مصعب بن عمير

د. عبد الله الطنطاوي

د. عبد الله الطنطاوي

[email protected]

الراوي: نحن الآن في مكتبة الشيخ محمود، ننتظر قدوم الموعد المحدّد لقدوم الحفيدين: أحمد وفاطمة.

مؤثر: نقرات على باب.

الراوي: يبدو أنهما جاءا.

الجد: تفضلوا يا أولادي.

مؤثر: صوت فتح الباب وإغلاقه.

الحفيدان: السلام عليكم ورحمة الله.

الجد والراوي: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

الجد: أهلاً بحفيديّ النَّشيطين اللذين لا يتخلّفان عن الحضور، ولا يتأخّران عن موعد.

فاطمة: هذا مما تعلّمناه منك يا جدي العزيز.

أحمد: تُرى.. عمَّن ستحدّثنا اليوم يا جدّنا الغالي؟

الجد: عن زين الشباب.. عن الداعية العظيم مصعب بن عمير.

الجميع: رضي الله عنه.

الجد: ولد مصعب بن عمير في مكة المكرمة، لأبوين غنيين من أشراف قريش.. كان أبوه من بني عبد الدار، وكانت أمه خُناس كثيرة المال، وكانت تحب مصعباً حباً جماً، فتدلله وتعطّره، وتلبسه أجمل الثياب وأنعم الملابس وأرقّها.. كانت تؤهّله ليكون فتى مكة..

فاطمة: هل كان لمصعب إخوة يا جدي؟

الجد: نعم كان له إخوة، وكانت أم مصعب تحبّهم أيضاً، ولكن.. ليس كحبها لمصعب.. كانت تحبُّ مصعباً أكثر منهم، حتى صار فتى مكة.

أحمد: متى وُلد مصعب يا جدي؟

الجد: كان العرب أميّين يا أحمد، ولذلك ما كانوا يؤرّخون بالسنين.. كانوا يؤرّخون بالحوادث الكبيرة، فكانوا يقولون مثلاً: ولد محمد

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

الجد (متابعاً): عام الفيل.. وولد حمزة قبل عام الفيل لسنتين، وهكذا.. ولهذا نحن لا نعرف تاريخ ميلادهم.

فاطمة: كيف كانت حياة مصعب؟

الجد: لمصعب حياتان.. في الجاهلية كان يعيش عيشة ناعمة، مرفّهة، مترفة.. كان مصعب جميلاً، ويحب الجمال.. كان يلبس أجمل الثياب، ويحتذي أرقَّ الأحذية، وكان يحبّ العطر، ويختار أجود أنواع العطر، ولا يخرج من بيته إلا بعد أن يتعطّر، فإذا مشى في طريقه، سبقته رائحة عطره، فيعرف الناس أنّ مصعباً قادم.

فاطمة: أريد أن أسمع قصة إسلامه يا جدي.

الجد: على العين والرأس يا فاطمة، يا حفيدتي الحبيبة.. فليس هناك أجمل من هذا الحديث.. من حديث إسلام شاب كمصعب بن عمير.

مؤثر: زقزقة عصافير.

الراوي: كان رسول الله.

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

الراوي: حديث أهل مكة المكرمة.. يتحدّثون عنه، وعن الدين الجديد الذي جاء به.. يتحدثون عن النبيّ وعن الإسلام في أنديتهم، وعند الكعبة، وكان مصعب بن عمير يستمع لتلك الأحاديث التي يختلط فيها الإعجاب بالشتائم والتهديد، فيحار ويسأل نفسه:

"لماذا كلُّ هذا العداء لمحمد، وهو الصادق الأمين؟

لماذا يكرهونه ويكرهون دينه وأتباعه؟

لماذا يعذّبون المسلمين؟

لابدّ أنّ هناك سراً يجب أن أعرفه".

الجد: قرر مصعب أن يذهب إلى النبيّ الكريم، وأن يسمع منه مباشرة.

