجود في هذا البلد، وبأن حكامه لن يتركوا أجنبياً ولا ابن بلد حراً، فقد حدثت بعض الأحداث الغريبة، فحكام البلد يدعون أنهم من أتباع الناصرية، وأنهم ورثوها عن صاحبها مباشرة، وأن عبد الناصر اعتبرهم أمناء القومية العربية، وفجأة نسمع أن فلاناً الناصري الهارب من بلده، وكان طياراً وجد نفسه مطلوباً للاعتقال، واستطاع الهرب هو وبعض التجار الآخرين قبل الوصول إليهم.
وحتى رئيس نادي العروبة محمد الجراح رحمه الله، فجأة بعد أن كان ذا مكانة، فهو نفس اتجاه العقيد السياسي، وإذ به فجأة يُطلب للاعتقال، وبدأت الوساطات من أجل تركه، ولكن لم يترك إلا لأن الوسطاء استطاعوا إخراجه من البلد.
وهكذا بدأنا نشعر بسوء عاقبة وجودنا في هذا البلد، وأن ذهابنا إلى بلدنا قد لا يكون أسوأ من وجودنا هنا، إن لم يكن أحسن، فجمعت رحلي، وأزمعت سفري، وجمعت ما أستطيع من أغراضي، ورجعت إلى دمشق، مع علمي بأنني قد أساق من المطار إلى السجن أو الجيش، لأن المحكمة أصدرت قراراً بسبب تخلفي عن الجيش بمضاعفة الخدمة والسجن شهراً.
ودخلت البلد، ولم يحدث شيء، وبعد أيام ذهبت إلى شعبة التجنيد، وأخبرتهم بوصولي، فشكروني وقالوا انتظر حتى يأتي موعد دورات خريجي الجامعة، فسيأتيك إشعار السحب إلى الجيش، وفعلاً في أول الشهر السابع من عام 1977م طلبوني للخدمة، وذهبت لأجدهم وجهوني إلى مدينة حلب مجمع ثكنة هنانو.
وفي هنانو كانوا يصبّروننا حتى تأتي التشكيلات الجديدة للجيش، ليتم توزيعنا على القطعات العسكرية.
وجدت في ثكنة هنانو اثنين آخرين من بلدتنا، وهما من خريجي العلوم، فكنا نجلس معاً دائماً، ولكن الذي أثار انتباهي وجود ضابط كبير في الثكنة من بلدتنا، أعرفه ويعرفني، فكنت أسلم عليه منذ كنت طفلاً، وهو الآن برتبة عميد، فقلت لصاحبيّ:
أتعرفان هذا الضابط؟
فقالا: من هو؟
قلت: فلان.
قالوا: يعني من بلدنا.
قلت: نعم.
قالا وهل يعرفك؟
قلت: نعم، فما رأيكم بالذهاب إليه والسلام عليه، فقد يكون مفيداً لنا في الجيش.
فوافق صاحبيَّ، وانطلقنا إلى مكتبه، وحتى لا أغمصه حقه أحسن استقبالنا، وطلب لنا شاياً، ورحب بنا، وأخبرنا أن الفرز لم يصل بعد، وعند وداعنا له قال لي:
أخ حسن، أرجو ألا يزورني أحد منكم بعد الآن، فأنا مراقب، وعليّ العين.
فقلت في نفسي: هذا الجيش الذي دخلناه، إذا كان مَن رتبته عميد يخاف من زيارة ولقاء من لم يدخل النظام العسكري بعد، كيف يكون حالي أنا، وكيف يكون مصيري، وكيف أستطيع أن أتعامل فيه مع الناس، إذا كان من عايش هذا الجيش على الأقل عشرين سنة، ووصل إلى هذه المرتبة، وعلّق على كتفيه هذه النجوم اللامعة؟.
وفعلاً أقلعنا عن زيارته، وبقينا قريباً من شهرين حتى جاء توجيهنا إلى الأماكن الجديدة.
وفي هذا الوقت حاولت الاتصال والالتقاء بكثير ممن كنت أعتقد أنهم لهم مكانة، وكلمة في هذا الوطن المعطاء، ليكونوا لي عوناً أن أكون قريباً من بلدي، وخاصة أنني متزوج وعندي أولاد، فلا أغيب عنهم كثيراً، ولكن كلها محاولات، ووعود، ولكن لم أجد وراءها طائلاً.
ووجّهونا إلى المدرسة الفنية الجوية، ولا أدري إلى أين وجهوا صاحبيّ، وهناك بدأت المتناقضات التي لا تحدث إلا في بلد ليس يحكمه إلا متنفذوه، كل في محلّه، وحسب قربه وبعده، فكان حظي أن جئت في هذه المدرسة، فقد كانت تجمع كل المتناقضات، هي ثكنة عسكرية بناها – يقولون – الجيش الألماني عندما دخل سورية في الحرب الكونية الثانية، ولذلك يعرفها أهل حلب باسم (أشلة الألمان)، ومن العجيب أنه بُني فيها مسجد، والمسجد ما زال قائماً، والأعجب أننا وجدنا أنفسنا فينا سبعة عشر مثلي يطلقون لحاهم، وكنت قد سمعت من بعض أصحابي الذين سبقوني، والذين دخلوا الجيش معي كيف عاملهم الضباط بالحلق الإجباري، وحتى أن منهم صديقًا لي لم يحلقوا لحيته إلا بعد أن مرغوها بالحذاء العسكري، وناله تعذيب شديد، فكلنا كنا نعيش على خوف، ولا ندري ماذا يحدث لنا.
وقد عوّدت نفسي أن أتحمل كل ما أرى، فلا أعترض بشكل مباشر على من تعلو مكانته عليّ بالقوة والسطوة، لا بالعلم والمكانة الاجتماعية، ولذلك بدأنا نحن أصحب اللحى نتناصح فيما بيننا على التحمّل للإساءات، وما يصدر من بعض العسكريين هنا.
وبدأت الدروس العامة ننال منها النصيب الأوفى من القدح، والسب والشتم، ليس لأشخاصنا فقط، بل الأكثر لديننا وتاريخنا، فكنا نتماسك لأننا كنا نحسّ بأن هذا استفزازًا لإثارتنا، فمثلاً كنت أجلس في إحدى هذه المحاضرات التي يقدمها لنا مقدم نصيري يتكلم فيها عن الإسلام والصحابة، وهو رئيس قسم التوجيه السياسي، وكان بجانبي شاب من مدينة درعا، فوجدته رفع يده ليعترض على كلام المقدم، فأنزلت يده، وقلت اسكت، وتابع المقدم كفرياته وافتراءاته، وصاحبي يرفع يده مرة ثانية، فأمسكها وأنزلها، ولكن بعد تكرار الأمر انتبه المقدم ليده المرفوعة، فطلب منه الوقوف والكلام، فدافع صاحبنا عن الدين والصحابة، فشتمه المقدم، وأسكته، وخرجنا بعد المحاضرة، ولكن صاحبنا لم يعد يراه أحد، واختفى.
وقد كان اختفاء صاحبنا هذا درساً لنا، وخصوصاً أننا علمنا أن مدير المدرسة له نظام لا يوافق عليه هؤلاء، ولكنه بعلاقته الشخصية برئيس الجمهورية له بعض الامتيازات.
وفي أول يوم جمعة في الدورة كنا وقت الظهر لا عمل لنا، ووقت الغداء سيكون الساعة الثانية بعد الظهر، فذهبنا لنصلي في المسجد، وإذ به ممتلئ بالمصلين، وفيهم بعض الضباط برتب متعددة.
ورأينا أن المسجد فيه منبر للخطابة، وله محراب صغير، ولكن لا أحد على المنبر، والعسكريون ينتظرون من يصلي بهم، وقد تأخر الوقت كثيراً، وقد يبدأ طلبنا لساحة العَلَم (كما كانت تسمى هذه الباحة الكبيرة وسط المدرسة)، فسألت مَن بجانبي: هل تؤذن إذا صعدت أنا المنبر؟ فقال: أؤذن. وفعلاً تجرأت على خوف يملأ قلبي، وصعدت المنبر وسلمت على المصلين وجلست، فقام صاحبي الذي لا أعرفه، ولا أعرف اسمه، وإذا تقابلت معه الآن لا أعرفه، لأنني لم أحفظ ملامحه، وبعد انتهائه من الأذان، خطبت خطبتَي الجمعة بسرعة، وصليت، وتمت الصلاة على خير.
وأذكر أن أيام الجمع الأخرى لم أقم بأي خطبة؛ لأن المصلين بدؤوا يتسابقون للخطبة والصلاة بنا، عندما رأوا أنني لم أُسَق إلى السجن، أو أُطلب للتحقيق، وفعلاً بقينا نصلي يوم الجمعة وفي كل جمعة يصعد خطيب جديد، حتى انتهت أيام الدورة التي يحجزوننا فيها، ويمنعون خروجنا من المدرسة حتى أيام الجمع، وأظن أن الذين خطبوا بعدي كان عددهم خمسة.
بعد انتهاء صلاة الجمعة بمدة وجيزة، تبين لنا أن كل من خطب الجمعة اختفى، واعتُقل، ولم يرجع إلى الانتظام في الدورة، ولا نعلم أين غيَّبوهم، ولا أدري كيف أن الله أعمى عني عيونهم وقلوبهم، فلم يعتقلوني مع أنني أنا البادئ بهذا الأمر، فهل اعتبروني أنا الطُّعم الذي ألقوه لمن بعدي، أم ماذا، ولكن الله سلّم.
والحياة العسكرية – في أيامنا – كانت تتلوّن بلون القائد في القطعة، فإن حباك الله بالنعمة كنت في ظل قائد من بقايا العهود السابقة الذين ما زالوا يشعرون بالروح العسكرية الوطنية البعيدة عن ألوان الحزبية والطائفية، وإن حباك الله بالاختبار والابتلاء كنت في ظلٍ من الطائفية بغيض، تناله الألوان الملونة بألوان كل الطيوف، والناس في هذا الجيش ما بين هذين الأمرين بُعداً واقتراباً.
وكنت في هذا الجيش من النوع الأول، فأنا أقرب إلى ظل قائد من بقايا العهود السابقة الذي يهمه إبراز العسكرة بثوب وطني، ومع ذلك فهناك الضباط الذين هم أدنى منه يتصرفون على حسب المنهج القائم للنظام، ولا يهمهم أمر نظام القائد الأعلى لهم، فلهم مرجعيتهم التي يتلقون منها الأوامر المتبعة، وكنا نحن مع ظل هذا القائد النظيف الذي كان له فضل كبير علينا بدفع الأذى الكثير المشهور القائم في كل القطعات العسكرية، وكنا ننال كثيراً من شظايا هؤلاء المتنفذين.
وقد سارت بنا الأمور مقبولة، وإن لازمها الأمور الآتية:
ألفاظ الكفر من قبل الضباط الذين يقال إنهم يدربوننا على حب الوطن، واحترامه، والحفاظ عليه، وألفاظ الكفر التي يتنعمون بها، يتعلمها منهم كل الأبالسة الظاهرين والمتوارين.
ألفاظ الفجور التي لا يعرفها حتى الفجار والفساق والملاحدة.
المعاملة (الإنسانية) التي لا يحتملها حتى دواب الأرض كلها، ولا ترابه.
وكمثال لنتائج هذه المعاملة أن بعض الضباط الذين استقبلونا في أول استقبال كانت المحاضرة التالية:
أنتم كلكم تحملون الشهادة العليا، فكلكم أنهيتم الدراسة الجامعية، وكلكم حصل على درجة أستاذ، ودرجة أستاذ في الجيش هي أكبر تكريم تقال لحاملها، وهي عندنا لا يعدلها إلا كلمة (حمار)، ولذلك إذا أردتم التخلص من هذه الرتبة، ما عليكم إلا أن تعودوا لبداية المراحل الدراسية: تلاميذ في المدارس الابتدائية، ويجب أن تعيشوا هنا بهذه المرحلة؛ لأنكم لن تجدوا معاملة إلا على هذا المستوى، فتعاملوا فيما بينكم على هذا الأساس.
كل هذا ليس بالمشكلة أمام بعض من كان معنا، حيث بدأ فعلاً يتعامل مع أصحابه وأنداده على هذا المستوى، حتى أنني مرة قلت لأحدهم، ولا أزال أذكر اسمه: ألا تستحي أن تقوم بهذا الفعل الطفولي، فقال: ألم تسمع قول الضابط إننا تلاميذ، ويجب أن نتعامل كتلاميذ الابتدائي، فشعرت بالتقزز والأسى بطريقة لم أمرّ عليها كل حياتي، فبعد هذا العمر من طلب العلم، والمثول بين أيدي العلماء، والدراسة في المدارس والجامعة، وأخْذ العلم والفضيلة من إِلِّها، يصبح بعضنا بهذا المستوى من الحقارة والغباء والفسولة؟
ومرة بعد أنواع من التعذيب التي لا يحصل عليها أحط أنواع البقر ودواب البعر، عشناها بحقارتها، وأسلوب الضابط التافه من شتائم لا تليق حتى بالحيوانات، تحركت الوطنية في نفس الضابط الذي أوصلنا إلى درجة ما قبل الحيوان – إن وجدت – فقال لنا: لا تعتبروا هذا تعذيباً، بل هو تدريب لتصبحوا مواطنين صالحين، محبين لأوطانكم وقائدكم، فكلنا التزم الصمت، لأننا نعلم نتائج الاعتراض، إلا أن أحدنا تأثر على ما يظهر مما لقِينا من الذل، حتى غاب عنه العقل والتفكير – على رأينا – فانطلق منفعلاً مضطرباً يقول: يا سيدي، أتعلم لو أنني أمسكت سلاحاً في حرب مع إسرائيل ماذا أفعل؟ فقال الضابط: ماذا تفعل؟ فقال صارخاً: والله لن أطلق إلا طلقة واحدة، فقال الضابط: كيف، فقال صاحبنا: أطلق طلقة واحدة عليك، وأخلّص الوطن منك، وأمضي إلى إسرائيل لاجئاً؛ لأنني متأكد أنني سأكون محترماً فيها أكثر من هذا الذي تسمونه وطناً، وجئتم بنا لتدربونا على الدفاع عنه، فوطن لا يعتبرني بشراً ولا بقراً ليس بوطن.
وانهار الشابّ باكياً، وما كان من الضابط إلا أن قال: اذهبوا وارتدوا ثيابكم، لأن تعذيبه كان لنا بعد أن أمرنا أن نخلع كل لباس، إلا ما ستر العورة المغلظة، ومن جملة تحفته هذه أنه أثناء تعذيبنا طلب من عساكره جمع ثيابنا في كومة واحدة، وأحذيتنا في كومة أخرى، فأضاع من عمرنا أشهراً، وأحدنا يبحث عن قطعة من ثيابه، أو فردة من حذائه.
هذا من الناحية البدنية المطعمة بالأمور النفسية، وأما الأمور النفسية، فأنت أمام ضابط لا يعرف القراءة، مع أنه حصل على الثانوية العامة على الأقل، ومن المضحك المبكي في هذا الموضوع: أن أحد الضباط كان يعذبنا، وأثناء فترات استراحته من تعذيبنا، بدأ يحدثنا بين الشتم والفجور، ونحن في حالة استلقاء على الأرض الحارة في شهر آب دون ثياب، وهو يشتُمُ غباء الكثيرين من مسؤولي هذه المدرسة، فكيف يكتبون على لوحة عبارة: (محو الأمية واجب ملح على السلطة والحزب)، قرأها على طريقة تجعلنا مع كل آلامنا وقهرنا نقهقه ضاحكين بعد أن قال: ما علاقة محو الأمية بالمِلْح والسَّلَطَة، فكيف يكتبون: (مَحْو الأميَّةِ واجبُ مِلْحٍ على السَّلطةِ والحِزْب).
أمثال هذا الضابط المثقف الذي كان لا يعرف القراءة ولو بالتشكيل، ووضع الحركات على الحروف مواضعها، كان يدربنا لندافع عن هذا الوطن، ويعلمنا كيف نحترم هذا الوطن الذي يقوده أمثال هذا المثقف الفطِن؟ فما بالك بغير المثقف؟.
وأما الناحية الطائفية، فلن أطيل الكلام عليها، فلا زالت ماثلة إلى الآن في بلدنا، وكان يشعر بهذه الطائفية حتى غير المسلمين، فقد كان مدربنا ضابطًا نصرانيًا من بلدة محردة، وكان حين يريد تعذيبنا يقول لواحد منا اسمه (مالك): يا مالك اخرج من الصف، ثم يعطي أوامره بخلع الملابس والتعذيب، وكثيراً ما كان يخرجنا لنأخذ الدروس النظرية في الهواء الطلق، فيختار مكاناً يُجلسنا فيه تحت أشعة الشمس، ويجلس هو في الظل، وينادي على مالك ليجلسه بجانبه في الظل، لأنه من أول يوم سأل كل واحد منا: من أي بلد، ومالكٌ هذا كان من بلدة القرداحة، ةهي بلد السيد الرئيس القائد الخالد؟!!! ولذلك نال هذه الحظوة عند هذا النصراني، ونال التفرقة الطائفية.
