الخاتم

الأستاذ: علي أحمد باكثير

الخاتم

الأديب الكبير الأستاذ: علي أحمد باكثير

-1-

( موكب الخليفة هارون الرشيد يسير)

صوت : (يرتفع من خلال الموكب) يا أمير المؤمنين.. يا أمير المؤمنين عندي وديعة لك.
الرشيد : أفسحوا الطريق لهذا الرجل.
أصوات : أفسحوا الطريق. أفسحوا الطريق.
الصوت : السلام عليك يا أمير المؤمنين.
الرشيد : وعليك السلام. ماذا وراءك؟
الصوت : عندي وديعة لك يا أمير المؤمنين.
الرشيد : وديعة؟
الصوت : أجل.. هذا الخاتم يا أمير المؤمنين كلفت أن أسلمه إليك.
الرشيد : (في صوت متهدج) ويلك من أين جئت بهذا الخاتم؟
الصوت : من صاحبه يا أمير المؤمنين.
الصوت : تعرف صاحبه؟
الصوت : نعم يا أمير المؤمنين.. هو الذي كلفني بإيصاله إليك.
الرشيد : (لرجاله) أركبوا هذا الرجل معكم. وليمثل أمامي في القصر.
أصوات : سمعاً يا أمير المؤمنين.
(
الموكب يستأنف سيره)

-2-

 (في قصر الخليفة)
الرشيد : هلم أدن مني يا رجل.
الرجل : لبيك يا أمير المؤمنين.
الرشيد : ما اسمك ومن أين قدمت؟
الرجل : أنا عبد الله بن الفرج قدمت من البصرة يا أمير المؤمنين.
الرشيد : تقول إنك تعرف صاحب الخاتم؟
عبدالله : نعم.. هو أحمد السبتي.
الرشيد : أحمد السبتي؟
عبدالله : نعم.. هكذا يدعونه هناك.
الرشيد : أين؟
عبدالله : بالبصرة.
الرشيد : هو الآن بالبصرة؟
عبدالله : كان يا أمير المؤمنين بالبصرة.
الرشيد : وأين هو الآن؟
عبدالله : أطال الله بقاءك يا أمير المؤمنين. قد توفى إلى رحمة الله.
الرشيد : توفى؟
عبدالله : نعم أعظم الله أجرك فيه يا أمير المؤمنين وأحسن عزاءك.
الرشيد : لكن صِفْ لي نعته أولاً يا ابن الفرج.
عبدالله : شاب يا أمير المؤمنين في حدود العشرين.. مديد القامة عريض المنكبين. أقنى الأنف. أشهل العينين.
الرشيد : ويلك ما بالك تحد النظر إلي؟
عبدالله : معذرة يا أمير المؤمنين. لقد راعني شبهه الكبير بك ولولا أنه خفيف اللحم لقلت إنه صورة منك.
الرشيد : حسبك يا هذا.. إنه هو. لا حول ولا قوة إلا بالله. إنا لله وإنا إليه راجعون. واهاً عليك يا أحمد. واهاً عليك إلى الأبد.
عبدالله : هو ابنك يا أمير المؤمنين؟
الرشيد : نعم.. هو أول مولود لي وأكرمه علي. ألم يخبرك هو بذلك يا عبدالله؟
عبدالله : لا يا أمير المؤمنين.. لم يخبرني هو بذلك وإنما أخبرتني الحاجة خديجة الحموية الذي كان مقيماً عندها.
الرشيد : ومن تكون هذه الحاجة؟
عبدالله : هذه امرأة تقية صالحة قد انقطعت في منزلها للعبادة والنسك وقد علمت أنه نشأ وتربى عندها منذ الصغر.
الرشيد : إنك لتعلم عنه الكثير.. حدثني كل ما تعرف عنه.. حدثني كيف عرفته؟
عبدالله : هل لك أن تعفيني يا أمير المؤمنين؟
الرشيد : فيم ويلك؟
عبدالله : استحي يا أمير المؤمنين أن أقص عليك ذلك.
الرشيد : بل أرو لي قصته يا عبدالله فإن ذلك يهمني.
عبدالله : هل تصدق يا أمير المؤمنين أنه كان بناءً جصاصاً يعمل في منازل الناس بالأجرة؟
الرشيد : (في أسى) ويحه، حّدث يا عبد الله. كيف عرفته؟
عبدالله : احتجت يوماً يا أمير المؤمنين إلى رجل يرم لي شيئاً في الدار فخرجت إلى ساحة البنائين والجصاصين فوجدت شاباً مصفر الوجه يحمل أدواته في زنبيل كبير.
.........
عبدالله : أنت جصاص؟
أحمد : نعم.
عبدالله : بكم تعمل عندي اليوم؟
أحمد : بثلاثة دراهم.
عبدالله : هذا كثير. خذ لك درهمين.
أحمد : التمس غيري أحسن الله إليك.
عبدالله : إني أراك ضعيف الجسم.
أحمد : سترى عملي فيعجبك إن شاء الله.
عبدالله : هلم معي.
أحمد : على شريطة.
عبدالله : ما هي.
أحمد : إذا كان وقت الظهر وأذن المؤذن خرجت وصليت في المسجد جماعة ثم رجعت وكذلك أفعل في العصر.
عبدالله : لكن..
أحمد : لا تخف.. لن يشغلني حق الله عن حقك.
عبدالله : قد قبلت شرطك فهلم معي..