عرف مصعب أنّ النبي يجتمع بأصحابه في دار الأرقم بن أبي الأرقم، يقرأ لهم ما ينزل عليه من الوحي، ويعلّمهم أمور دينهم، بعيداً عن أعين المشركين من زعماء قريش.

مؤثر: نقرات على باب.

الراوي: ذهب مصعب إلى دار الأرقم، وقرع الباب، وعندما فتحوا له الباب، سبقته رائحة عطره إلى خياشيم النبيّ الكريم وأصحابه، فعرفوا أنّ الواقف في الباب، هو مصعب بن عمير، وأنه جاء يستأذن في الدخول، لسماع ما عند النبي عن الإسلام.

الجد: وأذن له النبيُّ الكريم بالدخول.

مؤثر: صوت فتح الباب.. وقع أقدام.

الراوي: ودخل مصعب، وجلس بين يدي رسول الله..

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

الراوي (متابعاً): وقراً النبيُّ على مصعب آيات من القرآن العظيم، فظهر التأثّر على وجه مصعب، والمسلمون يلاحظون ذلك في وجهه وعينيه، وفي حركات يديه، واختلاجات جسده.

الجد: دعا النبيّ الحكيم مصعباً إلى الإسلام، وإلى شهادة: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وكانت استجابة مصعب سريعة ورائعة، فشهد بلسانه في خشوع المؤمنين الصادقين: الراوي: أشهد ألاّ إله إلا الله، وأشهد أنّ محمداً رسول الله.

الجد: فكبّر المسلمون فرحاً بإيمان مصعب فتى قريش، وفرح النبيّ

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

الجد: بإسلامه، لما كان يعرف من كمال عقله، وحسن أخلاقه.

فاطمة: هل رضيت أمه عن إسلامه؟

الجد: بل أخفى مصعب إيمانه وإسلامه، امتثالاً لأمر النبي

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

الجد: كان مصعب يعبد الله تعالى متخفّياً عن عيني أمه وعن أعين المشركين، حتى لا يتعرّض للعذاب.

فاطمة: هل بقي مدة طويلة على هذه الحال؟

الجد: لا.. لم يخف حاله على أمه طويلاً، فقد لاحظت تغيّر حياته، ولكنها لم تعرف سبب ذلك التغيّر، حتى جاءها من كشف لها سرّه، فقد رآه يصلّي كما يصلّي النبيّ الكريم وأصحابه.

فاطمة: ماذا كان موقفها منه يا جدي؟

الجد: كان موقفاً شديداً.. جُنَّ جنونها.. كيف يترك مصعب دين آبائه، ويؤمن بمحمد ودينه الجديد؟ حاول مصعب تهدئتها، ولكنها ازدادت ثورة وغضباً عليه.

الأم: صبأت يا مصعب؟ تركت دين أبائك وأجدادك، وتعبت ذلك الصابئ أيها المأفون..

الراوي: حاول مصعب استرضاءها وقال لها: أنا أحبّك يا أمي، وأريد لك الخير، والخير كل الخير في الإسلام، والشرّ كلُّ الشرِّ في الأصنام، تلك الحجارة الصمّاء الخرساء التي لا ترى ولا تسمع، ولا تضرُّ ولا تنفع، ولا تستطيع أن تدافع عن نفسها، وبإمكانك يا أمي أن تحطّميها بالفأس، وأن تضربيها بالعصا، وأن تلقيها على الأرض، وتدوسيها بقدميك.

الأم: اخرس أيها الصابئ، قبل أن ينزل عليك غضب الآلهة.. اسكت يا مجنون.. أيها الصابئ المغضوب.

الجد: وهكذا صرخت فيه وأسكتته، وانهالت عليه ضرباً.. سبّته وشتمته، وهدّدته بالحبس إذا لم يترك الإسلام، ولكنه أبى أن يطرد النّور من قلبه وعقله، فحبستْه، وهو صابر صامد محتسب.