وكان الذي يجعلنا نزداد شعوراً بالطائفية أننا كنا نلاحظ أن الضابط الكبير غير الطائفي، والذي بوابه أو خادمه عسكري نصيري، يخاف من بوابه، ولهذا البواب الحظوة لدى من يزور الضابط.
وكانت الصلوات ممنوعة، والمصلون يصلون خفية، إن لم تنلهم خيفة، فيؤجلونها، أو يتركونها إلى ما بعد العسكرية.
وضابط الأمن مهما انخفضت رتبته عن قائد الموقع، أو الثكنة، فهو الرتبة الحقيقية العليا في القطعة.
جاءنا قائد سريتنا الذي أخبرنا أننا – كما أعلمونا من قبل – اسمنا الدورة الثامنة، وأفهمنا ما معنى الدورة الثامنة، أي أننا ثامن دفعة بين خريجي الجامعات يلتحقون بالجيش كضباط صف، وليس كضباط، كما كان من قبلنا يساقون.
وقائد سريتنا ضابط نصراني برتبة ملازم أول، أذكر أن اسمه – إن لم تخني الذاكرة – عبده عفور، وهو من بلدة محردة، وهذا الضابط النصراني عرّفنا مقامنا، وعرّفنا أوضاعنا في هذا الجيش (الوطني!)، حيث أخبرنا أننا أساتذة، لأننا من خريجي الجامعات، ولكن أعلمنا أيضاً أن في الجيش العربي السوري! رتبة الأستاذ عنده هي (حمار)، فإذا قال لأحدنا إنه أستاذ، يقصد أنه حمار، ويقول أستاذ تعففاً عن ذكر الحمير؛ لأنها عندهم أعلى شأنًا منا، ولذلك هو يحترمهم، فلا يذكرهم، وإنما يقول لأحدنا أستاذ، ولكن بعد أن أعلمنا ما يرادف هذه الكلمة، ولكن ما كنت أعجب له، وأخبرت أصحابي بما لاحظت، أنه عندما تثور ثائرته لأمرٍ ما، ويبدأ بالصياح يصرخ بأعلى صوته: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، ثم يتبع التهليل بقوله: والله شي بكفِّر، فقلت لأصحابي حسب ما فهمت: إنه يريد أن يعلمنا أنه بقول لا إله إلا الله يكفر بدينه النصراني، ولا أذكر أنه غضب ونطق بالتهليل إلا قال بعدها: (شي بكفِّر)، وكانوا يتضاحكون من ملاحظتي.
ومن الأمور التي يحاول زرعها في نفوسنا وخَلدِنا، أننا أصبحنا عنده تلاميذ، بمستوى تلاميذ الصف الأول الابتدائي، فلا يظن أحدٌ منكم أنه مثقف، أو خريج جامعة، فيجب أن تعلموا أنكم تلاميذ، وتتعاملون فيما بينكم على طريقة أولئك التلاميذ، فليس منكم رجل، بل كلكم أطفال، العجيب في هذا الأمر أننا رأينا هذه الظاهرة فعلاً دخلت في عقول بعض منا، وأذكر أن أحدهما بدأ يسرق ويتلصص، ويقوم بأمور صبيانية، وهو خريج مادة الرياضيات، فقلت له متسائلاً: يا هذا ألست مدرساً ومربياً في المدارس الثانوية؟ فقال: أما سمعت أننا يجب أن نتعامل كتلاميذ المدارس الابتدائية، فقلت له: هذا الذي أخبرك بهذا الكلام قضى دورة مدتها ثلاث سنوات حتى استطاعوا غسل دماغه، وأنسوه أنه حصل يوماً ما على الثانوية العامة، وأنت لم تحتج إلى هذه المدة كلها، فنسيت أنك أستاذ مربٍّ، وحفظت من هذا الضابط أنك أستاذ أي حمار، فلا أدري ابتلاؤنا في ضباطنا أكبر، أم في مثقفينا؟!
وأمر آخر أثار اهتمامنا، أنه عندما تعرّف علينا واحداً واحداً طلب من كل واحد أن يقول اسم بلده التي جاء منها، وكانت المفاجأة أن أحدنا واسمه (مالك صقر) كان من (القرداحة)، وهنا تلوّن وجه الضابط، لأنه كان يُجلسنا في الشمس أثناء خطبه ومحاضراته النظرية، ويقف هو في الظل، فيصرخ فجأة: مالك، تعال هنا، ويجلسه بجانبه في الظل، وهكذا كان يفعل معه في كل جلسة شمس لنا، وكانت تلك الأيام هي من محارق شهري تموز وآب الصيفية.
وجاء رمضان، وهنا بدأت تظهر آثار الضباط الصالحين والطالحين في هذا الشهر الكريم، لكن المسيطر الأكبر هنا هو مدير المدرسة صاحب الصلاحيات المطلقة، ولم نكن ندري عنه شيئاً، ولكن في رمضان بدأت تطفو على سطح الصفيح الساخن من (كفريات)، و(قذارات) ألسنة الضباط بشكل عام، التي لا تعرف أخلاقاً، ولا مدنية، وإنما تُشهر نفسها وتتسابق بتفنن هذه القذارات والكفريات، أقول بدأت لمسات حانية من مدير المدرسة، ولكن بعض الضباط المساكين، أشعرونا عكس ما أراد مدير المدرسة، ولكن سرعان ما انقشعت الغمامة، حيث جاء النقيب رئيس قسم التدريب العسكري، وهو من محافظة إدلب - كما قالوا لنا - قبل رمضان بأيام، وأوقف جميع عناصر المدرسة في ساحة (العلم!)، وقال: من أراد الصوم فليقف هنا على اليمين، وهنا انعزلنا مباشرة إلى اليمين، ورأينا البعض يتردد، وينحرف إلى اليمين ثم يعود أدراجه إلى مكانه، ويعيد الضابط الأمر، فيتردد بعض من وقفوا على اليمين، ويعودون أدراجهم إلى أماكنهم، وكلما غيّر طريقة العرض الكلامي، يتغير عدد الصائمين، حيث يقول مرة: بعد الآن لا يمكن لأحد أن يغيّر رأيه، إما أن يصوم، أو يبقى مفطراً كل رمضان، فلا يحق لأحد أن يتقلب بين الصيام والإفطار، وفي آخر الأمر طلب طلباً كان الفيصل في الأمر، عندما قال للعريف: اكتب أسماء الصائمين، وهنا تراجع أكبر عدد من الصائمين إلى المفطرين، وفعلاً بدأ العريف بتسجيل الأسماء.
وبعد الانتهاء من تسجيل الأسماء بدأت الأمور تتكشف عن راحة لم نشعر بها من قبل، إذا يقول الضابط: أنتم أيها الصائمون وكل عناصر المدرسة من أولها إلى آخرها بسببكم ألغى مدير المدرسة جميع الأعمال المجهدة، والجسدية المتعبة إلى نهاية شهر رمضان، وأما الصائمون، فإنهم وقت الغداء ينامون في مهاجعهم، ولا يخرجون إلى ساحة العلم لحضور الاجتماع، وقبل المغرب بنصف ساعة ينزل الصائمون إلى الساحة، ويتم إدخالهم إلى المطعم قبل أذان المغرب، ويكون إفطارهم هو الغداء الذي حصل عليه المفطرون، بعد أن يعاد تحضيره بحيث يصبح طعاماً ساخناً، ولا يحتاج الصائمون إلى أمر بدء الطعام، لأن الأمر لهم ببدء الطعام هو سماعهم لأذان الغرب، وكل صائم عندما ينام يضع على ساق سريره خوذته، لأنه يجب أن يقوم على السحور، فإن لم يستيقظ هو يأتي أفراد فصيلة الطعام إليه ليوقظوه، يجب عليه أن يقوم لتناول سحوره المكون من طعام الفطور لدى المفطرين وطعام عشائهم، ولا يسمح مدير المدرسة بصيام أحد بلا سحور، وإن مدير المدرسة تبرع بكيلو بطيخ لكل صائم على وجبة السحور بسبب شدة الحر.
هذا الكلام الذي قلته يظن البعض أنه خيال ، أو خبال، لأننا عندما كنا نتحدث لأمثالنا في باقي قطعات الجيش، ويحدثوننا عن أوضاعهم، لا يمكن اعتبار أن ما نحن فيه هو في ثكنة ثكنات الجيش السوري، لأن ثكناتهم يرون فيها ما لم يرَ خبّاب بن الأرتّ، ولا عمار بن ياسر، ولا بلال الحبشي من أبي جهل وأمثاله، فكيف يحدث هذا الذي نحدثهم عنه، ولكن هذا هو ما وجدناه، وسنجد المقابل الذي يتكلم عنه أصحابنا أيضاً.
وعلمنا أن مدير المدرسة هو الذي منع حلق اللحى للملتحين، ولذلك كان عددنا كثيراً، ولم يتعرض أحد منا لهذا الأمر.
وجاءت المحاضرات والدروس التي لا يتدخل فيها مدير المدرسة، فهي من اختصاص العسكريين والأمنيين، وهنا كانت أوضاعنا تشعرنا بالمهانة والذلة، فكان الطلاب الضباط المتطوعون يأتون إلينا في غالب الليالي التي يريدون قضاءها فيما يسلّيهم، ويخفف عنهم حقد حنق وحماقة ضباطهم، يأتي إلينا هؤلاء الطلاب، ويقومون بتغذيتنا وطنية وقومية وعقيدة عسكرية، تلائم أحوال الأمة العربية الرائعة، فمهمة هؤلاء الطلاب الانتقام منا، وإذلالنا، واحتقارنا، ويحدثوننا بما يحدثنا به قائد سريتنا من (الأستاذية الحمارية)، ولكنهم كانوا أصدق لساناً منه، لأن كلمة حمار في الجيش أسهل لفظ، وأعفّه، وأجمل خُلُق ينطق به العسكري المؤدب العفيف الخلوق المهذب، فهي أسهل من شتم الأمهات والأخوات بألفاظ لا يتلفظ بها إلا أطفال الشوارع في البيئات المتخلفة التي لم تعرف للتربية وجهاً ولا جانباً، فلسان ضباطنا – أكرمكم الله – لا يستطع غسله حتى مراحيض، وبيارات، ومرابض الخنازير، فكل هذه أطهر من ألسنة هؤلاء الضباط، وقد كان أحدهم يتفنن في هذه القذارات، مع تطعيمها بألفاظ كفر والفجور، لا تخطر على بال إبليس، بل كنا نظن أنه إذا حضر هذا الضابط ليقوم بعمله معنا، يأتي إبليس مسرعاً، ويمسك بقلمه ليسجل ألفاظاً للكفر والسفالة لم يسمعها سابقًا، ليضيفها إلى قاموسه، وللعلم أقول إن هذا الضابط كان من مدينة حلب، ضابط سني، واسمه يوافق اسم أحد الرؤساء الذين حكموا سورية، اسماً وعائلة، ولكن حسب ما حللنا أمره بعد الفهم الذي نما فينا في هذا الجيش العظيم، أن سبب فسقه أو فجوره أو كفره، أنه كان يستحق رتبة لواء، ولكنه لم يستطع اجتياز رتبة رائد، ولم يتركوه لحياة مدنية، بل أبقوه في الجيش ليخدم وطنه قسراً بهذه الرتبة المتواضعة، ويرى من كانوا معه صاروا ألوية، ومن جاؤوا بعده تخطوه في الرتبة، فبعد أن كانوا يؤدون له التحية، أصبح كلما مر أحد منهم يؤدي له التحية، كما أن صاحب رتبة مقدم عندما دخل متطوعاً في الجيش، كان هذا الضابط رائداً، وذاك الغِرُّ الذي جاء برتبة طالب ضابط يدربه هذا الرائد، فيأتي بعد حصوله على رتبة مقدم بيوم واحد إلى هذا الرائد ليأمره وينهاه، ويطلب منه تقديم التحية العسكرية بشكل مناسب تناسب رتبته.
ونعود إلى ما كنا عليه، حيث بدأنا نشعر بالناحية الطائفية حتى عند غير المسلمين، لأنهم يرون أنهم أقلية، فيحتاجون إلى دعم، ولن يجدوا هذا الدعم إلا عند هؤلاء الضباط الطائفيين، فكان لهم عوناً علينا، لأننا حتى بعد تغيير الضابط (عبده) عن قيادة سريتنا، أبدلوه بضابط نصراني آخر اسمه (أنطون)، فكان لا يختلف بنظرته لنا عن سابقه.
وكان الضباط الذين يتعاوروننا يُشعروننا أنهم ينقمون منا أننا تعلمنا، فيثبتون لنا أن العلم الذي تعلمناه إنما هو مضيعة لأوقاتنا وأعمارنا، فلم نستفد في هذه الحياة بهذا العلم، ولا بأي اتجاه، فليس لنا قيمة اجتماعية، لأن رواتبنا المالية عندما نتوظف لا تساعدنا على فتح بيت، أو إطعام لقمة كريمة لنا ولعائلاتنا، فنحن أجيال مساكين، لا استطعنا أن نصل إلى مكانة أصحاب النفوذ من الحزبيين، ولا أصحاب السلطة من العسكريين (فهمنا أنه يقصد هنا الطائفيين)، وإنما نحن مساكين، سنعيش عالة على المجتمع، نتكفف الناس أمثالهم، فنبحث عن هذين القسمين للحصول على الوساطات التي نحتاجها في حياتنا الاجتماعية والمادية.
وكانت – وما زالت – الطائفية واضحة فاضحة، إلا أنها تُغلّف برتب عسكرية، أو قيادات حزبية، ولذلك لا يشعر بها الكثيرون ممن يدخلون هذا السلك؛ لأنهم اعتادوا على ألا يفكروا، فليس من وظيفتهم النظر فيمن يقود البلد، أو يأمر فيها، أو ينهى، والكثيرون اعتادوا على هذه الطائفية قبل انخراطهم في هذا السلك الذي هدفه الاطمئنان على الحالة الطائفية (التي تسمى دولة).
ومع أن أحوالنا نوعاً ما تعتبر مقبولة بسبب مواصفات الضابط القائد، إلا أن أمورنا تزداد ضغطاً وكبتاً، فضباط الأمن، والحزبيون، والنصيريون كلهم في واد يبحثون عن صيد يناسب النظام، واكتشفنا أن ممن كانوا يصلّون معنا من زملائنا السنة أنهم حزبيون عاملون، ويهتمون بأعداء الثورة، وبالرجعيين المنابذين للنظام.
اكتشف قائد سريتنا أن خطي جميل، فصار يطلب مني أن أكتب طلبات الإجازة لأكبر عدد ممكن من عناصر السرية، وهذه ليست مسألة مهمة، ولكن الذي حصل أن المقدم ضابط الأمن استدعانا – نحن الخطاطين – وجمعنا في مكتبه، وأخبرنا أن الاحتفال بمناسبة الحركة التصحيحية قريب، باقي له عشرون يوماً، ولذلك سيوزعنا على كل المدرسة لنملأها بالشعارات الوطنية بخط لائق وجميل، يليق بالمدرسة، خصوصاً أن قائد القوى الجوية سيحضر الاحتفال.
وعندما جاء دوري في ما سيوظفني فيه، قال: أنت احمل (سطل) الدهان، و(السلّم)، ونعطيك الجُمل، والعبارات التي ستخطّها، فإنني أريد أن أرى جميع جدران المدرسة مزدانة بالشعارات الوطنية المناسبة، وهنا وبسرعة لا أدري كيف انطلقتُ في الكلام: أهذا أمر عسكري؟ فقال: ماذا تقصد بالأمر العسكري؟ فقلت: إذا كان أمراً عسكرياً، فلا أستطيع مخالفته، ولكن أنتم تتحملون نتيجته، فقال: لم أفهم ما تريد! فقلت: يا سيدي أنا خطاط حبر، ولست خطاط دهان، ولم أتدرب عليه، ولذلك قد يكون كل عملي تدريباً على هذا الأمر، ولذلك على حسب ظني، أنكم إذا فرضتم عليّ كتابة الجدران، ستضطرون إلى دهان المدرسة كلها قبل الاحتفال، لتطمسوا (الخرابيش) التي ستحصل بسبب عدم دربتي في الأمر، فاستشاط المقدم غضباً، إلا أن أحد زملائي الخطاطين، وهو من الرفاق الأعضاء العاملين في الحزب، قال: سيدي، إن لم يكن كتب بالدهان قبل اليوم، فمن الخطأ أن يكلف بذلك، لأنه فعلاً سيكون عمله خراباً، فقال: طيب، اذهب إلى مدير المدرسة فوراً.
وهنا ساورني شيء من القلق والخوف، وما علاقة مدير المدرسة بالأمر، هل إرسالي له للعقوبة، وعقوبة مدير المدرسة معروفة هي الحبس (كما كان يسميها هو) دائماً.
