عزة البنات

عبد الله الطنطاوي

    تمثيلية إذاعية

عزة البنات

في جلسة بين الجد وحفيدتيه

عبد الله الطنطاوي

[email protected]

الجد (منادياً): يا عزيزة.. يا عزيزة..!

عزيزة (صوت من بعيد): نعم يا جدي..

الجد (منادياً): وأنت يا عزة.. تعاليا..

مؤثر: صوت ركض ولهاث..

عزيزة: السلام على جدّنا العزيز عز الدين..

الجد: وعليك وعلى أختك السلام يا حفيدتيّ العزيزتين.. اجلسا..

عزيزة: جلسنا.. تفضّل يا جدّنا.. ماذا تريد منا؟

الجد: أريد أن نتذاكر فيما حفظتماه من القرآن الكريم.

عزة (في دلال): ولكننا عاتبات عليك يا جدّي العزيز.

الجد (في شيء من الفرح): لماذا يا روح جدّو؟ ماذا أذنبت؟

عزة: جلستَ مع أخوينا بالأمس، وحدثتهما عن العزة والكرامة، وطلبتَ منهما أن يكونا عزيزين بين الناس، أما نحن البنات، فلا نسمع منك إلا الأوامر.

الجد (ضاحكاً): يا حبيبتي يا عزة.. هذا ما أغضبك من جدّك؟.

عزة (في جد): وهل هذا قليل يا جدي العزيز عز الدين؟

الجد: يا حفيدتي العزيزتين.. أنتما عربيّتان مسلمتان، يعني.. أنتما عزيزتان كريمتان..

عزيزة: لمجرد كوننا عربيتين مسلمتين، نحن عزيزتان مكرّمتان؟

الجد: طبعاً طبعاً يا ابنتي.. فالفتاة العربية عزيزة مكرمة، تعتز بعروبتها وكرامتها، وتأبى الذل والخنوع والخضوع.

عزيزة: هذا جميل.. فهل تعطينا مثلاً على ذلك يا جدّي؟

الجد: أنا مستعد أن أذكر لكما أمثلة كثيرة من أيام العرب في الجاهلية والإسلام.

عزة: أنا لا أحب الجاهلية والجهل.. أريد مثالاً واحداً فقط.

الجد: حاضر.. حاضر..

مؤثر: صلصلة سيوف، وحمحمة خيول..

الجد: قال عمرو بن هند لجلسائه، وكان أحد ملوك العرب القساة:

عمرو (بصوت خشن): هل تعرفون رجلاً تأنف أمه أن تخدم أمي؟

رجل: نعم.. عمرو بن كلثوم.. فأمه ليلى بنت مهلهل بن ربيعة، من أعز النساء العربيات، ذات أنفة وكرامة وشمم.

مؤثر: موسيقا صاخبة.

الجد: سمع الملك عمرو بن هند هذا الكلام، فثار الدم في عروقه، ودخل على أمه هند وقال لها:

عمرو: اسمعي يا أماه، سوف أدعو الشاعر عمرو بن كلثوم وأمه، فاحتالي عليها، وحاولي استخدامها.

مؤثر: موسيقا حزينة.

الجد: وجاء عمرو بن كلثوم، ومعه مجموعة من فرسانه، ودخلت أمه ليلى إلى هند أم عمرو، وحسب الاتفاق الذي كان بين هند وابنها عمرو، احتالت على ليلى، ونادتها:

هند: يا ليلى ناوليني الطبق.

الجد: فردّت عليها ليلى:

ليلى: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها.

الجد: وأعادت هند طلبها..

هند: يا ليلى قلت لك: ناوليني الطبق.

الجد: وردّت ليلى:

ليلى: وأنا قلت لك: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها.

الجد: وعندما كررت هند طلبها من ليلى للمرة الثالثة، صرخت ليلى:

ليلى: وا ذلاّه.. وا ذلاّه..

الجد: فهبّ عمرو بن كلثوم إلى سيف عمرو بن هند، وقتله به، وعاد بأمه معززة مكرّمة إلى دياره.

عزيزة: يا لطيف.. انكتمت أنفاسي.. حادث رهيب..