الأم: لن تخرج من محبسك هذا حتى تترك ذلك الصابئ ابن عبد المطلب، وتعود إلى دين أبائك؟

فاطمة: ما هذه الأم القاسية؟

الجد: ثم تمكّن مصعب من الهرب.. هرب من الحبس الذي حبسته أمه فيه، وأسرع إلى النبيّ الكريم، وهو في حالة بائسة، فحزن النبيّ الكريم، وأشفق عليه من العذاب، وأمره أن يهاجر إلى الحبشة.

الراوي: وهاجر الشاب الصالح المنعّم مصعب.. هاجر إلى الحبشة مع من هاجر من المسلمين، امتثالاً لأمر رسول الله.

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

أحمد: لا حول ولا قوة إلا بالله، ما أقسى الشِّرك والمشركين.

فاطمة: هل بقي كثيراً في الحبشة؟

الجد: لا.. فقد أشاع المشركون أنّ قريشاً قد هادنت النبيّ وأصحابه، فعاد مصعب مع بعض المهاجرين إلى مكة، ليجدوا قريشاً ما تزال مصرّة على كفرها، وعنادها، وإيذائها للرسول الكريم وأصحابه المستضعفين.

الراوي: وأقبل مصعب بن عمير نحو النبيّ الكريم وأصحابه، وعليه ثياب ممزّقة، فلما رآه الصحابة على هذه الحال، نكسوا رؤوسهم له، وحزنوا لحال هذا الفتى الذي لا يجدون ما يغيّرون حاله.

الجد (في حزن): سلَّم مصعب على النبيّ وأصحابه، وردّ النبيّ وأصحابه السلام عليه، وقال عليه الصلاة والسلام في ألم: "الحمد لله الذي يقلب الدّنيا بأهلها.. لقد رأيت مصعباً، وما بمكة فتى من قريش أنعم عند أبويه نعيماً منه، ثم أخرجه من ذلك، الرغبة في الخير، في حب الله ورسوله".

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

الحفيدان: الله أكبر.. الله أكبر..

الراوي: وخاف النبي الكريم على مصعب ومن عاد معه.. خاف عليهم من فتنة المشركين، فأمرهم بالهجرة إلى الحبشة من جديد، فعاد مصعب إلى الحبشة، وعاد معه بعض إخوانه، والحزن يملأ قلوبهم لفراق رسول الله.

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

الجد: ولكنّ مصعباً، يا أولادي، لم يصبر على فراق النبي.

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

الجد: فما لبث أن عاد إلى مكة المكرمة، ليكون إلى جانب النبي الرحيم يتلقّى منه آيات القرآن العظيم، ويتشبّع بمبادئ الإسلام وتعاليمه.

فاطمة: ما أروع هذا الفتى!

أحمد: وماذا عن إخوة مصعب وأخواته يا جدي؟

الجد: كان له أخ شقيق اسمُه زرارة، ويُكنى ويُعرف بأبي عزيز بن عمير. كان مشركاً، وخاض معركة بدر وقاتل مع المشركين، وأسره المسلمون، ثم أسلم وحسن إسلامه.

أحمد: الحمد لله.

الجد: وكان لمصعب أخ من أبيه يدعونه أبا الرُّوم.

فاطمة: عربي ويدعونه أبا الرُّوم؟

الجد: هذا لأنّ أمه كانت روميّة.

أحمد: هل كان مشركاً؟

الجد: بل كان من المسلمين الأوائل، وكان ممن هاجر إلى الحبشة، وقاتل تحت لواء الرسول القائد في غزوة أحد، إلى جانب مصعب، واستشهد في معركة اليرموك التاريخية الفاصلة.

الحفيدان: رضي الله عنه وأرضاه.

فاطمة: وهل لمصعب أخوات يا جدي؟

الجد: له أخت شقيقة اسمها: هند بنت عمير.

فاطمة: هل تزوّج مصعب يا جدي؟

الجد: نعم يا فاطمة، وزوجته حمنة أخت أم المؤمنين زينب رضي الله عنهما.