وانطلقت إلى مدير المدرسة، وأظن أن طوله لم يكن يتجاوز 155 سم، ورتبته عميد ركن، وهو مع ذلك كان مُرعباً للضباط قبل العناصر، ودخلت عليه، وقدمت له التحية مع ارتباك ظاهر، فقال: ماذا تريد، قلت: أرسلني رئيس قسم التوجيه السياسي، قال: لمَ أرسلك؟، فأخبرته بما حصل، كان يحدثني وهو يتفحص خريطة عسكرية طوبوغرافية، فقال لي: هذه خريطة عسكرية كل مواقعها مكتوبة بالقلم الرصاص، وأريد أن تكتبها بالحبر الصيني الأسود، فقلت: هذا أمر سهل، فقال: ابدأ بالكتابة.
نظرت إلى الخريطة، فكان مقاسها كبيراً على مقاس أكبر لوح من ألواح ورق (الكلك)، فقلت: سيدي هذه الخريطة فيها خطأ فني، فالذي رسمها نسي أن يضع لها إطاراً على كل جهاتها، كيف تقف الخطوط وتنتهي عند اتصالها بالإطار، أما الآن فلا ندري هل نوصل الخطوط الخارجة إلى نهاية الورقة، وهذا يذهب بجمال الخريطة، أم نقطع الخطوط الخارجة، وهذا يزيدها بشاعة وخرقاً، فنظر إليّ معجباً، وقال: أحسنت. ونادى على أحدهم، وهو المهندس الذي رسم الخريطة، وشتمه ووبخه لأنه لم يضع لها (بروازاً)، وأمره بوضع البرواز، ثم قمت أنا بكتابة ما فيها من مفردات وتعبيرات بالحبر الصيني، فأعجب العميد بالعمل، وقال لي: أنت قد أطلبك في أي ساعة من الليل أو النهار، فلا تتأخر عن المجيء في أي وضع كنت.
وأمضيت العمل في اليوم الأول عند مدير المدرسة، ولم أكتب له من الشعارات إلا لوحتين كرتونيتين ترحيباً بمقدم قائد القوى الجوية.
لم يعلم أحد من أصحابي ما العمل الذي أقوم به، حيث بقيت عشرين يوماً متوالية، ينادى عليّ بالإذاعة أنني مطلوب إلى مدير المدرسة، وأكثر الأيام كانت المناداة بعد الساعة التاسعة ليلاً، والعودة قبل الفجر، وكلهم يفهمون أنني أكتب لاحتفالات الحركة (التصحيحية).
وبقيت في هذه الأيام كلها أكتب كل المخططات، والخرائط، والمشاريع العسكرية التي صنعها المهندسون، والقادة العسكريون.
ومن أصعب ما وقعت فيه في هذا الوقت، أن يوم الاحتفال بهذه المناسبة، كنا أنا وبعض أصحابي نجلس على الأرض خلف صفوف المحتفلين نتحدث، والخطباء يخطبون، والكل محتفلون، وفجأة يرانا ضابط نصراني فجاء مسرعاً، واختارني من الجمع الذي يبلغ عددنا خمسة أو ستة، وقال لي: (حسن)، ما الذي تفعل، لماذا لا تشارك بالاحتفال، وبدون شعور، وبلا تفكير، ولا أدري كيف نطقت بجملة ليس لها حلٌّ إلا الإعدام، أجبته: «لأني لست حماراً»، وقبل أن أنهي جملتي أحسست بما وقعت فيه، ولا أدري كيف أنقذ نفسي، فهذا النصراني قد يكون أشد سوءاً من النصيري ليثبت وفاءه للنظام، ولكن...
فصرخ الضابط لما سمع كلامي: إذن أنت العاقل الوحيد، رئيس الجمهورية، وقائد القوى الجوية، ومدير المدرسة، وكل الشعب السوري من الحمير، وأنت العاقل الوحيد، وترى الاحتفال بمثل هذه المناسبة بهذا المستوى؟.
فقلت بهدوء، مع أن قلبي يرتجف مما وقعت فيه، فقد تكون نهايتي على يد هذا الضابط:
سيدي، أنتم تحتفلون اليوم، وأما أنا، فلي عشرون يوماً أحتفل ليلاً قبل النهار، أنتم كنتم تنامون، وأنا أسهر من أجل هذا الاحتفال.
هنا وقع الضابط في الفخ، ونسي ما قلت من جملة منكرة مخيفة مرعبة، وقال:
ما شاء الله، وكيف كنت تحتفل من عشرين يوماً، والاحتفال بدأ اليوم؟.
فبدأت أشعر أنني بدأت بالخروج من الفخ الذي وقعت فيه، فقلت له:
أنا من عشرين يوماً أذهب للتجهيز لهذا اليوم، ألا ترى اللافتات واللوحات وكل الأعمال الفنية؟
فقال: ماذا يعني؟
هنا بدأ أصحابي الذين حيّرتهم كلماتي الأولى، يتنفسون براحة، وأحسوا بالانفراج، فانطلق أحدهم، وهو من مدينة حارم، وقال: يا سيدي، هذا الذي تراه لم ينم ولا يوماً واحداً في المهجع من أجل هذا الاحتفال.
فقال الضابط: لماذا؟
فقال آخر من سراقب: لأن مدير المدرسة كان يطلبه يومياً بعد الساعة التاسعة مساء، فلا يرجع إلا مع الفجر.
فقلت: أرأيت يا سيدي كم تعبت من أجل أن تصلوا إلى هذا اليوم، وتحتفلوا بهذه المناسبة السعيدة؟
فقال: (خراس).
وذهب الضابط، وقام أصحابي يهنئونني على التخلص من هذا الفخ الذي وقعت فيه.
وهذا كان من أسهل ما يمكن أن أقع فيه، فالخوف كان يسربلنا من مفرقنا إلى أخمص أقدامنا، فكل كلمة، أو حركة محسوبة علينا، ومدونة في ملفاتنا، ولذلك كنا نرى الأشخاص يتطايرون، ويخرجون ولا يعودون.
وكنت قد اتخذت طريقة تختلف عن جميع أصحابي، فأنا أقوم بمحاورات كثيرة مع أقراننا، أو مع بعض صف الضباط الذين يحاولون التقرب منا، ليتصيدوا من يستطيعون تصيده، وكنت أتكلم بكل صراحة وجرأة، ولكنني اتخذت الطريق السهل الذي لا يرميني في أفخاخ لا عميقة ولا سطحية، فكلامي كله في الوطنية العامة دون ذكر لأي سياسة أو شخصية، وأصحابي يقولون لي: انتبه، قد تقع يوماً، ولن يرحموك، ومع ذلك مضيت في طريقتي، فأنا أناقش كمسلم سوري وطني، يهمه أمر وطنه، وأمر الشعب السوري، وهذا الشعب فيه المذاهب والفرق والأعراق، ولذلك كثيراً ما يكون هناك حوارات بيني وبين بعض العلويين، وهؤلاء هم الأقل، وبعض الروافض أو المترفّضين، وأذكر أنني وقعت في حوار مع أحدهم وهو يقول إنه من مدينة حمص، وسني وليس علوياً، وكان يشتم الصحابة، ويركز على شتم معاوية، ويزيد في توسيع الشتائم على يزيد وبني أمية، فقلت له إن الإمام الغزالي علمنا أن من مات ولم يشتم يزيد لن يدخل النار، لأن دخول الجنة والنار لا علاقة له بيزيد أوغيره، وانتفض، وأصابه نوع من الهستيريا، وشتم الحسين بن علي رضي الله عنهما، فقلت له: قبحك الله، لم أقبل بشتم يزيد، فشتمت من أفضل من يزيد ومعاوية؟، فقال: من لم يشتم يزيد، فلا بد من أن يشتم الحسين؟؟!!
وقد حدثت أحداث في هذه الفترة من عام 1978، وهي اغتيالات قامت بها الطليعة المقاتلة لكثير من شخصيات حكومية وعلمية وسياسية، وبدأت الأمور تزداد سوءاً.
وقتل أحد الأساتذة بجامعة حلب، وحسب تحريات الأمن بدأت التحركات لكشف القاتل، وكان من جملة هذه التحركات أننا كنا ننام في إحدى ليالي هذا العام، وحوالي الساعة الثانية صباحاً إذ بصوت النفير النزول إلى ساحة العلم باللباس الكامل، فنزلنا ووزعت علينا الأسلحة والذخيرة، وأركبونا بسيارات النقل العسكرية المغطاة (الزيل)، وانطلقوا بنا، وكان عدد أفراد الدورات التي حملوها قد يزيد على الألف، وفي منطقة من مدينة حلب، لا نعرفها، وقفت بنا السيارات فترة طويلة، وقد رأينا أن الأمر لا يتعلق فقط بمدرستنا، بل بكل المدارس العسكرية في حلب، وانطلقت بنا السيارات قبيل الفجر، ووصلنا إلى مدينة (عزاز) مع بدء انتشار ضوء الصبح، وبدؤوا يطلبون منا القفز من السيارات، والوقوف في المكان الذي نزلنا فيه، وإذ بنا نرى أنهم يوزعوننا بحيث يكون بين الفرد والآخر ما يقارب خمسة أمتار فقط، وقال لنا الضابط: أنتم هنا لحراسة الدوريات، وإذا رأيتم غريباً يسير في الشارع، فيقال له مرة واحدة: قف، فإذا وقف تتمون إجراءات التحقق من هويته، وإذا لم يقف تطلقون النار عليه فوراً، ولا تكرروا كلمة قف.
وكان البيت الذي حططنا رحاله أمامنا استيقظ صاحبه على الجلبة والأصوات العالية، فخرج من الباب ليستطلع الخبر، فقلنا له: ادخل، وأغلق عليك بابك، فضحك وقال: أهلاً وسهلاً، ودخل البيت ولكنه ترك بابه موارباً، ولم يغلقه.
ولاحظنا أن أهل هذه المدينة يتميزون بشدة الملاحظة، والذكاء، فقد كانت النسوة تراقب من خلال نوافذهن كل حركة في الشارع.
وجاء دور المنزل الذي حططنا رحالنا أمامه، فقرعت الدورية الباب، فلم يرد أحد، وسألونا كيف فتح الباب، فقلنا لهم: إن صاحب البيت استيقظ على جلبتنا، وسلم علينا ودخل، وتركه موارباً، فتشجّعت الدورية، وبدأت تقرع الباب بشدة، فلم يرد أحد، فقال أحدهم: إلى متى ننتظر، ادخلوا، فدخلوا وخلال ثوانٍ قليلة رأينا صاحب البيت بالملابس الداخلية القصيرة، وهو يطرد الدورية، ويقاتلها بين الضرب والدفع، حتى أخرجهم من بيته، وهو يشتمهم بأقذع الشتائم، وأقذرها، ويتهمهم بألفاظ سافلة، ويقول: لن تدخلوا إلا على جثتي يا....
وذهبت الدورية وعادت بعد قليل ومعها ضابط كبير ليعرفوا كيفية التصرف مع هذا الرجل الغريب الأطوار، فلما وصل قائد الدورية، وقرع الباب، خرج صاحب البيت بثياب محترمة مهندمة، وتقدم من الضابط مسلماً: أهلاً وسهلاً سيدي، فقال الضابط مستغرباً: لم تعاملت مع الدورية بشكل متغير عن هذا، فصرخ الرجل قائلاً: هؤلاء الذين أرسلتهم... إنهم دخلوا دون استئذان يريدون تفضيح الناس، والسطو عليهن، يريدون انتهاك حرماتي، أتقبل أنت يا سيادة الضابط بأن ينتهك حرمتك أحد، مهما كان وضعه أو رتبته أو مقامه، ولذلك طردتهم، ولما جئت أنت وبكل أدب واحترام استقبلتك، وأحسنت استقبالك، فبلعها الضابط، وقال له: نحن نريد أن نفتش البيت! فقال الرجل: أهلاً وسهلاً كل البيت لكم، فقد تسترت النساء، وأخذن الاستعداد لقدومكم الكريم، فهذا البيت على حسابكم.
ودخلت الدورية وفتشت البيت وخرجت.
ولكن ما حدث بالطرف المقابل من الطريق حيث كنا نرى النسوة تراقب ما يحدث، فأدركن أن الدوريات التي تفتش ليس لها ترتيب، ونظام معين، وعندما تقدمت إحدى الدوريات إلى منزل مقابل لنا، وطرقت الباب، صرخت امرأة من النافذة: ماذا، هل تريدون احتلال البيت، أم ماذا تريدون، هل ننزل ونسكن الشارع حتى ينتهي تفتيشكم، أيجب أن تفتشوا بيوتنا أكثر من مرة، لم يبق إلا أن ننزل نحن الحريم ونسكن الشارع حتى تنتهوا سياداتكم من تفتيش البيوت عشرات المرات، فانتقلوا إلى ما بعده، فإذا بالنساء يتابعن الصراخ والاستنكار، وهنا ارتبكت الدوريات، ولم يدرِ رؤساؤها ما يفعلون، هل يصدقون النساء أم يكذبونهن، ووجد الحل أن يلجؤوا إلينا ليتأكدوا من صحة ما تكلمت به النساء، والمكان الذي نحن فيه ليس شارعاً أو طريقاً بالمعنى المعروف، بل هو أقرب إلى أرض فضاء بين البيوت، فقد تكون المسافة بيننا وبين البيوت المقابلة أكثر من مئتي متر، فجاء الضابط نحونا وسألنا هل فتش غيرنا هذه البيوت؟ وهنا نحن استخدمنا الفكرة التي قررتها النساء، فقلنا له: يا سيدي، أنتم على ما يظهر دورياتكم، لا تسير على نسق معين، فكل دورية تدخل البيت الذي تريد، ولذلك ضاعت الأمور، ونحن نراقب الشارع أكثر مما نراقب الدوريات، والدوريات جائية ذاهبة، فهذا البيت الذي نحن أمامه مثلاً مرتين جاءته الدوريات، فسكت الضابط وانطلق.
وبعد أن انتهى التفتيش وبدأنا بالعودة انكشف الأمر عن سرقات كثيرة أثناء التفتيش، وعرفنا أن الدوريات حصلت على ذهب كثير أثناء التفتيش، ولكنها لم تعثر على قطعة سلاح، أو على صاحب الجريمة الذي يلاحقونه، ويبحثون عنه، فهذا هو العسكري في جيشنا، مع أنه يعلم أن هؤلاء لا يختلفون عن أهله، وأهل ديرته، فيسرقهم، ويهينهم، وكأنه لا يدري لو أن حادثاً حدث في حيّه أو قريته، أو مدينته فسترسل الدولة أمثاله من العسكريين، وسيعاملون أهله وأسرته بالطريقة نفسها التي عاملها لأهل هذه المدينة، وقد استفادت الدولة من إبعاد كل عسكري عن بلده حتى لا تشعره بأي رابطة تربط بينه وبين أهل البلد الذي يفعل فيه ما يأمره به قائده، وكأنه طلب منه ما طلب أن يقوم به، إنما هو في بلد عدو، وفي حرب مع أعداء، وبذلك كانت تموت النخوة بين أفراد هذا الجيش الذي لا يرى لشعبه أي قيمة أو وزن أو احترام.
وفي سهرة كنا فيها، ليس فينا نصيري واحد، بل كان الجميع من السنة، وفينا اثنان من مدينة حلب، وأحدهما عضو في شعبة الحزب في مدينة حلب، وقد أخبرنا أن الشعبة توصلت إلى أن ثمانين بالمئة من طلاب جامعة حلب إما من الإخوان المسلمين، أو من أنصارهم، وهذه مشكلة، فالدولة تقدم التعليم والإعانة لأعدائها؟! ولذلك توصلت شعبة الحزب إلى أن تقترح على الدولة إغلاق جامعة حلب، ولذلك بدأت حركات الاعتقال والملاحقة تشتد بين طلاب الجامعة.
وهكذا مضت الستة أشهر الأولى، وأنجانا الله من كثير مما وقعنا فيه، وبعد ذلك جاء موعد توزيعنا على القطع العسكرية، ولكن بدلاً من ذلك جاء تمديد الدورة لعدد منا قليل، لتصبح دورة طلاب ضباط، وكان الاختيار حسب درجات التخرج من الجامعة، فكان عدد طلاب الدورة لا يتجاوز الأربعين طالباً.
ولكن...
المفاجأة أن عدد الخريجين من غير جامعة تشرين في اللاذقية لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد الواحدة، والباقي كلهم من جامعة تشرين، وأدركنا أنهم كلهم ذوو درجات علية في التخرج، وعدد النصيريين فيهم أكثر من غيرهم.
وهنا بدأنا نشعر بشيء من المعاناة أكثر، وإن كان الظاهر أننا أصبحنا أصحاب امتيازات أكثر في النظام والطعام والمعاملة، ولكن هنا برزت الحزبية، وتسبقها الطائفية بشكل أوضح، وتقلصت حواراتنا السابقة، التي كانت ضمن دورة أعدادها فوق المئتين، أما الآن فعددنا لا يصل إلى الأربعين.