عزة: رهيب جداً.. وقف له شعري.

الجد: هذه الحادثة تدل على ما كانت تتمتع به المرأة العربية من عزة ومكانة وكرامة وشموخ.

عزيزة: نريد أمثلة من العصر الإسلامي يا جدي، فقد زدتنا كراهية لقسوة عرب الجاهلية.

الجد: كما تحبين يا عزيزة، ولكن.. بعد أن نتذاكر بما حفظتماه من القرآن الكريم.

عزة: أنا مستعدة..

عزيزة: وأنا جاهزة..

الجد: عظيم.. عزيزة.. اذكري آية فيها كلمة "العزّة".

عزيزة: بسم الله الرحمن الرحيم (من كان يريد العزّة، فلله العزّة جميعاً) صدق الله العظيم.

الجد: عظيم.. وأنت يا عزة هاتي آية أخرى فيها كلمة العزّة.

عزة: بسم الله الرحمن الرحيم (ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين، ولكنّ المنافقين لا يعلمون).

الجد: صدق الله العظيم.. ولكن المنافقين لا يعلمون.. أرأيتما؟ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين وكلمة المؤمنين تشمل المؤمنات أيضاً، ولهذا كان المؤمنون أعزة كراماً، وكانت المؤمنات عزيزات كريمات، على مدى التاريخ.

عزة: الحمد لله الذي هدانا للإسلام.

عزيزة: وجعلنا مسلمات مؤمنات عزيزات، لا نرضى بالذل ولا الهوان، ولا نخضع إلا لله العزيز.

عزة: أنا أخضع للحق أيضاً.

عزيزة: من خضع لله، خضع للحق.

الجد: بارك الله فيكما.. والآن.. هاتي يا عزيزة آية فيها كلمة العزيز.

عزيزة: أنا أحفظ آيات كثيرة فيها كلمة العزيز.

الجد: أسمعينا بعضها..

عزيزة: قال الله تعالى في كتابه العزيز، بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.

الجد (مقاطعاً): نحن في شبه درس نتذاكر فيه محفوظاتنا من القرآن الكريم، ولهذا، لا داعي لتكرار التعوّذ، والبسملة، والتصديق، تكفينا المرة الأولى.

عزيزة: حاضر يا جدي العزيز (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك، ويعلّمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، إنك أنت العزيز الحكيم).

الجد: إنك أنت العزيز الحكيم. غيرها.

عزة: أنا أحفظ أيضاً.. (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم).

الجد: صدق الله العظيم، وما النصر إلا من عند الله.. وكذلك الأرزاق والأعمار.. النصر والرزق والعمر كلها بيد الله وحده.. هاتي يا عزيزة أسمعينا..

عزيزة: (فلما جاء أمرنا نجّينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا، ومن خزي يومئذ، إن ربك هو القويُّ العزيز).

الجد (مبتهلاً): يا قويُّ يا عزيز، نجّنا ونجّ سائر إخواننا المجاهدين في فلسطين من اليهود والعملاء وفي العراق من الأمريكان والإنكليز وعملائهم الخونة، وفي كل مكان، من كل الكافرين والظالمين.

البنتان: آمين..

الجد: أيضاً..

عزة: (ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقويّ عزيز).

الجد: اللهم انصر إخواننا المجاهدين في فلسطين والعراق، وأفغانستان والشيشان وفي كل مكان يا قويّ يا عزيز.

البنتان: آمين.

عزيزة: (ولله المثل الأعلى، وهو العزيز الحكيم).

عزة: (الله لطيف بعباده، يرزق من يشاء وهو القويُّ العزيز).

الجد: اللهم الطف بنا وبسائر المسلمين فيما جرت به المقادير.

البنتان: آمين..

عزيزة: اسمع هذه الآية الجميلة يا جدي العزيز، فأنا أحبها كثيراً، وأرددها في كل يوم، وأنا أتهيأ للذهاب إلى المدرسة.

الجد: هاتي يا عزيزة.

عزيزة: (وتوكّل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم، وتقلّبك في الساجدين، إنه هو السميع العليم).