الحفيدان: رضي الله عنهما.

الجد: وقد أنجبتْ له بنتاً، واسمها زينب.

فاطمة: إذن.. هو عديل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الجد: نعم يا فاطمة، كان عديلاً للرسول القائد.

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

فاطمة: أريد أن أعرف المزيد عن زوجة مصعب يا جدي.

الجد: كما تحبّين يا ابنتي، فقد كانت حمنة زوجة مصعب زوجة عظيمة.. كانت محبّة لزوجها، عاشقة له، وفيّة، تشاركه في همومه، وتساعده على أداء واجباته، وقد شاركته في غزوة أحد مع عدد من نساء المسلمين، فكانت تسقي العطاش، وتداوي الجرحى، وتقوم على خدمة المجاهدين.

الراوي (في حزن): بعد انتهاء القتال في غزوة أحد، جاءت نساء المجاهدين يسألن عن أزواجهنّ وأولادهنّ وإخوانهنّ، وكانت بينهنّ حمنة زوجة مصعب، جاءت تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زوجها، فقال لها الرسول القائد:

ـ يا حمنة.. احتسبي خالك حمزة بن عبد المطلب.

فقالت حمنة: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، رحمه الله وغفر له.

ثم قال الرسول القائد: "يا حمنة. احتسبي أخاك عبد الله".

قالت حمنة: إنّا لله وإنّا إليه راجعون. رحمه الله وغفر له.

ثم قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا حمنة. احتسبي زوجك مصعب بن عمير".

فصاحت حمنة: يا حرباه!

فقال النبيّ الرحيم صلى الله عليه وسلم: "إنّ زوج المرأة لبمكان".

مؤثر: أصوات بكاء.. نشيج..

الجد: لقد استشهد في معركة أحد: خالها أسد الله وأسد رسوله، حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، واستشهد أخوها البطل/ عبد الله بن جحش رضي الله عنه، واستشهد زوجها وحبيبها البطل مصعب بن عمير، رضي الله عنه، فأيّ مصيبة نزلت بهذه المرأة المجاهدة حمنة زوجة مصعب؟!

الراوي: حاولت فاطمة الكلام فلم تستطع.. لقد خنقتها العبرات.. وهذا أخوها أحمد يحاول الكلام فلا يستطيع.. لقد كان الموقف شديد الوقع على الحفيدين، كما كان شديداً على الجد وعليّ.

الجد: ترمّلت حمنة وهي في عز شبابها، ولكنّ العابد البطل طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، لم يتركها لأحزانها، فخطبها، وتزوّجها، وأنجبت منه محمد بن طلحة، الملقّب بالسجّاد، لشدة ورعه، وكثرة عبادته، كما أنجبت له عمران بن طلحة.

الجميع: رضي الله عنهم جميعاً وأرضاهم.

أحمد: نعود إلى سيرة مصعب يا جدي؟

الجد: نعود.. رجع مصعب إلى مكة من الحبشة، ليرى البلاء والعذاب وألوان الشدائد تنصبّ على النبيّ الكريم وأصحابه، ولكنه لم يخف، ولم يأبه بما ينتظره من عذاب، ما دام ذلك في سبيل الله، فعاش حياة مريرة، ذاق فيها مرارة الجوع والحرمان، حتى ضعف جسمه، وحال لونه.. كان يأكل يوماً ويجوع أياماً، وهو صابر محتسب، حتى تطاير جلده، وما عاد يقوى على المسير، فكان يحتمله إخوانه على كواهلهم.

مؤثر: صوت ناي حزين.

الراوي: استمرّ مصعب على هذه الحال، إلى أن كانت بيعة العقبة الأولى، عندما آمن بعض أهل المدينة من الأوس والخزرج بالله ورسوله، وطلبوا من النبيّ الكريم أن يرسل معهم إلى المدينة من يعلّمهم أمور دينهم، ويقرأ عليهم القرآن، ويدعو أهل المدينة إلى الإسلام.