وقد ظهر بيننا نحن الذين يسمّون بالسنة بعض الأفراد، وإن كانوا يصلون معنا، ولا يتركون الصلاة، تبين أنهم أقذر من كثيرين من غيرهم، فقد أصبح ديدنهم تعذيب دورات صف الضباط، وبطريقة بشعة، حتى أن بعض هؤلاء الأفراد (من دورات صف الضباط) جاؤونا أنا وبعض أصحابي الذين نصلي، وشكوا إلينا ما يقوم به هؤلاء الأفراد السُّنة مع أصحاب لهم من النصيريين، كيف يسطون بأفراد هذه الدورات، ويركّزون في التعذيب على المتدينين، فاقترح أحدنا وهو من حارم أن نقوم نحن بتعذيب هذه الدورات قبل أن يصل هؤلاء الأوغاد إلى دورات صف الضباط، وفعلاً بدأنا بهذا الأمر، فإذا كان أقراننا ينزلون الدورات المراد تعذيبهم عادة الساعة التاسعة والنصف، قمنا نحن بإنزالهم في التاسعة والربع، فيأتي هؤلاء الأوغاد ليعذبوا الدورات، فيجدوننا نقوم نحن بهذا العمل، فاحتجوا علينا بأنهم هم الذين يجب أن يقوموا بهذا العمل، وحدثت مشادات كلامية، ولم يستطيعوا أن يفعلوا شيئاً، لأننا نحن وهم في مقام ورتبة واحدة، وما تعلموه تعلمناه، وما يعرفونه نعرفه، وبذلك يخنسون ويذهبون بغيظهم، ونقوم نحن والدورات بأعمال رياضية تدفع البرد القارس الذي كان يستغله أولئك لإيذاء أفراد الدورات، فزاد حب هؤلاء الأفراد لنا بهذه الطريقة التي عاملناهم بها.
وانتهت دورة الضباط هذه، وكان ضابط علوي متخرج من جامعة اللاذقية من قسم اللغة العربية، يتظاهر بالتقرب مني، وأخبرني أنه سيقوم بكل محاولة لإبقائي في المدرسة الجوية، وفعلاً صدقته، لأن إحدى قريباتي في الحي من مدينتنا، لها زوج ابنتها ضابط في الجيش، وله رتبة ومكانة، فجاء وقابلني، وأخبرني أنني يجب أن أعتبر نفسي أن بقية خدمتي العسكرية ستكون في دمشق، وليس في حلب، فضحكت، فقال لي: كأنك لم تصدقني؟ قلت: بل أعجب من ثقتك بنفسك أنك تستطيع أن تنقلني إلى دمشق، فضحك وقال: سنرى.
وبعد أيام جاءني وأخبرني أنه لن يستطيع نقلي إلى دمشق؛ لأن مدير المدرسة التي أنا فيها متمسك بي عنده، ولن يتركني.
فصدقت عندها أن ذلك الضابط النصيري سيبقيني في المدرسة كما أخبرني.
وكانت المفاجأة أنني لم أنقل إلى دمشق، ولم أبقَ في المدرسة، بل جاء مكاني في مطار خارج حلب بأكثر من ستين كيلاً، وهنا بقيت في حلب، واستأجرت مع بعض الأصدقاء بيتاً نسكن فيه، ونذهب منه إلى مكان العمل الجديد.
الأمر المثير هنا أنني أصبحت ضابطاً، أحمل الرتبة، وأضعها على كتفي، ولكن راتبي راتب رقيب، ولم يأتني التثبيت على الرتبة من القيادة، فأصبحت كرتبة الشرف، لأن القيادة لم تقبل أن أكون ضابطاً رسمياً، وإن نجحت بدورة الضباط بنتيجة جيدة.
وكانت وظيفتي هي تدريس اللغة العربية- المنهج الثانوي للضباط الذين سيتخرجون طيارين برتبة مرشح.
وفي هذه الأثناء كانت الأوقات الفارغة أكثر من أوقات العمل، فكل عملنا هو الجلوس في المكاتب، وكان مكتبنا فيه أكثر من عشرة ضباط، بينهم اثنان مجندون (إجباريون)، والباقي متطوعون، ونحن أقل الرتب (ملازم)، والباقي من ملازم أول إلى نقيب ورائد ومقدم، ونحن الاثنان المجندان من السنة، والباقي من العلويين، وكان كل شيء محسوب، وكل شيء مرقوم، وكان مديرنا عميد طيار من السنة، ويتميز بالتدين العجيب، والجرأة مع الالتزام بالنظام العسكري التام، فلا يقبل المخالفات، ولا الشطط، وكنا نشعر بالراحة لوجوده، ولكنه فجأة تقرر نقله إلى دمشق، وذهبنا نزوره ليلة انتقاله إلى دمشق، وركبنا أنا وصاحبي بسيارة أجرة (فان)، وإذا بسيارة عسكرية يقودها سائق أصيب بالهستيريا أو الجنون، حيث يطلق بوق سيارته بأقوى صوت يمكن تسمعه من سيارة، ويكتسح الطريق دون نظام أو أخلاق، والشتائم تنهال عليه من كل حدب وصوب، حتى تجاوز سيارتنا، وأصبحت سيارته أمامنا وإذا هي سيارة عسكرية مغلقة من نوع (زيل) ويقف على مقدمة صندوقها الخلفي عسكري لا يلبس إلا ما يستر عورته المغلظة، وقد فتح ساقيه أقصى ما يستطيع، ومدّ يديه إلى أعلى مع الانفراج بينهما إلى الجانبين بأقصى ما يستطيع، وتزداد الشتائم بأقذع ما يمكن من أصحاب السيارات الأخرى، ولكننا أدركنا سبب هذه الظاهرة المريبة والغريبة، إن سيارته مليئة بالجثث العسكرية، وهي جثث ممددة وكأنها ألواح خشب بعضها فوق بعض، مرتبة ترتيباً يوحي بأنها يجب أن تتسع لأكثر ما يمكن من الجثث، على ألا تعلو عن باب صندوق السيارة الخلفي، وقد قدّرنا عدد الجثث ما بين الخمس عشرة والعشرين، فتخيلنا أنه حادث مرور كبير، ولما وصلنا إلى بيت العميد، وكان قريباً من المكان الذي رأينا فيه هذه السيارة، وأخبرناه بما رأينا، وأنها سيارة عسكرية، وأن الجثث لعسكريين، فقدّر مثلنا أنه حادث مروري غير عادي، وأثناء كلامنا عن هذا الموضوع، بدأت فجأة صافرات الإنذار تملأ أجواء مدينة حلب، وبدا أن هناك أمراً غير عادي، فقال لنا العميد: اذهبوا إلى بيوتكم، فيبدو أن الأمر أكبر من حادث مروري، الحقوا أنفسكم، فقد تقفل الشوارع، ولا تستطيعون الوصول إلى المنازل، وفعلاً خرجنا، ووصلنا إلى المنزل بين الهرج والمرج وصراخ صافرات الإسعاف والنجدة والشرطة، ولا ندري ماذا حصل.
وفي الصباح وصلنا إلى المطار مكان العمل، فرأينا الدنيا قد قلبت رأساً على عقب، حيث كل لحظة نسمع أن الضابط فلاناً اعتقل، والجندي فلان قتل، و... وأن جماعة الإخوان المسلمين دخلت مدرسة المدفعية، وأبادت دورات مدرسة المدفعية الثلاث، هكذا أُذيع، وأن الدولة تلاحق المجرمين، وبدأت أحوال المعسكرات والمدارس العسكرية، والأحوال في حياة المدنية كلها تتقلب وتنقلب.
وبعد أيام أذاعوا أنهم استطاعوا القبض على الرأس المدبر للجريمة (سليمان عابو)، وقدموه في مقابلة تلفزيونية مع اعترافه بالعملية، ومحاولة إسباغ الصفة الطائفية عليه، وقامت جماعة اسمها الطليعة المقاتلة تتبنى هذه العملية، وبدأت الحرب.
ولكن المشكلة ليست في (سليمان عابو) الرأس المدبر والمخطط للعملية، ولا بالمنفذ العملي (إبراهيم اليوسف)، ولا بالطليعة المقاتلة، فقد دُمّرت أربعة أحياء من حلب تدميراً شبه كامل، ورأينا واحداً منها كيف أصبحت بيوت كثيرة سويت بالأرض، وكيف دمروا قرية إبراهيم اليوسف وهي (تادف) في منطقة (الباب)، وكانت على مرمى النظر البعيد من المطار الذي نعمل فيه، كل هذا مع الملاحقات والاعتقالات التي تجتاح المدنيين والعسكريين، وكنا ننتظر كل يوم أمر الاعتقال، حتى عدنا مرة من المطار، وفي العادة نصل قبل المغرب إلى شقتنا في مدينة حلب، وإذا بنا نجد أن أطفال العمارة وقد يكون معهم أطفال عمارة أخرى، كلهم يلعبون في مدخل العمارة، واستغربت أنا وصاحبي من هذا المنظر، فلم نعهده من قبل حتى في الأيام التي سبقت هذه الأحداث، وكان الهدوء يخيّم على الحياة في مدينة حلب، وتساءلت وصاحبي عن سر تجمع الأطفال هذا، ولم نجد في أنفسنا جواباً، وبدأنا بصعود الدرج تجاه الطابق الذي يضم شقتنا، فلحق بنا طفل في آخر المرحلة الابتدائية كما يبدو صائحاً: عمو، عمو، انتبهوا، قد يكون في بيتكم شرطة، فقد جاؤوا وأخذوا من شقتكم واحداً.
وهنا سقط في أيدينا، من هذا الذي أخذوه، فنحن خمسة، مهندسان معماريان، وثلاثة ضباط، وأنا وصاحبي ضابطان، إذن بقي ضابط دمشقي مهندس، لم يكن يدور في بالنا أن مثله يُقبض عليه، فهو مهندس مدني، لطيف، فيه كل السمات المدنية المتحضرة، ويزيد عليها الضعف الجسدي، والنفسي، مع الطيبة، والخلق الرفيع الذين كنا نحسده عليه، وأما المهندسان الآخران فكانا في إجازة، إذن لم يبق إلا صاحبنا المهندس، فتوقعنا أن خطأً وقع فيه الأطفال.
ولم نتمّ صعود الدرج الأول من العمارة حتى افرنقع الأطفال، وتفرقوا، وكل ذهب إلى بيته، فعلمنا عندها أن سكان العمارة خافوا علينا، وأرسلوا أطفالهم لينذرونا، لنأخذ الحذر قبل الاعتقال، كما توقعوا، ولكن لم نجد بداً من الدخول إلى بيتنا.
ودخلنا الشقة، وهي مكونة من ثلاث غرف، وجدنا كل غرفة على النحو الآتي:
كل ما فيها من أغراض وثياب مكومة في وسط الغرفة، ولا يوجد في خزائن الثياب، ولا أدراج الطاولات أو خزائن الأغراض والكتب أي شيء، وكتبي التي كانت تقارب المئة كتاب ليس لها أثر، وكان أحد المهندسين المدنيين مغرماً بسماع (أم كلثوم)، فجمع لها أكثر من خمسمئة شريط (كاسيت)، وحسب رأيه لم تفلت منه أغنية من أغانيها ، فقد جمع كل ما غنت أم كلثوم إلى وقتها، لأنها لم تكن ماتت بعد، ولكن ليس للأشرطة أي أثر، ولا حتى لأي ورقة، في أي جيب من ثيابنا لها وجود، مالاً كانت، أو أي نوع من أنواع من الأوراق، فارغة من الكتابة أو مكتوباً عليها، كل ذلك فُرّغ وأُخذ.
جلست وصاحبي لا ندري ما حدث، هل فعلاً أخذوا المهندس نور الدين، أم أن أحد المهندسين جاء من إجازته، فأخذوه، وتركنا كل شيء على ما هو عليه، لأننا توقعنا أننا قد نكون مستهدفين أيضاً، فإذا كان نور الدين مُعتقلاً، فمعناه نحن أولى بالاعتقال منه، ومن العبث أن نقوم بترتيب بيتنا، وسينقض مرة أخرى، وقد لا ننام ففيه، وشعرنا بكثير من الخوف، فقد أخذوا كثيراً من أصحابنا ممن نعرف ومن لا نعرف واعتقلوهم، لا ندري هل عن شبهة، أم دون سبب، بل بأنهم أصحاب لحى، أو لأنهم متدينون، وأثناء ذلك، نسمع من يصيح بأسمائنا من الشارع، والصوت لدينا معروف، فهو ضابط مهندس صديق صديقنا نور الدين في المدرسة الفنية الجوية، ونظرنا من خلل النافذة المظلم لنرى هل وحده أم معه غيره، فوجدناه وحده، وكأنه عرف أننا سمعناه ونظرناه، فانطلق باتجاه شقتنا، ورن جرس الشقة، فخرجنا كلانا لنفتح له الباب، فقال لما فتحنا الباب: عندكم أحد؟ قلنا: لا، فدخل مسرعاً، وأغلق الباب، ونظر إلى ما فيه وضع الشقة، فقال: لقد جاؤوا وأخذوا نور الدين، ولم يرجع، وجئت لأطمئن عليه، ولكن على ما يبدو من منظر الشقة أنهم جاؤوا به إلى هنا وفتشوا شقته، وأخذوا ما أخذوا، وتم اعتقاله.
ونمنا ليلاً لا ندري من أي ألوان الليالي هو، ولكن الذي نعلمه، أننا نمنا – كما تقول أمي – نوم الثعلب، يغمض عيناً ويفتح أخرى، يترقب فريسته، والفرق بيننا وبين الثعلب أنه يترقب فريسته، وأما نحن فنترقب مُفترِسنا.
ذهبنا في الصباح لنجد عدد المعتقلين زاد، وأكثرهم من أصحابنا، أو ممن نعرف، وكلما حدث من الأمر، نتوقع أن دورنا جاء، وأخبرت أصحابي في المكتب وأكثرهم من العلويين، ما حدث في شقتنا، فقال أحدهم: هؤلاء حرامية، وليسوا من ضباط الأمن النزيهين، هؤلاء مع أخذهم لصاحبكم سرقوا أموالكم وممتلكاتكم، فإذا أردت كتبك، فاذهب إلى سوق الحراج فتشتريها من هناك، وتجد اسمك ما زال عليها، وقل لصاحبك صاحب الأشرطة فقد يشتريها دفعة واحدة، لأن هؤلاء (الأمنيين) حرامية سرّاق، ليس هدفهم خدمة الدولة، بل هدفهم سرقة الشعب، ونحن عند سماعنا مثل هذا الكلام لا نستطيع التعليق بأي كلمة، لأن كل ما نقوله محسوب، ومكتوب، ومحاسبون عليه، فالتزمنا الصمت.
وفي هذه الأثناء ظهرت الدراسات التي قامت بها الدولة، فتبين لها أن نسبة مدرسي المواد العلمية في ثانويات القطر هي نسبة ستين بالمئة من الحاجة الحقيقية، وأن أربعين بالمئة يغطيها طلبة الجامعة تحت نظام التدريس بالساعات.
ومع ذلك صدر قرار بإلغاء نسبة أربعين بالمئة من المدرسين في كل المواد، وخصوصاً المواد العلمية، وتحويلهم إلى وظائف مدنية، وبذلك تكون الدولة قد قضت على الحياة العلمية كاملة، حيث أصبح الذي حصل على الثانوية العامة قبل سنة أو سنتين مدرساً على طلاب الثانوية الذين قد يكون أكثرهم من أقرانه عندما كان في الثانوية ورسبوا فيها، فكيف يدرّس هذا الطالب الجامعي منهجاً هو لم يهضمه أصلاً، وقد يكون لم ينجح فيه بشكل مقبول، بل بلغت الأمور في الدولة أفظع من هذا، فعندما كنت في السنة الرابعة في الجامعة، ذهبت إلى المطعم لتناول شطيرة مع كوب شاي، فالتقيت بصاحب لي قديم كنا في الابتدائية، وتفرقت بنا الأيام، فلم أره منذ ذلك الوقت، ولكن في نتائج الثانوية العامة عندما حصلت عليها رأيت اسمه بين الناجحين، ودرجاته كانت فيما أذكر 98 درجة وبجانبها حرف (م)، أي أنه كان من الراسبين، ونجح مع المساعدة، ولما رأيته سألته، وقد كنت أتوقع أنه في كلية الحقوق التي كنا نسميها كلية العجزة، لأنه يدخلها كل من لم يستطع دخول أي فرع في الجامعة، وله وساطة، فيلتحق بكلية الحقوق، سألته ماذا يدرس؟ فقال لي: اللغة العربية، فقلت: كيف؟ ما درجة مادة اللغة عندك في الثانوية، فأخبرني أنها نسبة النجاح بعد المساعدة، فقلت: كيف دخلت قسم اللغة العربية؟ فقال ضاحكاً: أنت تعلم أنني لا أستطيع أن أدخل أي كلية، ولكننا نحن – الحزبيين – لنا معاملة خاصة، فقد حصلت على الموافقة لدخول قسم اللغة الإنكليزية، مع أنني كنت حصلت في الثانوية على درجات متدنية جداً، أنا نسيت الرقم الذي لا يصل إلى العشرة.