الجد: الله! بارك الله فيك يا عزيزة.

عزة: وأنا أحب هذه الآية كثيراً، لأنها تحمّسني لأكون عالمة في المستقبل، وأخاف الله، ولا أخاف سواه: بسم الله الرحمن الرحيم (إنما يخشى الله من عباده العلماءُ، إن الله عزيز غفور).

الجد: كل آيات الله عظيمة يا بناتي.. القرآن كله عظيم، وعزيز، ورائع.. والآن.. سوف آتيكما بمثل من عزة المرأة العربية المسلمة، التي استعلت بإيمانها وإسلامها على الخوف، وعلى الكافرين والظالمين، فقد علّمها الإسلام العزة بأروع معانيها.

عزة: نريد أمثلة كثيرة يا جدي العزيز.

مؤثر: موسيقا حزينة..

الجد: سمية بنت خبّاط مثلٌ عالٍ.. لعلكما تعرفان أنها أم عمار بن ياسر رضي الله عنهم جميعاً، فقد قدّمت هذه المرأة المسلمة أعظم مثال لعزة الإسلام والإيمان.. أسلمت مع زوجها ياسر، وابنها عمار، وتعرّضت معهما لأشد أنواع العذاب، ثم استشهدت على يد الفاجر الكافر أبي جهل الذي طعنها بحربته، لأنها لم ترضخ له، ولم تترك دينها، وكانت أول الشهداء في الإسلام.

عزيزة وعزة: الله أكبر.. الله أكبر..

مؤثر: موسيقا حزينة.

الجد: وفاطمة بنت الخطاب –رضي الله عنها- تصدّت لأخيها عمر بن الخطاب قبل أن يسلم، فضربها عمر وضرب زوجها لأنهما أسلما، وتحمّلت الضرب وتحدّت جبروت عمر بإيمانها، وكانت سبباً في إيمان أخيها الخليفة العادل العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

مؤثر: موسيقا حزينة.

عزيزة: وعن أخته العظيمة، فاطمة بنت الخطاب، ولكن.. كيف كان ذلك؟

الجد: أراد عمر بن الخطاب أن يتخلّص من رسول الله.

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

الجد: فحمل سيفه، وذهب إليه ليقتله، وفي الطريق قيل له: بدلاً من أن تقتل محمداً، وتثير عليك بني هاشم، اذهب فاقتل أختك فاطمة وزوجها سعيد بن زيد، فقد آمنا بمحمد واتبعاه.

عزة: يا لطيف!..

الجد: فتوجّه عمر إلى أخته وصهره، وكان عندهما خبّاب بن الأرت رضي الله عنه، يقرئهما آيات من سورة طه، وسمع عمر وهو أمام الباب قراءتهم، فقرع الباب بشدة (مؤثر: خبط شديد على باب) وسمعوا صوت عمر يقول بخشونة: افتحوا الباب.

سعيد: هذا صوت أخيك عمر بن الخطاب.

فاطمة (بتحد): وليكن..

خبّاب: دعوني أختبئ.. أخشى أن يراني فيبطش بي..

مؤثر: صوت خطوات، ولهاث إنسان..

الجد: واختبأ خبّاب، وخبّأت فاطمة الصحيفة، وعاد عمر يصرخ بصوت عال: افتحوا الباب.

مؤثر: صوت فتح الباب.

الجد: فتح له صهره سعيد الباب، فدخل عمر بن الخطاب، وسأل: ما هذه الهينمة التي سمعت؟ فردّت عليه أخته:

فاطمة: ما سمعت شيئاً..

الجد: فقال عمر: بل سمعت، وعرفت أنكما تابعتما محمداً في دينه.

مؤثر: أصوات ضرب وتأوّه وصراخ..

الجد: وضرب عمر صهره، فانبرت له فاطمة متحدية، وقالت له:

فاطمة (بتحد وقوة): نعم يا عمر، قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك..

مؤثر: صوت صفعة..

الجد: فضربها عمر، وأسال دمها، وهي ما تزال واقفة تتحداه، فلما رأى عمر الدم يسيل من وجه أخته، رقَّ لها، وندم على ما فعل، فقال لأخته برقة: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤونها، لأقرأها وأعرف ما جاء به محمد.