الجد: فاختار النبيّ الكريم مصعباً للقيام بهذه المهمة العظيمة.

أحمد: كم كان عدد الذين أسلموا من أهل المدينة يا جدي؟

الجد: كانوا اثني عشر رجلاً أسلموا وبايعوا النبيّ على ألا يشركوا بالله شيئاً، وعلى ألا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه من بين أيديهم وأرجلهم، وعلى ألاّ يعصوه في معروف.

فاطمة: هنيئاً لهم.

الجد (متابعاً): ثم سألوا النبيّ الكريم عمّا يكون لهم، إذا هم وفوا بما عاهدوه عليه، فقال لهم النبيّ الكريم:

"إن وفيتم فلكم الجنّة، وإن غشيتم من ذلك شيئاً، فأمركم إلى الله عز وجل، إن شاء غفر، وإن شاء عذّب".

مؤثر: أصوات قافلة.

الراوي: وسافر مصعب معهم إلى المدينة المنورة، ونزل عند الرجل المسلم الرائع: أسعد بن زرارة، وانطلق يدعو إلى الله ورسوله بالحكمة والموعظة الحسنة.

فاطمة: وهل استجاب له أهل المدينة؟

الجد: كلَّ الاستجابة.. فقد رأوا في مصعب بن عمير صدقاً، وإخلاصاً، وزهداً بما في أيديهم، فأحبوه، وأقبلوا عليه، ودخل عدد كبير في الإسلام، حتى لم يبق بيت في المدينة إلا فيه مسلم.

الحفيدان: ما شاء الله.. ما شاء الله!

أحمد: ألم يحاربه زعماء المدينة، كما حارب زعماء مكة رسول الله والمسلمين؟

الجد: زعماء المدينة غير زعماء مكة.. كان زعماء المدينة عقلاء ومنصفين، وعندما يثور أحدهم في وجه مصعب، كان مصعب يتحمّل ثورته، ويصبر عليه، وينتظر حتى يهدأ غضبه، ثم يقول له في ابتسامته الساحرة:

ـ لقد سمعنا ما قلت.. أفلا تجلس لتسمع ما نقول؟ فإن رضيتَ قبلتَه، وإن كرهتَه تركتَه.

فما يكون من ذلك الزعيم إلا أن يجيبه في استسلام: صدقتَ. وأنصفت، ثم يجلس إليه، ويسمع ما يقول.. كان مصعب يبدأ حديثه بتلاوة آيات من القرآن العظيم، حتى إذا رأى أثرها في من يكلمه، دعاه إلى الإسلام، فلا يملك الرجل إلا أن يستجيب له ويسلم.

الحفيدان: الله أكبر.. الله أكبر.

أحمد: معنى هذا: أن مصعب بن عمير لم يلق مشقّة في المدينة؟

الجد: بل لقي مشقّات وصعوبات من بعضهم، كزعيم المنافقين ابن أبيّ ابن سلول، ومن اليهود الذين كانوا يفسدون ما بين الأوسيين والخزرجيين.. ولكنّ مصعباً تحمّل كل الصعوبات، كان يتحرك من بيت إلى آخر، يزور الناس في بيوتهم، ويدعوهم إلى الإسلام، وما كان ينتظرهم حتى يأتوا إليه، بل كان مصعب يذهب إليهم، فلا تغيب شمس يوم، حتى يسلم على يديه الرجل والرجلان والعشرة.

الحفيدان: ما شاء الله.. الله أكبر.

أحمد: وهل كان النبيّ الكريم يعرف ما يفعله مصعب؟

الجد: طبعاً كان يعرف، حتى إذا استدار العام، رحل مصعب إلى مكة المكرمة قبيل موسم الحج، وأخبر النبيَّ بما فتح الله عليه، وبشّره بأن وفداً كبيراً من أهل المدينة سوف يفدون إليه في موسم الحج، وفرح النبيُّ وأصحابه بهذا الفتح، وبإسلام ذلك الجمع الغفير من أهل المدينة.