وتابع قائلاً: ولكنني بقيت في قسم اللغة الإنكليزية عامين، ولم أنجح في دورة من دورات الاختبارات، وبذلك انتهى وجودي في قسم اللغة الإنكليزية حسب النظام الجامعي بأن من يرسب في السنة الأولى عشر دورات اختبار، يفصل منها، ففصلوني، وبناء على وضعي الحزبي نقلوني إلى قسم اللغة العربية، ولا أدري هل أستطيع المتابعة أم لا، وتركته وأنا أتعجب من هذه الدولة هل مهمتها إفساد شعبها وقتله وتدميره، أم هي فعلاً عدوة لهذا الشعب، وتعلم ما تفعل، وكلنا – نحن أعداء ثورتهم كما يسموننا - عندنا قناعة بالنظرية الثانية لا الأولى.
خلال هذه الفترة كنت أحس بأنني أصبحت مستهدفاً، ويبحثون لي عن سبب للاعتقال، مع أنهم في العادة لا يحتاجون إلى الأسباب، ولكن على ما يظهر كان هناك ممن يعتبرني لست عدواً للنظام، وهذا ما كان يمنحني شيئاً من الأمان، وقد حدث بعض الأمور الغريبة.
أول ما حدث من الغرائب أننا كنا في غرفة الضباط نجلس لأحلّ للضباط الكلمات المتقاطعة، فقد كنت أنا المرجع الأخير لمن استعصت عليه هذه الأشكال من إضاعة الوقت في الصحف المحلية (الوطنية)، إذا دخل حاجب عميد مطارنا يخاطبني: سيدي، يريدك سيادة مدير الكلية الجوية، وهنا سقط على الجميع نوع من الوجوم والانخلاع، وذهبت أنا أجرّ رجلاً إلى الأمام، واثنتين إلى الخلف، أأهرب، وكيف، وقطر المطار يفوق خمسة عشر كيلاً، ولو استطعت الهرب، فإلى أين، ولما قاربت الوصول إلى مكتب العميد وكان الباب مفتوحاً، فإذا أنا ليس بعميد واحد، بل بثلاثة: أعلاهم مدير الكلية الجوية، وهو الذي جاء الطلب باسمه، وبجانبه أقل مرتبة وهو مدير المعهد الجوي، وبجانبه العميد مدير فرع التدريب، وهو القائد المباشر لنا، فقلت في نفسي معنى هذا أن جريمتي عندهم أكبر من أن يمسك بها العميد المباشر لي مدير الفرع، ولا مدير المعهد، بل مدير الجميع، العميد مدير الكلية الجوية، ووصلت إلى مكتبهم، وقدمت التحية العسكرية، وقلبي مليء بالخوف والفَرَق، فلا أدري كيف سيتم القبض علي، فسألني مدير الكلية الجوية: أنت الضابط فلان؟
نعم سيدي.
قال: ماذا فعلت؟.
قلت: سيدي، لم أفعل شيئاً!
قال: بل فعلت، اعترف.
هنا تذكرت أثناء قراءاتي لمحكمة الشعب في مصر أن المحامي كان يعلمهم ألا يجيبوا على أي سؤال عام، لا حدود له، بل يلتزمون بأقل إجابة عن سؤال محدد معروف، وهنا أصررت على أنني لم أفعل شيئاً.
فقال: قلت لك اعترف.
فقلت: سيدي، أنا لا أعلم أني فعلت شيئاً، فإن كان هناك شيء تعرفونه عني ولا أعرفه فأخبروني، وأنا أجيبكم بصراحة لما تريدون.
فقال غاضباً: كيف تطلب من صف ضابط أن يرفع تقريراً بالمخالفين، وأنت الرتبة العليا التي يجب أن تقوم بالأمر؟.
هنا شعرت بالراحة التامة، والانفراجة الرحمانية، فقلت:
سيدي، صف الضابط هذا متطوع ومدرس التوجيه السياسي، وما أنا إلا ضابط مجند، يخشى على نفسه من زيادة يوم في خدمته العسكرية، وكان خلافه مع طلابه، فقمت أنا بإسكاتهم كضابط، ولكنني طلبت منه أن يرفع بهم العقوبة؛ لأنه مسموع الكلمة عند القيادة.
فازدادت حدّة العميد، وقال: أنا أعلم أن كل الضباط المتدينين يلتزمون بتطبيق النظام العسكري، وأنت لم تقم بهذا الأمر؟.
فقلت: سيدي، أنا أعرف مكاني وقدراتي، فلو أنذرت طالباً بعقوبة، فسيضحك عليّ، ويعلم أنه لا قيمة لي بمثل هذا الأمر، لأنني إلى الآن لم أرفع عقوبة، ونُفّذت.
فغضب وقال: ارفع أنت أي عقوبة، وإذا لم تأتِ فتعال إلى مكتبي دون استئذان، وسترى أن العقوبة ستنفذ أم لا؟
قلت: حسناً.
قال: اذهب الآن.
خرجت وأنا لا أصدق أنهم طلبوني لمثل هذا الأمر التافه، ووصلت إلى مكتبي لأجد أصحابي الذين تركتهم كما هم، كأنهم خشب مسندة، لم يتحرك منهم أحد أي حركة، وما إن رأوني حتى انطلقوا يعانقونني، ويهنئونني بالسلامة، فتظاهرت بالشجاعة والقوة، وقلت: لماذا كل هذا السرور بعودتي، وهل ذهبت إلى مكان مخيف؟ فانطقوا يقولون: ظننا أنهم أرادوا اعتقالك، فقلت: ولمَ يعتقلونني وأنا الرجل الوطني، المحب لوطنه، وأقوم بخدمته، ولم أنحرف يوماً عن هذه الخدمة، فقالوا: على كل حال الحمد لله على السلامة.
هذه الحادثة كلفتني كثيرً من العمل، لأن العميد مدير الفرع كلفني بمعاقبة الدورة كلها: دورة المرشحين، وبقي يتفرج وينظر إلي كيف أعاقبهم، لأنه أنذرني إن لم يرَ الدماء تسيل من أذرعهم وأرجلهم فسينزل بي أشد العقوبات، وقمت بما كلفني به على خير وجه، ولكن....
بعد أيام من هذه الواقعة كنت أجلس بعد العصر في مكتبي ولم يكن حضر أحد من الضباط بعد، إذ يقرع الباب ويدخل فرد من أفراد الدورة، وأعرفه سني من مدينة حمص، وقد جلّله العرق من الخوف خشية أن يراه أحد من زملائه يدخل مكتبي، وهو يقول لي: سيدي، إن الطلاب العلويين أكثر من ثلاثين منهم، قرروا أن يلفّقوا لك تهمة توصلك إلى الإعدام، وانطلق هارباً خائفاً بعد أن أخبرني، فقلت سبحان الله، ليس أنا فقط من يدرك سر هذا النظام القائم على الطائفية، والذي يحاول طمس أي ظهور أو انتماء سني، ووقع في قلبي خوف شديد؛ لأنني اعلم أنهم يستطيعون، ولكن كيف أعلم، فذهبت إلى العميد مدير الفرع، وكان طياراً دمشقياً سنياً، وأعرف أنه يخاف أكثر مني، ولكنه على الأقل له رتبته، وهو القائد المباشر لي، وهو يعتبرني – برأيه - من أحسن الضباط المجندين، وأنا المجند الوحيد الذي نال جائزة في عيد القوى الجوية، وأخبرته بما يحدث عقب تلك العقوبة التي حدثت بأمره وإشرافه، فقال: علاّكين، لا تردّ عليهم، قلت: سيدي، علاّكين ولكن قد يؤدي الأمر لإعدامي، قال: لا تخاف، لا يستطيعون، قلت: سيدي، أنت لا تستطيع حمايتي أيضاً، قال: لا تخف، واذهب.
وفعلاً ذهبت، وفي قلبي خوف شديد، ولكنني كلما مررت بمحنة خوف من صغري، وأنا أعلّق قلبي بربي، ودائماً أشعر أنه لا يخذلني، مع أنني وقعت في أزمات كثيرة من الخوف، وكنت أحسّ أن خوفي هذا يقربني من ربي، وأنني دائماً محاطٌ بعنايته ولطفه.
وفعلاً بعد أيام كنت في مكتبي في الليل لأن مناوبتي كانت ليلتئذ، وإذ يدخل علي ضابطان سنيان: أحدهما نقيب من معرة النعمان، وآخر ملازم أول من حمص، دخلا وسلّما عليّ، وأنا أعلم أنهما المدربان العسكريان لدورة المرشحين، وبعد تناول الشاي كالعادة، والأخذ بأطراف الحديث، سألني النقيب: ما الذي بينك وبين دورة المرشحين؟ فأخبرتهما بما حدث.
فقال أحدهما: ألا تعلم أن الله رحمك بأن هؤلاء الطلاب كانوا من الغباء بشكل غير معهود؟ فقلت: ما الأمر؟ قال: هؤلاء الطلاب رفعوا تقريراً عنك أنهم رأوك تنزع صور الفريق القائد عن الجدران خلسة، ولكن غباءهم أنهم رفعوا التقرير عن طريقنا لا عن طريق ضابط الأمن، فلو رفعوه عن طريق ضابط الأمن لاعتقلت بمثل هذه الأحوال، وجاءك الإعدام فوراً، لأن من أعدموا من أمثالك أعدموا بتهم دون هذه التهمة، ولكنهم رفعوا هذا التقرير لنا، ونحن كما تعرف دائماً نجلس مع بعض، ونتجاذب أطراف الحديث، ولا نعلم عنك مثل هذه التهمة الغبية، فاضطررت أنا والملازم أول هنا أن ندور في كل المطار نبحث عن صورة للرئيس فيها محاولة للخلع أو النزع، أو أي أثر عليها بأذى أو إساءة، فلم نجد في هذا المطار الفسيح ما يدل على شيء من صدق هذه التهمة، فعلمنا أنها مجرد اتهام نتيجته الإعدام.
فقلت لهم: الآن فهمت ما كانوا يقولون؟
قال أحدهما: وما كانوا يقولون؟
قلت: كلما التقى بي أحد الطلاب العلويين يسألني كم بقي لك لتتسرح من الجيش، فأقول: أربعة أشهر، فيقول: أنا أرى أقل من ذلك بكثير، ولا تحتاج إلى إكمال الأشهر الأربعة يقولها وهو ضاحك.
وأحسست هنا أن الضباط المتطوعين أيضاً كانوا يشعرون بثقل الطائفية، وأن الجيش يحكمه النصيرية لا الوطنية، ولذلك تحركت في هذين الضابطين نخوة التأكد من صحة الاتهام، ورموه في سلة الزبالة، ولم يرفعوه إلى القيادة كما أخبروني، وطلبوا مني الحذر وشدة الحذر، وأن أخاف على نفسي أكثر من هؤلاء الأوغاد الطائفيين.
وكنت مرة أجلس وحيداً في المكتب بعد العصر، وإذ بحاجب العقيد رئيس فرع التدريب العسكري يطلبني لقائده، وهذا العقيد من العلويين، ومشهور بأنه مخيف، ولكن كان بيني وبينه علاقة أنه ينظم الشعر في المناسبات، وفي كل مناسبة يدعوني ليطلعني على قصيدة سيلقيها، لألقي عليها نظرة أصحح فيها اللغة والوزن.
ولما دخلت وسلمت عليه، قدم لي قصيدة لأطلع عليها، وأصحح ما فيها، مع أنه لم يكن مناسبة قريبة، ولكن ما اهتممت للأمر، وبعد الانتهاء من التعليق والمناقشة حول القصيدة سألني أتشرب شاياً؟ فقلت: أليس فنجان القهوة أسهل؟ فانتبه إلى أنني فهمت ما يريد، فقال: أنت فهمتني خطأ، فقلت: يا سيدي، أنا أعلم أن كل من يعتقلونه، يدّعون أنهم سيقدمون له فنجاناً من القهوة، فيذهب ولا يعود، فضحك وقال: سامحك الله أنا لا أقصد هذا، ولكن على كل حال بما أنك أنت بدأت بالحديث فلا بأس، ما رأيك في حادثة مدرسة المدفعية؟ فقلت: شاياً أم قهوة؟ فضحك وقال: دعك من هذا، والآن نتكلم كمواطنَيْن، لا كضابطين، أو غير ذلك من الألقاب، وحدث بيني وبينه حوار طويل على مدى أكثر من ساعتين، وخرجت من مكتبه ونحن أصدقاء وأصحاب نريد خدمة هذا الوطن.
وكأنما هذا الحوار مع العقيد لم يُرضِ القيادة، فأرسلوا لي مساعداً علوياً كان يأتي ويجلس عندنا في مكتب الضباط لعلاقته بأكثر الضباط.
جاءني بعد العشاء عندما كنت مناوباً، وجلسي عندي في المكتب ليسألني بالبداية عن الكلمات المتقاطعة، ثم يشرّق الحديث بنا ويغرّب، وأنا في نفسي أنه جاء ليحقق معي، فهو مشهور بأنه من رجال أمن المطار الأذكياء اللوذعيين، ويخافه كثير من الضباط المتطوعين، بله المجندين.
بقي المساعد يحدثني إلى الساعة الثالثة صباحاً حول الوطن ومستقبل الوطن، ومن هم أعداء الوطن، وأنا أكلمه ظاهراً بأريحية ووطنية وبسرعة في الإجابات، مع خوف شديد من انفلات لفظة أو جملة تدمّر كل شيء، ومضت الليلة كلها والحمد لله على خير، ودون أية تداعيات.
وعندما كنا نتحدث مع بعض الثوريين غير الحزبيين، وهذا عند وجودي في مدينتي وبلدي، وهم أصدقائي في الثانوية، وهم بين ناصري وقومي (من القوميين العرب)، وشيوعي، واشتراكي علماني، كنا نتحدث أن هذه الأعمال التي تقوم بها الدولة إنما هي تدمير للمجتمع، ولكنهم كانوا يصرحون علناً أن ما تقوم به الدولة هو الصحيح، لأنها تحفظ الوطن من أعدائه – يقصدون الإسلاميين – فوجود هؤلاء الأعداء هو الذي سيدمّر الوطن، هكذا كانوا يصرحون، وكنا نحسّ أنهم فعلاً يتمنون أن تُنهي الدولة علينا، وتخلّصهم من أعداء الثورة.
وفعلاً حدث كما أرادوا، فقد بدأت الدولة تعتقل وتقتل من تريد فجأة، وبدأ الناس يتساقطون، ويساقون إلى المعتقلات، وعندما خرجت من الجيش رأيت أن الأمر صار مخيفاً، فبدأت أبحث عن حل قبل أن أقع في المصيدة.
في الأشهر الأخيرة للعسكرية كنت أجلس مع بعض وجهاء البلد، وكبار شخصياتها، وأخبروني أنهم يبنون مسجداً كبيراً، وسيقيمون فيه مدرسة تحفيظ للقرآن الكريم، ومكتبة عامة، وقد اختاروني لأقوم بهذا العمل، ووافقتهم، وقلت في نفسي أنني أستطيع أيضاً أن أفتتح مكتبة لبيع الكتب، وذهبت إلى دور النشر من أصحابي، فشجعوني، وقالوا: لك أن تملأ مكتبتك بالكتب دون أن تدفع أي مبلغ، وذهبت إلى دور نشر ليست إسلامية بل لها اتجاهات علمانية شيوعية، وعرضت عليهم مشروعي، فأخبروني أيضاً أنه في حال بدأت بالعمل سيمدونني بالكتب دون أي مبلغ مالي، وإنما الدفع سيكون حسب التصريف.
وهكذا كانت الأماني والآمال، ولكن، عندما تسرّحت من الجيش كان أصحابي يتساقطون، فأحسست بالخطر، فاتصلت على قريب لي في السعودية، لإرسال تأشيرة لي، فأخبرني أن التأشيرات إلى سورية ممنوعة، فاذهب إلى الأردن، وهناك تصلك التأشيرة، وتسافر.
وفعلاً ذهبت إلى الأردن، فكانت الكارثة هناك.