فقالت له فاطمة في لين:

فاطمة: إنا نخشاك عليها..

الجد: ردّ عمر برقة: لا تخافي سوف أردّها إليك..

فاطمة (برقة وتودد): يا أخي إنك نجس على شركك، ولا يمسّها إلا الطاهر.. اذهبْ، وتطهَّرْ..

مؤثر: خطوات، وصوت فتح باب وإغلاقه، وصوت ماء اغتسال.

الجد: فما كان من عمر إلا أن يقوم ويغتسل، ثم أعطته أخته الصحيفة فقرأ فيها: (طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، إلا تذكرة لمن يخشى، تنزيلاً ممن خلق الأرض والسماوات العُلا، الرحمان على العرش استوى، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السرَّ وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى).

مؤثر: خشخشة ورق..

الجد: وطوى عمر الصحيفة وهو يقول في تأثر ظاهر: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه!

الجد: وكان هذا الموقف الإيماني الشجاع من فاطمة بنت الخطاب، سبباً في إيمان أخيها عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما.

عزة: هذه قصة عظيمة، يا جدي، يا ليتني أستطيع أن أكون مثل فاطمة بنت الخطاب يا جدي.

الجد: عزة الإيمان –يا عزة- موجودة في نفوس المسلمين والمسلمات جميعاً يا ابنتي..

عزيزة: هذا إذا كانوا مسلمين حقاً يا جدّي..

الجد: هذا صحيح يا عزيزة.. ولذلك أقصّ عليك وعلى أختك عزة هذه القصص الإيمانية التي ظهرت فيها عزة المرأة المسلمة بأوضح صورها.

عزة: هات أسمعنا قصة أخرى يا جدي..

مؤثر: موسيقا صاخبة..

الجد: اسمعا هذه القصة، وتَمَلًّيا فيها جيداً.. صار القائد البويهي عضد الدولة الحاكم الفعلي في بغداد، وصار الخليفة العباسي مجرد اسم لا معنى له، فالحكم والسطوة والسلطان لعضد الدولة.. عضد الدولة هذا أراد أن يخطب جميلة الحَمدانية بنتَ ناصر الدولة الحمداني حاكم الموصل.

عزة: يعني.. هي من أسرة سيف الدولة الحمداني؟

الجد: نعم.. سيف الدولة عمّها، وأرسل عضد الدولة من يخطبها له من أبيها، فعرض عليها أبوها الأمر، وقال لها:

مؤثر: موسيقا حزينة.

ناصر: أنت تعرفين من هو عضد الدولة يا ابنتي.. إنه الحاكم الفعلي في بغداد، ولا أحد يستطيع الوقوف في وجهه، أو مخالفة أمره، وهو مستعد لتقديم ما تطلبين من المهر والهدايا، فما رأيك؟

جميلة: لا يا أبي.. لا أستطيع أن أتزوجه.. لا أحبه.. لا أرغب فيه.

ناصر: لماذا يا ابنتي؟..

جميلة: لأنه ظالم.. حاكم ظالم.. طاغية.. اعتدى على العروبة وعلى الإسلام، وحلّ محل الخليفة ظلماً وعدواناً.. ثم إنه ليس عربياً.. إنه بويهي وأنا عربية.

ناصر: ولكنه عضد الدولة يا ابنتي..

جميلة: ولأنه عضد الدولة أرفضه..

ناصر: ولكنّ رفضك هذا سيكلفنا الكثير..

جميلة: قل له: جميلة لا ترغب في الزواج الآن.. وكفى..

ناصر: لن يقبل..

جميلة: فليشرب ماء دجلة.. أنا جميلة.. جميلة الحمدانية، بنت ناصر الدولة، وعمّي البطل سيف الدولة الحمداني، قاهر الروم.

ناصر: اسمعي مني واقبلي يا ابنتي..

جميلة: لن أتزوج ذلك العلج الأعجمي يا أبي، وما أظنك تجبرني على الزواج منه.