مؤثر: أصوات قافلة.

الراوي: وجاءت وفود الحجّاج من المدينة، وهم مصمّمون على أن ينهوا حالة الاضطهاد التي يتعرّض لها النبيُّ وأصحابه، والتقوا نبيَّ الله في العقبة، وبايعوه على السمع والطاعة في المنشط والمكره، أي وقت النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يقوموا في الله لا يخافون لومة لائم، وعلى أن ينصروه ويمنعوه من أعدائه إذا قدم إليهم، كما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم.

فاطمة: رائع.. رائع..

الجد: ثم قام أبو الهيثم بن التَّبِّهان وقال: يا رسول الله. إن بيننا وبين يهود حبالاً، وإنّا قاطعوها، فهل عسيتَ، إنْ فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله، أن ترجع إلى قومك وتَدَعَنا؟

الراوي: فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المقالة الهائلة:

"بل الدَّمَ الدّم، والهَدْمَ الهَدم، أنا منكم، وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم".

أصوات: الله أكبر.. الله أكبر.

الجد: ثم أمرهم الرسول القائد أن يختاروا من بينهم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم، فاختاروا تسعة نقباء من الخزرج وثلاثة من الأوس، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"أنتم على قومكم، بما فيهم، كُفَلاء، ككفلة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي".

مؤثر: أصوات قافلة.

الراوي: وعاد المسلمون إلى مدينتهم، وبقي مصعب شهرين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لحق بالمدينة المنورة، مهاجراً في سبيل الله، ثم لحق به المهاجرون.

الجد: وعندما هاجر النبيُّ الكريم إلى المدينة المنورة، وآخى بين المهاجرين والأنصار، آخى بين مصعب وأبي أيوب الأنصاري.

الجميع: رضي الله عنهم.

الراوي: وعاش مصعب في المدينة المنورة كما يعيش سائر المهاجرين، ولكنه ما كان يتأخر في الدعوة إلى الله، ويبذل قصارى جهده في ذلك، عاش إنساناً زاهداً، يسعى إلى تحقيق ما يأمره به النبيُّ الكريم

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

الراوي: وكان متأليّاً في طاعة الله ورسوله، عابداً، صوّاماً قوّاماً.

أحمد: هل كان مقاتلاً؟

مؤثر: أصوات معركة.

الجد: عندما جاء الإذن بقتال المشركين، كان مصعب ممن فرح بنزول ذلك الإذن، وقد قاتل في غزوة بدر تحت راية الإسلام قتال الأبطال.

الراوي: كان مصعب يحمل لواء الرسول القائد.

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

الراوي (متابعاً): وكان مصعب بطلاً شجاعاً، ولو لم يكن كذلك، ما سلَّمه رسولُ الله لواءه.. فما كان ليتسلّم لواء رسول الله إلا بطل صنديد، وكذلك كان مصعب.

الجد: وانتصر المسلمون في معركة بدر انتصاراً عظيماً، وقتلوا من المشركين سبعين، كان فيهم عدد من زعمائهم وطواغيتهم، كأبي جهل، وعتبة وشيبة، وأسروا سبعين آخرين، وكان مصعب يصول في الميدان ويجول، حاملاً لواء الرسول، لا يخاف موتاً ولا يخشى سيوف المشركين.

الحفيدان: الله أكبر.. الله أكبر.

مؤثر: أصوات سلاسل وأغلال حديدية.

الراوي: وكان من بين الأسرى: أبو عزيز بن عمير، أخو مصعب، ورأى مصعب شقيقه المشرك بين الأسرى، فقال لآسره: "اشدد يديك به، فإنّ له أماً بمكة كثيرة المال".

أحمد: الله أكبر!

الراوي: فقال أبو عزيز لأخيه مصعب: أهذه وصيّتك بي يا أخي؟

فقال له مصعب: إنه أخي دونك. إنه أخي في الإسلام وأنت مشرك.