حيث اتهمني أحد السوريين الدروز الذين كانوا معنا في الفندق الذي نزلت فيه، وأبلغ ضابط الأمن أنني من رجال المخابرات السورية، وأثبت لهم ذلك بأن جواز سفري عمره شهر واحد، فقد حصلت عليه في هذه الأحوال العصيبة على الإخوان المسلمين، وصورتي في الجواز فيها لحية، فلا يمكن أن أكون إلا من المخابرات، واستدعيت للتحقيق ثلاث مرات في يوم وليلة، وكل مرة يحقق معي واحد من ضباط الأمن الأردنيين، وكلهم يطلب مني طلباً واحداً، وهو إما أن أثبت أني من الإخوان المسلمين، أو أعترف أنني من رجال المخابرات السورية، وعند اعترافي بأنني من الإخوان لا يكلفني شيئاً إلا أن يعترف الإخوان أنني منهم، فأترك وشأني؛ لأنه ليس للإخوان عداوة مع الدولة عندهم، وعندما رفضت الأمرين حجزوني في النظارة أسبوعاً ثم طردوني إلى سورية وأوصلوني إلى الحدود موجوداً، وأطلقوني باتجاه الحدود السورية، وتأكدوا من دخولي لها، وفعلاً دخلت الحدود مشياً، وقدمت أوراقي ودخلت، وذهبت إلى مدينتي.
كان الزمن في رمضان عام 1400 هـ، ووصلت إلى مواقف حافلات التل، وركبت الحافلة، ولم أعرف فيها أحداً، وجلست في مقعد، ولم يجلس بجانبي أحد، وسارت بنا الحافلة، حتى وصلت إلى منطقة القابون، وإذ يصعد زوج أختي، فيجلس بجانبي مرعوباً وهو يصيح همساً: ما الذي جاء بك، ألا تعلم أنه لم يبق أحد من أصحابك إلا اعتقلوه؟ فقلت: طردت من الأردن، فاضطررت للعودة، فقال لي: إذن لا تظهر في أي مكان، أو أي شارع، ولا تلتق بأحد، وليعرف الجميع أنك ما زلت في الأردن، حتى يجعل الله لك فرجاً.
وهنا بدأ التفكير، إذن المشكلة ليست طليعة مقاتلة، وليست إخوان مسلمين، إنما هي قتل وإبادة لكل من يفكر، أو يتعقل ما حوله، فكيف يأخذون شباباً صغاراً يعتبرون في العرف الدولي أطفالاً، كيف يعتقلونهم، أو يقتلونهم، إنما هي إبادة لا أول لها ولا آخر.
وفعلاً لم أذهب إلى بيتنا، وإنما ذهبت لبيت أهل زوجتي، فقد كان بينه وبين موقف الحافلة أمتار قليلة، وقد نزلت من الحافلة بعد أذان المغرب بدقائق معدودة، فلم يرني أحد في الطريق، وبقيت في ذلك البيت حتى خرجت إلى السعودية ولا يعرف عني أحد شيئاً إلا أهلي.
وقد عرفت أنهم فعلاً أخذوا جميع من يفكر في أمر البلد، أو يتعلم شيئاً من دين، واعتقلوا حتى بعض المشايخ المتصوفة في حلب وغيرها، وهرب السلفيون من البلد، وهرب كثير من المشايخ الذين كنت أدعوهم بالفقهاء، لأنهم ليسوا من الصوفية ولا من السلفية، بل هم علماء يفقهون الناس، كالشيخ حسن حبنكة وحسين خطاب.
وفي ظل هذه الأجواء الرهيبة التي عشتها، وأرى شباب السنة تتقاذفهم الأسنة والمعتقلات، وما كنا نكابده من سيطرة النصيريين على كل المفاصل، وملاحقة غيرهم في كل الأماكن، حتى أن آخر عيد؟! للحرب التي افتعلوها مع إسرائيل وادعوا زوراً بالنصر فيها، مع ما خسرت سورية فيها من مدن وقرى أمامية، في هذا العيد؟! وقفوا دقيقة صمت على أرواح الشهداء؟!!! قال أحد الضباط الدراويش من السنة وهو برتبة مقدم: لو قرؤوا الفاتحة على أرواح الشهداء كان أفضل، فانتدب لتصحيح الخطأ ضابط نصيري برتبة نقيب وأطلق عليه رصاصة واحدة أردته قتيلاً.
والخلاصة:
فإن أحوالنا بلغت من القهر والإرهاب مبلغاً لا يطاق بعد أحداث مدرسة المدفعية عام 1979م، فكانت أياماً رهيبة لا ندري متى يكون دورنا في الاعتقال، ففي كل يوم نسمع عن معتقلين بين الضباط وصف والضباط والجنود غير النصيريين، وكانت عبارة عن موجات، فالاعتقالات بالجملة، والذي خرج لم يعد، ولن يعود، فكنا كمرتقب دخوله النار الموقدة في كل اتجاه، ولا مفر له من ذلك، ولم نسمع في تلك الأيام عن اعتقال ضابط نصيري أو نصراني أو درزي، إنما الاعتقالات كانت تشمل السنة فقط، ودون مقدمات أو أسباب.
في ظل هذه الحياة الرهيبة أحسست بمعاني هذه المسرحية، وبدأت أفكارها تتضخم في عقلي وتفكيري، فبدأت الكتابة فيها في أيامي الأخيرة من خدمة العلَم (؟)، ولكن لم أتمها لسفري خارج البلد.
وسافرت ولم أحمل كل ما لدي من كتابات إلا بعضاً منها، ومنها هذه المسرحية، حيث بقيت مسوّدة دون مراجعة، فهي على كتابتها الأولى، وبقيت إلى الآن.
وبعد إقامتي في البلد الذي سافرت إليه، تعرفت على بعض أصدقاء لي جمعت بيننا الغربة، وبعد مدة علمت أنهم يقيمون أمسية شعرية كل أسبوع مرة، ودعاني صاحب المنزل ♫ إلى حضور الأمسية لِما علم من اهتماماتي الأدبية، ولبيت الدعوة، وصرت من روّاد هذه الأمسية الدائمين.
وبما أنني لا بضاعة لي في الشعر، كنت أحضر مدعياً أنني لي شدوٌ بالنقد الأدبي قليل، فقبلوا حضوري، وتحملوا آرائي جزاهم الله خيراً، ولكن...
بعد مدة من الزمان، انتفض أحدهم وقال: وأنت، أمالك شعر أبداً، وهل من الممكن أن مثلك يهتم بالأدب والشعر ونقده، وما كتب شيئاً منه؟ فقلت: حتى لا أكون كاذباً لي محاولات، ولكنها لا تعجبني، ولذلك أحتفظ بها لنفسي، وعلى كل حال محاولاتي بقيت في بلدي، ولم أحملها معي.
فقال أحدهم: هل من المعقول أنك لا تملك شيئاً مما كتبت؟
فتذكرت هذا الجزء من المسرحية، فذكرته أمامهم، وبعد أخذ وردّ أصروا – جزاهم الله خيراً – على أن أسمعهم ما كتبت.
وفعلاً عندما عدت في الأسبوع الذي بعده إلى حضور الأمسية، وقد تأبطت دفتري القديم، الذي مازال بمنظره المهترئ، وما عليه من أمور كثيرة، ومنها هذه المسرحية، وبناء على طلبهم بدأت بقراءة ما كتبت.
أثناء قراءتي شعرت أن الوجوم سادهم جميعاً، بل تسربلهم إلى حد المفاجأة القاهرة الناشزة، وبدأ كثيرون يُشعرونني بالامتعاض والنظرة الشذراء البغيضة عند الإنسان.
ولكن عندما انتهيت، وكأن عش زنابير (دبابير) انطلق نحوي يلسعني ويعنّفني، ما هذه النظرة التي تخرج عن حد الخيال إلى منطقة الأوهام الخرقاء الغريبة، ماذا تظن الشعب الذي أنت منه، هل من المعقول أن يناله ما تتفوه به في هذه المسرحية، أنت خرجت من حدود التصور الإنساني، إلى حدود الخرافة والأساطير، فهذا أمر لا تقبله العقول ولا الأفكار، فقلت لهم بصوت هادئ: وأنا ما زلت عند هذه الأفكار والأحوال، وما زلت متأكداً أنها ستحدث، وينالنا ما توقعته أو أكثر، ولا أفرض عليكم رؤيتي، ولكنكم لن تستطيعوا خلع هذه الصورة التي رسمتها في هذه المسرحية، وإن غداً لناظره قريب، ولكن يرى الناس كلهم الآن ما يحصل في بلدي، وأن الصورة التي توقعتها إن لم تكن دقيقة، فهي أقرب للحقيقة من كل ما تصوره غيري – هكذا أرى -.
$ $ $
كلمة لا بد منها
تعريف ببعض المصطلحات والأسماء الواردة في المسرحية
ابن الحنفية: محمد بن علي بن أبي طالب من غير أولاد فاطمة ل، وكان إماماً، فارساً، من كبار التابعين.
ابن السوداء : هو عبد الله بن سبأ اليهودي، أمه سوداء من اليمن.
ابن الصباح: الحسن بن الصباح من زعماء الباطنية، وهو الذي شكل فرقاً قامت باغتيال كبار أهل السنة كالوزير العباسي نظام الملك.
ابن القداح: ميمون بن القداح من كبار الباطنيين، يقال إنه من نسل يهود، وهو الذي أسس لقيام دولة العبيديين (الذين أطلق عليهم في بعض كتب التاريخ خطأ بالفاطميين).
ابن سبأ: عبد الله بن سبأ اليهودي، تظاهر بالإسلام، وأول من نادى بوصاية علي بن أبي طالب، ثم ألوهيته، وألّب على عثمان بن عفان t، وألّف تلامذة من جماهير الغوغاء وشذاذ الآفاق الذين حاصروا عثمانَ t حتى قتلوه شهيداً.
ابن سينا: من أعظم الفلاسفة والأطباء الذين ظهروا في تاريخ الإسلام، ويُتهم بأنه من الملاحدة.
أبو لؤلؤة: هو فيروز المجوسي؛ قاتل عمر بن الخطاب t.
أبو هرٍّ: الصحابي الجليل أبو هريرةt .
أثواب الروم: يقصد بالروم هنا الأوربيون في العصر الحديث.
إخوان الصفا: من الفلاسفة الذين يقدسهم الدروز والإسماعيليون، ولهم (رسائل إخوان الصفا) رسائل في الفلسفة، ذكروا فيها آراءهم وعقائدهم، ويُنسبون إلى الإلحاد.
أرسطو: أعظم فلاسفة اليونان، ويقال له: المعلم الأول.
الأفشين: من قواد الدولة العباسية الكبار، وتبين بعد ذلك أنه مجوسي، وانشق عن الخلافة العباسية، وحاربه العباسيون حتى قضوا على دولته.
أفلاطون: من أعظم فلاسفة الإغريق (اليونان).
ألموت: قلعة حصينة قرب مدينة قزوين بإيران، استولى عليها الحسن بن الصباح الملقب بشيخ الجبل، من أمنع حصون الإسماعيلية، ومنها انطلق باغتيالاته لأهل السنة، ومن أعظم من اغتاله ابن الصباح: الوزير نظام الملك السلجوقي.
التتار (التتر): جِيلٌ بأَقاصِي بلادِ المَشْرِقِ، فِي جبالِ طغماجَ من حُدودِ الصِّين، يُتاخِمون التُّرْكَ، ويُجاوِرُونهم، وَبينهمْ وَبَين بلادِ الإِسلامِ، الَّتِي هِيَ مَا وَرَاءِ النَّهْرِ مَا يَزِيدُ على مَسِيرةِ سِتَّةِ أَشهرٍ، وهنا تعني الدول الباطنية التي تقوم بأسماء متعددة بعيدة عن المصطلح الأصلي، قد تقوم بأسماء سياسية، أو قومية، أو دينية طائفية، وهدفها القضاء على الإسلام كدين، وعقيدة، وأمة، وليس كدولة فقط.
تيمور: هو تيمورلنك القائد المغولي من أحفاد هولاكو، وممن ادّعى أنه من المسلمين، وقتل الكثيرين من المسلمين، وأزال عدداً من دولهم، وأفسد كل البلاد التي دخلها.
الجنابي: أبو سعيد الجنابي وابنه سعيد اللذين أقاما دولة القرامطة في شرق الجزيرة العربية، وغزوا مكة المكرمة، وسرقوا الحجر الأسود إلى منطقة الإحساء، وبقي فيها اثنين وعشرين سنة، حتى أعاده الموفق بالله العباسي في القرن الثالث الهجري.
جنكيز خان (الجنكيز): هو قائد المغول الأول، وراسم أحوال دولتهم، وواضع لهم القواعد والعقائد في كتابه المسمى بـ(الياسق(.
الحسن بن الصباح: من كبار الباطنيين، وصديق عمر الخيام، ونظام الملك، وأول من أسس فرق الاغتيالات، وأول من اغتالت فرقه وقتلت صديقه الوزير العباسي العظيم نظام الملك.
حمدان القرمطي: هو زعيم القرامطة الذين نسبت إليهم الدولة التي قامت شرق الجزيرة، وسرقت الحجر الأسود.
دولة الخان: الدُّول التي يقيمها الباطنيون عبر التاريخ وإلى الآن.
سمعان: رمز لأسماء اليهود.
صغير الآلهة إسماعيل: هو الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق رحمهم الله جميعاً، وهو الذي نُسبت إليه طائفة الإسماعيلية.
صلاح الدين: (الأيوبي) الذي لاحق الباطنيين والحشاشين، وفاتح بيت المقدس.
طعنوا علياً: يعتقد بعض فرق الشيعة أن الذي قتل علياً بن أبي طالب له فضلٌ في نقل عليٍّ من الصفة البشرية إلى الصفة اللاهوتية (الإلهية)؛ لأنه كان الإله متجسداً في صورة إنسانية، فهم يقدسونه.
طواويس: يرى عبدة الشيطان أن إبليس كان طاووس الملائكة، ولذلك يقدسون الطاووس، ويرمزون به إلى إبليس.
الطوسي: نصير الدين الطوسي؛ من كبار كُتاب وفلاسفة الشيعة (الرافضة)، كان مستشاراً لهولاكو، وأشار عليه بقتل الخليفة العباسي وأهله.
عبد الرحمن: هو عبد الرحمن بن ملجم المرادي، قاتل علي بن أبي طالب.
عمر الخيام: من العلماء، ومشهور بعلم الفلك والرياضيات والفلسفة، كان صديقاً للوزير نظام الملك، وكنت أظن أنه اتهم بالتشيع.
الفارابي: من فلاسفة المسلمين، ويقال له: المعلم الثاني، كما أن أرسطو كان المعلم الأول، ويتهمه بعض المسلمين بالإلحاد.
فيروز: (أبو لؤلؤة) المجوسي: قاتل عمر بن الخطاب t.
قطز: الملك المظفر قطز، الذي قضى على الامتداد المغولي في العالم الإسلامي في معركة عين جالوت في القرن السابع الهجري.
قُمّ: (وبعضهم يلفظها: خُمّ): مدينة فارسية، يقال إنها مدينة مقدسة عند الرافضة.
المازيار: أحد القواد العباسيين الفُرس، الذين ظهر أنهم من المجوس، وخرجوا على الخلافة، مثله في ذلك مثل بابك الخرمي، والأفشين، وقضى عليهم أخيراً المعتصم بالله الخليفة العباسي.
ماني: أحد آلهة المجوس، وكان الزنادقة يُمتحنون بلعنه وشتمه في العصر العباسي.
محيي الدين بن العلقمي: من كبار الرافضة وعلمائهم، وكان وزيراً للخليفة العباسي المستعصم بالله، وكان الخليفة يثق به لما تميز به من سعة العلم، وهو الذي ساعد هولاكو على دخول بغداد، وأشار عليه بقتل صديقه الخليفة العباسي.
المختار: (ابن عبيد الثقفي)، خرج على الدولة الأموية ثأراً للحسين بن علي بن أبي طالب ب، ثم نادى بإمامة المعصوم محمد بن الحنفية، وادعى أنه إمام غائب في جبال رضوى في الطائف وسيرجع، ثم تألّه (نادى بألوهية نفسه)، وقتل قوماً كثيراً من الشيعة الذين أعانوه في خروجه، حتى قضى عليه الأمويون.
مزدك: أحد آلهة المجوس الذين كانوا يؤمنون بشيوعية الأموال والنساء.
مصاحف عثمان: عثمان هنا هو الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان t الذي نسخ المصحف، ووزعه على الأمصار ليجتمع عليه المسلمون، ولا يختلفوا على كتاب الله.
المغول: قوم فتحوا الأرض في القرن السادس والسابع الهجريين، وعاثوا فيها دماراً وخراباً، وإفناء للحرث والنسل.
منازل مروٍ: مرو مدينة في بلاد فارس.
مولاك الحسين: الحسين هنا هو الحسين بن علي بن أبي طالب ب.
نصير الدين: هو نصير الدين الطوسي، تقدم التعريف به.
هولاكو: حفيد جنكيز خان، وهو الذي أزال دولة الخلافة العباسية من بغداد، وأفسد البلاد، وقتل العباد.