ناصر: حاشا لله يا ابنتي، فأنت سيدة نفسك، ولا يستطيع أحد في الدنيا أن يجبرك على الزواج منه أو من غيره، فأنت فتاة عربية أصيلة، ومسلمة حرة عفيفة.. أنت سيدة نفسك، ولكني أحذرك من عواقب الرفض يا جميلة، فهذا طاغية.. قاتل.. ظالم.. إنه عضد الدولة يا ابنتي..

مؤثر: موسيقا حزينة.

الجد: وهكذا رفضت جميلة الحمدانية الزواج من عضد الدولة في شموخ العربية المسلمة، وقالت لا للطاغية الظالم، ولم تأبه بالعواقب، لم تأبه بالوعد ولا الوعيد والتهديد.. رفضت جواهره وذهبه وضياعه وملايينه، وأرضت دينها وضميرها وكرامتها بقولها: لا لطاغية عصره.

البنتان: الله أكبر.. الله أكبر..

عزيزة: وماذا كانت النتيجة يا جدي؟

مؤثر: موسيقا حزينة..

الجد: غدر عضد الدولة بناصر الدولة، واحتل الموصل، وانتقم انتقاماً شنيعاً من جميلة.. صادر أموالها، واعتقلها في بيت على دجلة، وفرض عليها غرامة كبيرة، وحاول إرغامها على فعل ما لا يرضاه الله، وتأباه العربية المسلمة، حاول إجبارها على البغاء، لأداء الغرامة الكبيرة التي فرضها عليها، فألقت بنفسها في نهر دجلة، وماتت شهيدة العفة والكرامة، ولم تشأ أن تلوث شرفها وشرف العروبة والإسلام، بالاستسلام لذلك الطاغية الفاجر.

عزة (باكية): رحمها الله.. رحمك الله يا جميلة.. ليتني أكون مثلك يا جميلة.

الجد: كان عضد الدولة من المتجبرين المتكبرين، فمن تحفظ منكما آية عن المتكبرين؟

عزيزة: أنا أحفظ أكثر من آية يا جدي العزيز.

الجد: وأنت يا عزّة؟

عزة: وأنا أحفظ بعض الآيات الكريمة.

الجد: أسمعينا يا عزة..

عزة: قال الله تعالى في المستكبرين أمثال عضد الدولة: (فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين).

الجد: عظيم..

عزة: (لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوّاً كبيراً).

الجد: رائع..

عزيزة: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض).

الجد: هائل..

عزيزة: (وأما الذين استنكفوا واستكبروا، فيعذبهم عذاباً أليماً).

الجد: بديع..

عزة: (إنه لا يحب المستكبرين).

الجد: حاشاه أن يحب متكبراً.

ولو كان عضد الدولة مؤمناً مسلماً كما وصف الله عباده المؤمنين بقوله: (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) لقبلت به جميلة زوجاً، ولكنه استكبر عن تعاليم الله.

عزيزة: والله يقول: (إن الذين استكبروا عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين).

عزة: ويقول سبحانه (كذلك الله يطبع على كل قلب متكبر جبّار).

عزيزة: (إنهم إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون).

الجد: (فاليوم تجزون عذاب الهْون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون).

عزيزة: وقال الله العزيز في كتابه العظيم: (والذين كذّبوا بآياتنا واستكبروا عنها، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).

الجد: وقال سبحانه: (إن الذين كذّبوا بآياتنا واستكبروا عنها، لا تُفتّحُ لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط، وكذلك نجزي المجرمين).

عزة: أريد أن أسمع منك قصة أخرى يا جدي العزيز، عن جداتنا العزيزات في التاريخ الإسلامي.

الجد: تذكرتُ الآن حادثة رهيبة، فيها من شموخ الإسلام، واستعلاء الإيمان، ما يسع أهل الأرض جميعاً.

عزة: أرجو أن لا تكون قصة حزينة يا جدي..

الجد: بل إنها حزينة يا عزة، ولكنها ترفع الرأس.. رفعت رؤوس كل البنات العربيات المسلمات..

عزيزة: شوّقتنا يا جدي لسماعها..

مؤثر: موسيقا حزينة..