الجد: فبعثت أم مصعب أربعة آلاف افتدت بها ابنها أبا عزيز.

فاطمة: وبقي أبو عزيز كافراً؟

الجد: بل أسلم بعد ذلك، ولله الحمد.

مؤثر: أصوات هاربين من معركة.

الجد: وانهزم من بقي من المشركين.. انهزموا حاملين الخزي والعار إلى مكة، وهم يتوعدون المسلمين بمعركة أخرى، يثأرون بها لقتلاهم ولهزيمتهم الشنيعة في بدر.

مؤثر: أصوات معركة.

الراوي: وجاءت معركة الثأر في غزوة أحد، واشتعلت نيران القتال وسلَّم الرسول القائد لواءه لمصعب بن عمير، وقاتل به مصعب قتال المغاوير، وحاول فارس من فرسان قريش مهاجمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعترض مصعب طريقه.. تصدَّى له وقاتله، وثبت إلى جانب الرسول القائد، فجاءه فارس آخر يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه ابن قميئة، فتصدّى له مصعب، وضربه بسيفه، ولكنّ ابن قميئة كان يلبس درعين، فلم تؤثر ضربة مصعب بجسمه، وضربه ابن قميئة.. ضرب يده اليمنى فقطعها، فاستلم مصعب اللواء بيده اليسرى، وهو يقرأ قول الله بصوت عال:

(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرُّسل).

فحمل عليه ابن قميئة مرة أخرى، وضربه بسيفه، فقطع يده اليسرى.

الحفيدان: لا حول ولا قوة إلا بالله.

الراوي: فحنا مصعب على اللواء، وضمّه بعضديه على صدره، وهو يقرأ قول الله تعالى:

(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل).

فحمل عليه ابن قميئة مرة ثالثة برمحه، فأنفذه في صدره، فاندقَّ الرُّمح، وفاضت روح مصعب، وارتفعت فوق سحابة من عبير إلى الفردوس الأعلى، حيث الأنبياء والشهداء والصدّيقون.

مؤثر: صوت بكاء..

أحمد: لماذا كلّ هذا الحقد على مصعب؟

الجد: كان ابن قميئة يظن أنّ مصعب بن عمير هو النبيُّ محمد.

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

الجد: وبعد انتهاء المعركة الأليمة، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام شهداء غزوة أحد، وتلا قول الله تعالى:

(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلاً).

الراوي: ونظر الرسول القائد إلى مصعب بن عمير، وتذكّر أيامه الماضيات في مكة المكرمة، ثم قال في تأثّر شديد:

"لقد رأيتك بمكة، وما بها أحد أرقَّ حُلّةً، ولا أحسنَ لمّة منك، ثم أنت مشعَّثُ الرأس في بُردة".

الجد: وقال الصحابيُّ الجليل: خبّاب بن الأرتّ، يروي حكاية تكفين مصعب:

"هاجرنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنّا من مضى أو ذهب، لم يأكل من أجره شيئاً، كان منهم مصعب بن عمير: قُتل يوم أُحد، لم يترك إلا نَمِرةً ـ أيْ كساءً ـ كنّا إذا غطّينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطّينا بها رجليه خرج رأسه. فقال لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم: غطّوا بها رأسه، واجعلوا على رجله الإذخر".

الراوي: ووقف الصحابيُّ المجاهد الشجاع: عامر بن ربيعة يدلي بشهادته عن مصعب وقال:

"كان مصعب بن عمير، رضي الله عنه، لي خِدناً وصاحباً منذ يوم أسلم، إلى أن قُتل ـ رحمه الله ـ بأحد.. خرج معنا إلى الهجرتين جميعاً بأرض الحبشة، وكان رفيقي من بين القوم، فلم أر رجلاً قطُّ كان أحسن خُلُقاً، ولا أقلَّ خلافاً منه".

الجد: رضي الله عن مصعب بن عمير، الداعية المجاهد الشهيد وأرضاه، وجمعنا به في الفردوس الأعلى.