$ $ $
عودة التتار
مشهد
يدخل المسرح كوكبة من جنود أربعة ينشدون:
نحن نسل التتر |
جئنا بعد غياب |
|
عدنا نحمل في الـ |
ـجعبة كل خراب |
|
نحن الناس.. أنتم حجرُ |
أنتم تحت الأرجل منّا |
|
نحن دان الباطل قبل الـ |
ـحقّ لنا من عزمتنا |
|
نحن نسل التتر |
جئنا بعد غياب |
|
عدنا نحمل في الـ |
ـجعبة كل خراب |
القائد نُصير : قف..
يقف الجنود.
نُصير : كل في موضعه...
(يأخذ الجنود كلٌّ موضعَه حسب الأسماء).
حمدان: أقصى اليمين.
أدونيس: أقصى الشمال.
سليمان: راقب أبواب اليمين.
خضور: راقب كل شبابيك المسرح.
يتابع خضر: والباقي كلٌ في زاوية..
وليأخذ كلٌ دوره..
في يده بندقته...
نحو الأهداف يصوّب..
(يشيرنُصير بيده نحو الجمهور):
هذا الجمهور عدوٌّ..
فأهل السلطة لا حقَّ لهمُ في صحبة..
فصداقة هذا الجمهور غباء..
وصداقة هذا الجمهور مذلّة..
نحو الأهداف تشير بنادقكم..
لا تَدَعوا أحداً في القاعة:
يحمل اسم محمدْ
أو أحمد، أو نعمانَ
أو سعد، وصهيب.. عمارْ
كل الأسماء لنا أعداء
لا تدعوا أحداً ينجو
فثياب الكلّ ملطخة بدماء مناطقنا
* * *
إن طعنوا علياً في جسده
فالرب تعالى ذاك اليوم من رمضان
لكن! قَتَلوا مئاتٍ من أه gمناطقنا
* * *
كل الجمهور لنا صياد
صادونا –نحن أحفادَ هولاكو وتيمور -
فالكل لنا أعداء
أشخاص أو أسماء
لا تدعوا أحداً ينجو
(يصوّب الجنودُ أسلحتهم نحو الجمهور.. ولكن القائد نُصير يصيح):
نُصير : انتظروا...
لا.. لا تضعوا السيف بغير مواضعه
لا بدّ لنا من قلبٍ موتورٍ
لا يوتَر قلبُ العلوي بغير صلاةٍ حربية
نتوجه نحو الرب القائم بين ذبابة سيفين
يوجّه نصل السيفين إلى قلب الأمّ الحانية على طفل سنيٍّ
أو نحو صدور مشايخَ ركّع
يمدّون أياديهم نحو سماءٍ وهمية
ينادون بنصر بنادق أشبالٍ ضد العلويين
* * *
لا بد لنا من قلبٍ موتور
نحو الأهداف تشير بنادقكم
أما الأسماع إلى صوتي فتنتبه
وتردد كلّ تراتيل صلاتي:
(يردد الجميع ما يقول بصوت عال):
إلهَ الحقد نناديك
إلهَ البغض نناجيك
إلهَ البطش نحييك
إلهَ الموت.. إلهَ التتر
إلهَ الذل ..إله البشر
إلهَ الغضب.. إلهَ الشرر
إلهَ النار .. إلهَ القَذَر
(وحده يناجي):
يا كلَّ الآلهة الموتورة بين ثنايا الأرض وتحت القمر
يا كل الآلهة الفاجرة القائمة...
بين ثنايا العهر الفاتك بالفِكَرِ
نناديكِ كأنثى، فكل الآلهة الأنثى تحمل بين ترائبها فوح الحرب العطر
نقدِّس كل إناث الآلهة لتعطي سواعدنا قوةَ فتكٍ بالبشر
يا جنكيز.. يا تيمور .. ويا هولاكو
يا آلهة التتر بعد ابن الصبَّاح
يا أولاد القدَّاح
أنتم يا أولاد سعيد وأبيه ابن الجنّابي
كونوا لنا عوناً في هذا المكر...
(يسمع من خلف المسرح صوت جهوري يقول):
مَن هذا الواقف فوق قبور الآلهة الراقدة في البرزخ؟
ويناجي، وينادي آلهةً تركت فوق تلال الأرض أقذر ذكرى
مَن هذا ينادي، يجأر في طلب التتر!!
يا هذا! ما موضعك من قلعة ألموت؟
أو من ساحل أرض الشام
ما وقتك من زمن القرمط حمدان
أين طواويس الفيروز...
هل ضاعت في جامع ذاك التتري
في دولتنا([1])؟؟
أحد الجنود:
ها قد جاء جواب صلاتك يا روثُ
جندي آخر:
أكمل حبل مناجاتك.
جندي ثالث:
هذي القوة تسري في جسدي من زمن التيمور
جندي رابع:
هولاكو يتمطى بين ثنايا أضلاعي
القائد نُصير )يشير إلى الجنود: (
صه..
)ثم يتوجه ببصره نحو السماء يناجي):
يا هذا الصوت المتغلغل في أعماق الأعماق.
من أين تنادي، فأنا أناجيك.
صوت من الخارج:
من أنت! فأنا أخشى حتى غبار صلاح الدين
وكذا أخشى صوت مماليك الأيوبيين
فمظفرهم قطزٌ ما زال يقعقع في جيش المصريين
يخرّق كل الآذان التترية
ويقع مغول التاريخ كعصف مأكول
(ينتبه لنفسه، فيصرخ بحماقة):
من أنت..! تتري أنت ! أم أنت من الأكراد أو العدنانيين؟
أم أنت من الأتراك وبقايا الإسلام..
من أنت؟؟ أخبرني!
القائد: نُصير :
أنا من أولاد الصباح
بل نحن.. من أولاد القداح
جئنا نصلي للآلهة الشريرة في هذا الكون
فكما صليتم في عصر الجنّاب..
وأقمتم حكم الباطل تحت لواء قرامطةٍ
جئنا نحن نطلب عوناً أو مدداً
(من الخارج):
أهلاً بحشاشة أفلاذ التتر
سنعودُ إذن.. فانتظروا
مشهد
(يدخل المسرح كوكبة من قدامى التتر طوال الأجسام.. ينشدون):
نحن التتر.. نحن التتر |
بالتدمير لو نُشتهر |
|
بالسحق وبالإهلاك منىً |
نحياها وننجبر |
|
من أنتم في هذا الكون |
أنصيريون فهم تتر؟ |
الجنود:
نحن من نسل التتر |
جئنا من بعد غياب |
|
عدنا نحمل في الـ |
ـجعبة كل خراب |
(يضحك تتري قديم ويقول):
فئرانٌ جاءت بعد غياب |
تلبس من أثواب الروم |
تتشقّق من ضيق عنها الأثواب!
قاماتُ عساكرها
أصغر من كل قِراب
هذا - والعلويِّ القابعِ بين ثنايا العهر - سخرية هذي الأرباب
أين تطاول قامات ابن الصبّاح
وعرض مناكب جنكيز والتيمور
بل أين النصل القاتل
ينذر من شاربك يا ابن الجنّاب
أين عيون الحقد الفائرة أو الجاحظة في سكّين إله القتل
تلك السكّين انطلقت من بين أصابع ربّ التتر
فتعهدت اللُبَّ لقلب نظّام الملك
أين أبو لؤلؤةٍ يقضي بالحق
فيرى عدلاً قتل ابن الخطاب
أين أصالة عبد الرحمن
وما عندك عبد الرحمن؟
اسمٌ أُطلق سخريةً لابن الحقد أو العهر
هل هذا الملجم إلا ربٌ رفع الحق أمام الناس
رفع الجسد الفاني لابن أبي طالب
وأضاء إلى الناس دروب الحق بأن علياً ذاتُ الله الغالب
فعسى من أنت تكون؟
يا فأريَ في هذا العصر؟!
القائد نُصير (نحو الجنود):
هذا الجمهور الماثل بين أياديكم
يدعو، ويصلّي، ويناجي كي تعفوا عنه
فأبيدوه
لا يُقبل عذرٌ من مؤمنْ
لا يقبل عذر من رجل سماه أقاربه أحمد
لا يقبل عذر من زوج تدعى (رملة)، أو (خنساء)
أو حتى (عائشةَ)
لا يقبل عذر من بنت تُدعى (شيماء)
أو (أسماء)
أو حتى (أم حكيم)
لا يقبل عذر ممن صلّى صلاةً نحو القبلة
لا يقبل عذر من رجل صام أبوه في رمضان
لا يقبل عذر من ولد كان له جدٌّ يحمل عكازاً، وله لحية
لا يقبل عذر من بنتٍ إحدى جدّات أقاربها تدعى (خولة)
لا يقبل عذر من طفل يَعرف اسمَ (أبي هرٍّ)
لا يقبل عذر من أولادِ وبنات (نساء محمد)
لا يقبل عذر من أيٍّ كان يخالط أولاد (أبي بكر)، أو (عمرا)
* * *
فأبيدوه
وأبيدوا من نزلت من عينيه عليه عبرة
هذا فرمان السلطة عند الحاكم قائدنا الأول.
التتري:
مهلاً، يا فأري.. من أمرك؟
ما هذا الهول تمسح فيه صورة ضعفك
هذا كلامك؟ أم من فرمانات إلهك!
أتريد بأن تخبرني بأنك من تترِ
أم تبغي....
القائد: نُصير :
بل أرجو أن تسمعني أنت..
التتري:
خذ حذرك مني.. لستُ كجنكيزٍ أو هولاكو
نُصير (يضحك):
إن التتر وكلَّ الأفّاقين
من قرمط، أو أولاد الرب عليٍّ
أو حتى من نسل صغير الآلهة (إسماعيل)
قد بُعثوا من رقدتهم
عرفوا أن الحق هو الحقد
عرفوا أن ببغداد وأنهرها ما زال بقية (آل العباس)
عرفوا أن دمشق تموج بأولاد (معاوية وصلاح الدين)
عرفوا أن بـ(مكة)، أو (يثرب) ما زال يُنادَى فيها باسم الله تعالى
عرفوا أن شعوباً ما زالت تجثو نحو (الكعبة) ضارعة
ونسوا حق إله التتر
ها نحن وقد جئنا
لنعيد إلى الكون بعض أمانينا
اللون الأحمر مات بعهد (صلاح الدين)
فبعهد الملك المظفر (قطزٍ) داسوا كرامتنا
وأتى بنو الإسلام إلى الناس بذلّتنا
فبماذا يكون الردُّ؟
أنجادلهم!
وبماذا نجادلهم؟!
الفلسفة؟ ماتت
إخوانٌ لصفا دثروا، وماتوا
و(ابن سينا) مات واندثرا
و(الفارابي) .. ضاع بين (أرسطو)، و(أفلاطون)
لم يبق علينا إلا الحقد أو الغدر
بل كان الردّ:
الحقد.. ويسبقه الغدر
وصفات أخرى بالنفس أصيلة
أنتم ربَّيتم فيها كلَّ عزائمنا
وحقنتم فيها دمنا
التتري:
مهلاً.. لم أفهم عنكم بعدُ رغائبكم
هل قامت فيكم دولة!
هل بُحتم أسرار شريعتنا؟
هل ما زلتم تحتفلون بأعياد الملّة؟
بين سراديب العتمة.. أم تحت ضياء الشمس
فضياء الشمس عدوّ شريعتنا
وشعاع الشمس يفسد كل الأغذية
فالحقد ينام.. وينمو بين ثنايا ظلمة قلبٍ أسود
والغدر يعيش ويثمر بين تلافيف دماغٍ أفحم
القائد:
ما زلتَ تظن بأبنائك شراً يا أبت
هل تقدر عينان تعوّدتا سُدف الظلمة منذ قرون
أن تحتمل شعاع النور بسبع لفافات من ظلمة
إن عيون التتر
قد تحمل ضوء الشمس
لكن..
لا بد للون الشمس من تجديد
الضوء الأبيض.. والنور الساطع من شيم الإسلام
والضوء الأسود.. والنور الأحمر مصبوغ بدماء أو أشلاء
عجنته سنون من قهر أو إذلال للبشر
طحنته فعال من تحقير.. أو إسفافٍ بحقوق الخلق
هذا الضوء الأسود في قلب التتري القابع فوق مئات الأجساد
هذا الحقد الأزرق ينهش من جثث الأولاد
يسحق تلك العظمات البلّورية في أذرع أطفالٍ وبنات
يمتص دماء حمراً تجري بين خلايا الولدان المولودة من لحظات
ويكوّر قبضته نحو حوامل يصرخن حياة لجنين يسقط خوفاً من (جنكيز)
هذا اللون القاتم في الأعماق
يلوّن شمس الأرض
فيضيء الدربَ أمام عيون التتر
التتري:
ما زالت نفسي تشعر سوء إدارتكم
أنتم أطفالٌ أمساخٌ لا تدري ما التتر
القائد نُصير :
سترى يا أبت بأن العلوي العصري بفكرته
أشد صواباً من حضرتكم
التتري:
الزم حداً وضعته الآلهة الشريرة
لا تضرب سيفاً شُحذ بعهد (صلاح الدين) بأرض الصين
من أنت سوى فأر مسكين؟!
نُصير :
يا أبت، ما أنا إلا بعض صنائعك
وورثت كثيراً من ألوان خلائقك
التتري:
أتريد بأن تقنعني أنك من تتر القرن العشرين
وأنك تفعل ما لم يفعله (الطوسي)، أو (الأفشين)!
نُصير :
هذا هو الحقّ.. إله التتر
فانظر ماذا نفعل في هذي الأيام الطاهرة بطهر بغايا الأرض
التتري (ساخراً):
أتعرف ماذا كنا نفعل بالأعداء!
القائد:
عفواً أبتِ إذْ قلت لحضرتكم:
فغباء في أكثر ما ضيعتم من أوقات
كانت ألزم في إحراق مصاحف (عثمان)
لكن ضاعت في تمزيق شعوب تسكن إيران
ماذا جنيتم من سحق منازل مروٍ
والتنكيل بأهل خراسان
كيف تدوسون (القُمّ([2]))
وتهدم أرماح التتر معبدنا في أرض الفرس
حتى في كاظمة لم تدعوا نائحة تبكي وتنوح
أما فتقت (كرب وبلاء) لكمُ كلّ جروح
التتري:
يا طفلي، يا مسكين
أتظن بنا شراً، فتتهم عقائدنا، ومآثرنا
كيف لا نبكي مولانا (حسين)
أسمعت بذاك الثقفي المشهور
باسم المختار؟
ما ذا فعل بعد فناء بقايا أعداء البيت النبوي
من قتل ذاك الرجلُ العلويُّ؟
جاء بآل البيت صفاً صفاً
وبنى من كل الأعضاء
من كل نوع من أعضاء هذا البيت النبوي رفًا رفّاً
هذي نهايات هذا الدين
فآل البيتِ ستارُ
لـ(مزدك)، أو (ماني)، أو حتى (المزيار)
أفهمت يا طفلي المسكين؟؟
القائد نُصير :
ما زال خيط غباء يلفلف هذا الرأس
وغباء أنتج هذا المختار
لو سكت دون قرار
وأبقى (ابن الحنفية)، أو أي سفيه من آل البيت شعار
لغلب جميع الكفار:
أمويين، زبيريين، سلاجقة، عثمانيين
وعلا فوق الناس يقتل كل الأصناف
من آل البيت، أو أهل السنة
لكن دين الخبء لمّا أفشاه الجند
وأظهره المختار
ضاع، وضاع المختار
التتري (مهتماً):
يا هذا الفأر القذر
بدأ الجسد الضاوي في جنبيك
يكبر في نظري
فمن بين ثنايا هذا الرأس المتقوقع في صغر
ركام الحكمة يغلي في القِدر
لكن أين نتائج أعمالك
نحن التتر لا نعرف غيباً
القائد نُصير :
من أين البدء:
من تعذيبٍ؟؟
من تقتيلٍ أو تشريد؟؟
التتري:
رويدك يا طفلي
أتريد بأن تعرف شيئاً من أعمال التتر
انظر خبري:
هولاكو يصل قلعة (ألموت(
بين ثنايا القلعة يكمن (طوسي) أسموه (نصير الدين)
فـ(نصير الدين طُلب منه تغيير الاسم
اسمٌ رجعي لا يقبله التتر
هولاكو يصرخ فوق العرش وينادي (نصير الدين):
$ $ $
مشهد
(صوت جهوري جداً من خارج القاعة):
ما هذا الدين المنتصر؟؟؟
أين غبيٌ يُدعى (نصير الدين)؟
صوت نصير الدين:
دينك يا مولاي
يا مولاي، نبوءة (عمر الخيام)
أيام (الحسن بن الصبّاح)
قالت: إن الدين الحق يحتاج لنصير الدين
هولاكو:
أدينٌ حقٌ بعد التتر؟
الطوسي:
إلهي.. هذا الدين هو (جنكيزٌ)، أو (هولاكو)
هولاكو:
ما كُتبِ الفقه تكتبها؟
تكتبها وتوقعها باسم الآيات، وروح الله؟!