الجد: سمعتما بهولاكو..

عزيزة: أعوذ بالله من ذكره.. إبليس أقل خبثاً وإجراماً ونجاسة منه.

الجد: إنه من تلاميذ إبليس ولا شك..

عزيزة: جرائم هذا الخسيس تملأ الكتب، فعن ماذا ستحدثنا يا جدي؟

الجد: عن ابنه الخسيس.. ابن هولاكو..

عزة: لابد أن يكون كأبيه.

عزيزة: ومن يشابه أباه فما ظلم، فما هي القصة يا جدي؟

مؤثر: موسيقا حزينة.

الجد: كان ابن هولاكو أحد القادة المجرمين البطاشين.. هذا القائد المجرم ابن هولاكو رأى ابنة حمّاد، وحمّاد رجل مسلم من أهل بغداد التي قتل فيها التتار أكثر من مليون مسلم.. رأى ابن هولاكو تلك الفتاة الجميلة، فأعجبته ورغب في زواجها..

عزيزة: في تلك الظروف القاسية الدامية...

الجد: نعم.. في تلك الظروف الدامية، تقدّم لخطبتها من أبيها، فقال له أبوها:

مؤثر: موسيقا حزينة..

حمّاد: اسمح لي يا سيدي القائد أن أشاورها..

ابن هولاكو: شاورها بسرعة.. نريد أن نفرح، ونقيم الزينات..

مؤثر: موسيقا حزينة..

الجد: ودخل حمّاد إلى ابنته يرتجف، فسألته زوجته:

مؤثر: موسيقا حزينة..

الزوجة: مالك يا حمّاد؟ أراك كأنك خرجت من قبر.. وماذا يريد منا هؤلاء المجرمون؟

حمّاد: اسكتي.. هذا ابن هولاكو يا امرأة، جاء يخطب بنتنا لنفسه.

مؤثر: موسيقا حزينة..

البنت: أنا؟ أعوذ بالله.. أنا أتزوج كافراً؟

حمّاد: إنه ابن هولاكو يا ابنتي..

البنت: إنه كافر وكفى.. وأنا أفضّل الموت على الزواج من كافر.

حمّاد: يا بنتي تذكري أن الذي يخطبك ابن هولاكو..

البنت: وابن هولاكو كافر.. غير مسلم، ولا يمكن لفتاة عربية مسلمة أن تتزوج من أعجمي كافر، حتى لو كان ملك الدنيا كلها..

حمّاد: سوف يقتلك..

البنت: القتل أهون من الزواج منه.

حمّاد: سوف يقتلنا جميعاً.

البنت: قتل ألف ألف من أهل بغداد فمن نحن؟

مؤثر: موسيقا حزينة..

الجد: ورفضت ابنة حمّاد الزواج من ابن هولاكو، ولم تستسلم ولم تخف.. استعلت عليه بعروبتها وإسلامها، فقتلها وقتل أباها وأمها وأهلها جميعاً، قتلها وهي شامخة، لم تصرخ ولم تبك ولم تبال بالقتل.. لقد اعتزّت بإيمانها، وإسلامها، فأمدّها الإسلام بهذه الطاقة الروحية الهائلة.. ماتت وهي تردد:

يهون علينا أن تصاب جسومنا    وتسلم أعراض لنا وعقول

عزيزة: الله الله يا جدي ما أروع هذا الكلام..

عزة: بل قولي ما أروع بنت حمّاد!

الجد: رحمها الله رحمة واسعة..

عزة: أريد قصة أخرى يا جدي..

الجد: وستكون آخر قصة، فقد اقترب موعد الصلاة، وأريد أن أستعدّ لها..

عزة: تفضل يا جدي.. ولكن.. أرجو ألا تكون فظيعة.. (بكاء)..

مؤثر: زقزقة عصافير..

الجد: لا يا عزة.. ليست كذلك.. فاسمعيها بعد أن تمسحي دموعك.. كانت أم سليم بنت مِلحان امرأة فاضلة ذات عقل راجح، هداها الله إلى الإسلام في وقت مبكر، وعندما علم زوجها مالك بن النضر بإسلامها، غضب غضباً شديداً، وقال لها:

مالك: صَبَوْتِ يا بنت ملحان؟

أم سليم: ما صَبَوتُ بل آمنتُ بالله ورسوله، صلى الله عليه وسلم.