الطوسي:
(نصير الدين) كلام يشمل كل الأديان
كتب الفقه كلام يشمل فقه الناس المنصوص عليهم في الحضرة
حضرة مولانا الخان
والآيات وروح الله تُكمل أوراق الفقه
ليصير الخان إلهاً في كل الأرجاء
فـ(نصير الدين) ضياء للتتر في فتح البلدان
هولاكو:
ما ذا تقدر فعله في الـ(ألموت)
الطوسي: في (الألموت) لا أفعل شيئاً
قد ذلّت تحت الأقدام التترية
لكن أفعل في (بغداد)
هولاكو:
بغداد، ماذا في بغداد؟!
الطوسي:
كل الخير يا مولاي
ذلَّت (بغداد) يا مولاي مذ ذلَّ الحكام لأولاد بويه
ذلَّلناها قبل التتر بمئات الأعوام
فالناس يا مولاي يحبون آل البيت
وبهذا اللغم نفجّر كل الأنحاء
هولاكو:
لكن ما زال خليفتهم يتربع عرش السلطان الأكبر
الطوسي:
خليفتهم في بطشتنا دون الخنصر
هولاكو:
من أين الأمل الواسع يا طوسي؟
الطوسي:
هذي الأمة تحمل بين جناحيها
قوّة قرآن ذلّ له كسرى، وانهار القيصر
لكن حمّلها إله الحقد (ابنُ سبأ) في جرثومة قوّتها
بذرة طيش وغباء
ينميها بعض الجهلاء ممن يُدعَون: العلماء
ما بين الفينة والفينة
ندعوهم لطعام دسم بالسمّ
هولاكو:
ماذا في هذا الجمع بين النور والظلمة
الطوسي:
لا شيء سوى التقريب
بين مذاهب أهل الملة
فالكل يجمّعهم إسلام
هذا ما كان يناديه:
(المختار)، و(سمعان)، (وابن السوداء)
هولاكو:
ماذا أعطى هذا الأمر؟
الطوسي:
بذرة طيش وغباء
آتت كل الأثمار
فخليفة هذي الأمة
استوزر من نسل (ابن السوداء)
فوزير السلطان – الآن – يا مولاي
خادمك المخلص (محيي الدين)
هولاكو:
(ابن العلقم) يا (طوسي)؟
الطوسي:
هذا هو الحق يا مولاي
التتري:
هاتوا محيي الدين.
مشهد
موسيقى عسكرية يدخل أثناءها (محيي الدين بن العلقمي) وزير الخليفة العباسي (المستعصم بالله)
الوزير (ينفض عن جسده الغبار):
من نادى في سدف الليل القاتم في الأعماق؟
هل هو هولاكو إله الدنيا
ويريد هلاك البغداديين؟
أم أن (نصير الدين) يسطر في الفقه كتباً
يبحث عن عونٍ كي يرضى الخان؟
هنا توقف القلم عند نهايات عام 1400 بعد الهجرة النبوية، وقد كان إتمام الفكرة أن الحكم القائم الآن، سيثبت للجنكيز وهولاكو أن ما قام به كان أكثر صواباً، وأشد فتكاً وحرباً ودماراً للأمة، فكل ما قام به التتر من قتل وإفناء للدولة والحضارة، إلا أنهم – على رأي التتريين الجدد- لم يهتموا كثيراً بقتل الدين من جذوره باستعمال رجال وارثين لابن العلقمي والطوسي، ورجال قادة أسماؤهم أسماء أهل الإسلام، ولكنهم أحذية لدهاقين الخان، وموظفين كماسحين لأحذية الفاعلين في السلطة، فعاثوا في الأمة إفناء وخراباً، فلا أرضاً أبقواً، ولا عباداً أمهلوا أو أهملوا، ولا ديناً حقاً بين الناس تركواً، بل جاؤوا برؤوس جهال منافقين نشروا العلم الذي يريدون، والفقه الذي يطلبون، لينشئوا أجيالاً أقرب للشياطين منها للبشر، ولكن: يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
$ $ $
مشهد
يظهر ابن العلقمي بثوب يوحي بأنه من العلماء الكبار:
ابن العلقمي:
من ناداني، وأيقظ رقدتي هل هو ربي هولاكو؟
التتري:
لا يا سيدي، ولكن هذا الفأر المسكين
(ويشير إلى نُصير )
يفخر بما يفعل في هذا الزمان.
ماذا يفعل هذا المسخ الآن؟
نُصير :
أنا يا سيدي ما تركت لك إلا أقبح ذكرى!
ابن العلقمي:
اسكت ياهذا.
ماذا قدمت، وماذا أحضرت؟
ألا تعلم أنا أزلنا دولة كانت تعرف بالجبروت وبنشر الإسلام؟
نُصير :
أنتم
(بنوع من السخرية):
يا أسياد كانت بعثًا لقيادات تملك حقاً تدفعكم، حتى أنهت طريقكمُ بعد سنوات.
ابن العلقمي:
أخبرني يا فأري ماذا قدمتم.
نُصير :
أول بدء مسيرتنا كنا نمشي حذو مسيرتكم.
ثم... أظهرنا بعض طريقتكم في اللين ونشر السلم الأهلي.
ثم... قمنا يتقطيع الأوصال.
أوصال من ظنوا أنا منهم، أو هم منا.
قُوَادٌ، ضباط، أتباع، أحزاب.
ابن العلقمي:
هل هذا عمل يجلب عندكم الفخر أيها الفأر؟
نُصير :
مشكلة المخ المحمول برأس مثلكم يا سيدي لا وزن له أكثر من حبة خردل.
اسمع حتى تعرف آخر ما في جعبتنا.
ابن العلقمي (يستشيط غضباً ولكن يتصبّر):
هات بما ترضى، أو يرضيك يا فأري يا مغرور.
نُصير : قسمنا من كان يظن أنه منا من كثرة ما أغرقناه بآمال عراض.
ابن العلقمي ساخراً:
هه.
نُصير :
مزقنا الدفعة الأولى من ضبّاط، أو عسكر باسم عداء الثورة.
ابن العلقمي ساخراً:
هيه.
قتَّلناهم، وذبحناهم بنور الشمس، وكان الشعب يشهد ويظن بأن الأمر سياسة تنظيف للثورة.
ابن العلقمي:
هيه.
نُصير : بعد نظافة عسكرنا من كل مخازي السُّنة، أو قوة غباء عسكرهم.
قمنا بملاحقة الناس بتقسيم الأحزاب/ وفئات الناس لنفرد كل طوائف شعب كان له رأي واحد أقرب للقوة والتوفيق أو التوافق.
ابن العلقمي وقد بدأت أسارير وجهه تميل نحو الانبساط بعد الانقباض.
نُصير : بدأنا بأحزاب تدعى بالدينية، بوصف التعصب من أهل هذه الأحزاب، وبارَكنا بشيوخ منهم أمثال من رافقكم، أو أمثال حضرتكم سيدي محيي الدين.
ابن العلقمي:
هذا إلى الآن قد يقبل من فأر مثلك يا صاح.
نُصير مبتسماً:
فأصبح للناس دينان، الأول لمن نحاربهم، والثاني لمن نكرمهم.
ابن العقلمي:
كل هذا لا يبدو فيه ذكاء يا ولدي.
نُصير :
إذن اسمع:
بدأت حكاية أمرنا من هذا الباب، والناس لا يدرون ماذا يحدث خلف الباب.
ابن العلقمي:
وبعد؟
نُصير:
وبعد يا مزيل العرش العباسي، وقتل بعض ملايين الناس.
نحن بدأنا بحصار الناس بمأكلهم، وملبسهم، وجميل حيواتهم، حتى بدؤوا بأكل الحشائش في أكثر مناطق هذي البلدان.
ابن العلقمي:
وبعد، لا تكثر من هذرك البغيض الغبي، وترى نفسك من أهل الذكاء.
نُصير :
حنانيك يا سيدي، فالأمر ليس كزمانكم، فزمانكم كانت دولة بني العباس هي القوة، أما نحن ففي زمان تمزقت أمتهم هذه دولاً وقطعاً، وسيطر أعداء الأمة على كل مصادرها ومواردها، ولا يقبلون بإزالتها دفعة.
ابن العلقمي:
هيه.
نُصير :
ثار بعض من أجعناهم، وأفسدنا أطفالهم، وقتلنا بعض رؤوسهم.
عندها بدأت حملتنا التي غابت عن عقولكم – عذراً سيدي – فبدأ الجيش الذي جعلناه طوع مرادنا، وليس كما فعلتم بتسريح العسكر، وقتل كبارهم.
ابن العلقمي:
تابع يا مسكين.
نُصير:
سيدي بدأت حملتنا بالغارات الكبرى على كل أماكن من ثار.
واستطاعوا قهر عسكرنا.
ابن العلقمي:
هذا غباء الفئران يا صاح.
نُصير :
حنانيك يا مغرور.
ابن العلقمي (بدأ التجهم يكسو وجهه):
هيه.
نُصير:
استعنا بأمثالك من كل بقاع الأرض: فارس، والسند والهند وكل شراذم ملتكم يا سيدي([3]).
ابن العلقمي:
وبعد؟
نُصير:
ولم ننجح، ولكن جئنا بمجوسكم التتار الذين تزيوا بزي قرامطة ويسمون بالروس، وبلدهم من أكبر وأقوى بلاد الدنيا.
ابن العلقمي (محتداً غاضباً):
وبعد.
نُصير:
وبعد يا سيدي، أنزلنا الحمم على كل الناس، من حمل سلاحاً، أو نام أو قام، وبدأ الناس يهربون شرقاً وغرباً.
ابن العلقمي (وقد نفد صبره):
وبعد؟؟؟!!!.
نُصير:
عندها يا سيدي، نجحت قيادتنا بالإبادة، فسبقناكم بها، وتجاوزنا ما فعل التتار في التاريخ.
ابن العلقمي (ساخراً):
وبعد.
نُصير:
يا سيدي مع الملايين التي فنيت بسلاحنا وحروبنا، تفرق أهل الإسلام (سنة فقط) في بقاع الأرض خوفًا من الفناء الذي قدمناه لهم.
ابن العلقمي:
وبعد؟!
نُصير:
سمينا ما بقي تحت ما نحكمه: بسوريا المفيدة، بعد أن ساح في بقاع الأرض ملايين الناس.
ابن العلقمي (ساخراً):
هذا ما فعلتم فقط.
نُصير:
هذا بدء ما قمنا به.
ابن العلقمي:
وماذا بعده؟.
نُصير:
سيدي، الآن سترى أن ما قمتم بها أفعال أطفال، لا أفعال أبطال.
ابن العلقمي:
ألا تستحي أيها الفأر؟
نُصير:
اسمع، سيدي.
ذهب أكثر من نصف من يسكن هذا الوطن خارجه، فأصبح من عندنا منهم تحت نصيب النصف، بعد أن كانوا أكثر من خمسة وثمانين بالمئة.
وهذا النصف المتبقي يتميز كثير منهم بالغباء، ولا يدركون ما نفعل بهم ولا بأصحابهم.
ابن العلقمي:
وبعد؟
نُصير:
هنا سيدي بدأن بتجاوزكم.
ابن العلقمي بحدة شديدة:
اخرس أيها الوغد؟
نُصير (مبتسماً):
خفف من غلوائك أيها المغرور، واسمع ما أقول إلى آخره لتعرف ما قيمتك، وقيمة أعمالك.
اسمع:
ذهب ثلثا وطن نحن نحكمه بين مقبور وهارب.
وأما من بقي، فما فعلناه بهم لم يحدث في تاريخ العالم.
ابن العلقمي:
وما ذا فعلتم؟
نُصير:
ملأنا الوطن كله بالسسجون، فلا تبحث عن بلد إلا وأتخمناها بالسجون، ولا معلم من معالم أرضنا إلا تحته سجن.
ابن العلقمي:
أيها الغبي ألا تعلم أن كثرة السجون، وبملئها يضرب إمكانات دولتكم بإطعام من تحتفظون بهم، وهم لا يقدمون شيئًا؟
نُصير:
كم أنت مسكين يا سيدي؟
ابن العلقمي محتداً:
ولماذا اعتبرتني مسكيناً أيها الفأر.
نُصير:
اسمع، هذي السجون ظاهرها امتلأ، وحقيقتها أنها ليست سجوناً، بل طريقة لإبادة أخرى، فمن لم تقنله نيران أسلحتنا جئنا به لأمور عدة:
هناك القتل بالتجويع، والقتل بالتسميم، والقتل بالفرم كما تفرمون طعامكم بأسنانكم، ونحن نفرمهم بالطحن، أو نقتلهم بالتقطيع، أو بالشوي، أو نكبسهم كما كما نكبس الخضار ، أو كما نذيب الجوامد إلى سوائل، أو بالأصح إلى لا شيء، فبعد الكبس لا يبقى شيء، وأما من نرحمه، فنقتله بشرفه، بين استعمالات قوم لوط، أو بزنا محارمه، أو يُزنى بأهله أو بناته، أو قريباته.
ابن العلقمي:
وهل فعلتم كل هذا؟
نُصير:
بل أكثر من هذا.
فهناك سجون للنساء، قد يبدأ بسجن الأطفال من الأولاد والبنات، والبنت تنجب لنا أولادًا مع أنها دخلت طفلة، أو شابة عذرتء، فتلد لنا أولاداً، وهذا كثيراً كنا نفعله، وأقرباؤهم الذين يعيشون بيننا لا يدرون عن هذا الأمر شيئًا.
ابن العلقمي:
كيف لا يدرون, ألا يزورونهم؟
نُصير:
نادراً ما نوافق على بعض الزيارات، ولذلك لا يعلم أحد بما نفعل..
وسجوننا مبنية بطرق حديثة، وزراديب كبيرة متعرجة من يدخلها لا يستطيع الخروج منها، بل يضيع في طرقاتها ودروبها.
وجعنا في السجون ألواناً كثيرة من التعذيب، فلا يدري الناس ما نفعل، وكثير من المسجونين فقدوا حياتهم من شدة التعذيب، ومن تحمل جسده التعذيب، فقد عقله، فأصبح لا يعرف حتى اسمه، لأننا أطلقنا عليه رقمًا، فإن سألته عن اسمه لا يتذكر إلا رقماً نحن وضعناه له.
المشهد الأخير
بعد كل هذه الروايات التي رواها نُصير، شعر ابن العلقمي بالصغار أمام هذه الروايات، وخرج مقهوراً، وأصاب القهر أكثر كل جنود التتر وقادتهم من هذه الحمم التي يسمعون بها لأول مرة، فهم لم يعرفوها، أو سمعوا بها في كل التاريخ.
ولكن.
نادى ابن نُصير أتباعه يفخر أمامهم:
ألا ترون يا جنودي كيف سبَقَنَا هؤلاء التتر الذين جاؤوا ليفاخرونا بما عملوا في أزمنتهم؟
خضور: لقد كنت يا سيدي حكيماً في طريقتك التي حاورتهم بها.
وأما أدونيس فقال:
سيدي لم نكن ندرك ما عندكم من قوة جدال وحوار.
وأما خضر فقال:
سيدي وكيف استطعت تحمل عجرفتهم.
نُصير: من أراد النجاح والنصر، عليه أن يتظاهر بالخور والضعف، ليظن الخصم أنه ضعيف.
فقال خضور: ولذلك عندما تأتيه الضربة القاضية يقع في الفخ كأرنب جبان غبي.
نُصير:
شكراً لكم أيها الجنود.
والآن:
(وإذ أصوات متعالية في الخارج، وصراخ شديد، وتكبير كبير يصيح أصحابه بقوة عجيبة غريبة):
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
ثم صوت قوي يهز الأعماق:
اقبضوا على كل سجان، وعلى كل من أعان سجاناً، وعلى كل من رضي بما فعل السجانون، ولا تنسوا التكبير، فإنه يزلزل قلوب الظالمين.
فترتفع أصوات التكبير، ويبدأ الخوف والهلع يظهر على وجوه نصير وجنوده.
ثم بدأ التكبير يخرج من جهة السجن، فتخرج فتاة لم تجاوز الثلاثين من العمر، وهي تسحب أطفالاً ثلاثة أصغرهم يمشي تجره أمه من صغره، وهي تلعن الساعة التي دخلت فيها إلى هذا المكان، وتلعن كل من تكاثر عليها من السجانين، لأنها دخلت السجن بنت خمس عشرة سنة طفلة بريئة، فاعتدى عليها السجانون، فلا تعرف مَن آباء أطفالها الثلاثة.
يسدل الستار
وقد عاد الحق إلى أهل البلد، بعد أن قضوا على من سرقوا بلدهم أكثر من خمس وخمسين سنة.
([1]) يقصد جامع أصفهان الذي تصور فيه الطواويس كرمز لإبليس.
([3]) فارس والسند والهند والشراذم: إيران وباكستان وأفغانستان وكل من الشراذم ممن يبيعون أنفسهم لطلب الرزق.
وسوم: العدد 1128