الجد: ثم التفتتْ إلى طفلها أنس بن مالك وقالت له:

أم سليم: قل: لا إله إلا الله. قل: أشهد أن محمداً رسول الله.

مالك: لا تفسدي عليّ ابني يا امرأة..

أم سليم: أنا لا أفسده.. أنا ألقنه الشهادتين..

الجد: وأصرّت أم سليم على موقفها، ولم تكترث بتهديد زوجها مالك، فتركها زوجها، وسافر إلى الشام، فلقيه عدو له فقتله..

عزة: لا حول ولا قوة إلا بالله. مات كافراً..

عزيزة: هل مالك هذا هو أبو أنس بن مالك خادم رسول الله يا جدي؟

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

الجد: نعم.. يُخرج الحيّ من الميت.. أخرج أنس بن مالك، من أبيه المشرك مالك، وكان الفضل في ذلك، لأم أنس التي ربته على الإسلام، وأنشأته على الإيمان وحب رسول الله.

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

عزيزة هل انتهت قصة أم سليم يا جدي؟

مؤثر: موسيقا مؤثرة..

الجد: لا.. فقد جاءها أبو طلحة يخطبها، وكان أبو طلحة رجلاًً غنياً، ولكنه مشرك فقالت له أم سليم:

أم سليم: يا أبا طلحة: ألست تعلم أن إلهك الذي تعبده حجر لا يضرك ولا ينفعك؟ أو خشبة تأتي بها إلى النجّار فينجرها لك، وهذه الخشبة تنبت في الأرض، وينجرها لك حبشي بن فلان؟

الجد: فغضب منها أبو طلحة، وتركها وانصرف، ولكنه جاءها في اليوم التالي فقالت له:

أم سليم: أما تعلم –يا أبا طلحة- أن آلهتكم التي تعبدونها، قد نحتها لكم عبيد فلان وفلان، وأنكم لو أشعلتم فيها النار لاحترقت؟

الجد: فهزّت هذه الفكرة عقل أبي طلحة وقلبه، وصار يسأل نفسه:

أبو طلحة: هل يحترق الرب؟ كيف تحترق الآلهة؟ نحن نخاف من نارها، وهي تحترق بنارنا!

الجد: ثم ما لبث أن أعلن إسلامه.

أبو طلحة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.

البنتان: الله أكبر.. الله أكبر..

الجد: وقرر أبو طلحة أن يهب ثروته وأملاكه كلها إلى  أم سليم لأنها أعطته ما هو أثمن من المال.. أعطته الإيمان بالله تعالى، وحررته من عبادة الأصنام، وأعادت إليه عقله، أعطاها كل ما يملك مهراً لها، لتتزوجه.

عزيزة: هنيئاً لها، وهنيئاً له.

الجد: ولكنها أبت أن يكون مهرها شيئاً من ماله.. رضيت أن يكون مهرها إسلامه..

البنتان: الله أكبر.. الله أكبر..

الجد: وأم سليم هذه يا بناتي، شهدت مع رسول الله..

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

الجد: غزوة أحد، وكانت تداوي الجرحى، وتسقي العطشى، وشهدت مع النبي غزوة حنين، وكانت حاملاً بابنها عبد الله بن أبي طلحة، وكانت تتحزّم بخنجر، وقالت للرسول القائد:

الجميع: صلى الله عليه وسلم.

الجدد: (متابعاً) عندما سألها عنه، عن الخنجر:

أم سليم: يا رسول الله، أتحزّم بهذا الخنجر لأبعج به بطن أيّ مشرك يقترب مني، ولأقتل به الذين يقاتلونك، والذين يفرّون عنك من المعركة، فهم يستحقون القتل.

عزيزة: الله أكبر! ما أروعك أيتها المجاهدة العظيمة.

الجد: والآن –يا بناتي- هيا إلى الوضوء، فقد وضع المؤذن كفّه على أذنه وخدّه.. هيا..