*  *  *

عبدالله : وانقضي النهار يا أمير المؤمنين فوجدته قد عمل ما يعدل عمل رجلين فأردت أن أزيده في الأجر فأبى إلا أن يأخذ ما اشترط فوالله يا أمير المؤمنين لقد عجبت من أمره.
الرشيد : ثم ماذا يا عبدالله؟
عبدالله : فصرت ألتمسه يا أمير المؤمنين كلما عنت لي حاجة. ودللت أصحابي عليه ليعمل عندهم فيحمدونه إلي ويثنونه على عمله.. إلى أن جاءني ذات يوم ليعمل عندي وكان ذلك في شهر رمضان فأنكرت ضعفه وشحوب وجهه.

*  *  *

عبدالله : أراك اليوم تعباً يا أحمد فانصرف الساعة يا بني.
أحمد : كلا يا سيدي.. ليس بي شيء وإنما هذا من أثر الصيام.
عبدالله : بل تنصرف يا بني.
أحمد : إذا كنت لا ترغب في عملي فسأعمل عند غيرك. فإني بحاجة إلى الأجر.
عبدالله : كلا لا تعمل اليوم البتة وسأعطيك أجرك كاملاً.
أحمد : قد علمت يا سيدي أنني لا أقبل الصدقة.

*  *  *

عبدالله : فتركته يعمل يا أمير المؤمنين فلما كان الظهر تفقدته فوجدته جالساً يتفصد عرقاً وترتعش أوصاله.
عبدالله : ألم أقل لك يا بني ألا تعمل اليوم؟
أحمد : هل لك يا سيدي أن تصنع معروفا؟
عبدالله : نعم.
أحمد : احملني إلى منزلي بدرب الحسن البصري عند الحاجة خديجة الحموية فإني أخشى أن أموت قبل أن أراها.
عبدالله : فحملته على دابة وسقتها حتى بلغت به المنزل الذي يريد فتحامل علي حتى دخلنا المنزل. فاستقبلتنا الحاجة خديجة الحموية فلما رأت ما به قادته إلى فراشه فأضجعته عليه.
الحاجة : ألم أقل لك يا بني ألا تعمل اليوم.
أحمد : لا بأس يا أماه.. لا أحب أن ألقى الله وأنا عاطل.
عبدالله : خذي يا سيدتي. هذا أجر ما عمل عندي اليوم.
أحمد : كم.
عبدالله : ثلاثة دراهم.
أحمد : كلا يا أماه لا تأخذي منه غير درهم ونصف. أجر نصف يوم. جزاك الله خيراً يا عبد الله بن الفرج إذ أوصلتني إلى داري فهل لك في معروف آخر تصنعه لي؟
عبدالله : حبا وكرامة يا بني.
أحمد : جزاك الله خيراً.. هذا رجل صالح أمين يا أماه وقد رأيت أن أعهد إليه بوصيتي إذا أذنت.
الحاجة : افعل يا بني.
أحمد : أين الخاتم يا أماه؟
الحاجة : ها هو ذا يا بني.
أحمد : أدن مني يا عبد الله بن الفرج. إذا أنا مت فخذ هذا الخاتم معك إلى بغداد واجتهد أن تسلمه للخليفة هارون الرشيد.
عبدالله : هارون الرشيد؟
أحمد : نعم.  أيشق عليك ذلك؟
عبدالله : لا ولكن كيف لي بالوصول إليه؟
أحمد : أنظر يوم يركب الخليفة فقف له في موضع يراك فأره الخاتم فإنه سيدعو بك ويكرمك فإذا خلوت به فقل له يقرئك صاحب الخاتم السلام ويقول لك...
الرشيد : ويقول لك ماذا؟
عبدالله : اعفني يا أمير المؤمنين.
الرشيد : بل تقول..
عبدالله : ويقول لك. ويحك لا تموتن على سكرتك هذه فإنك إذا مت على سكرتك هذه ندمت وطال ندمك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

*  *  *

زبيدة : يحزنني يا أمير المؤمنين أن تحزن كل هذا الحزن لموت ولدك.
الرشيد : دعيني يا زبيدة.. فوالله لو بكيته طول الأبد ما قضيت حق الحزن عليه. لقد كان يعمل جصاصاً بالدرهم والدرهمين وعبيدي في لقصر يأكلون اللحم والحلوى.
زبيدة : هو الذي أختار لنفسه تلك العيشة فما ذنبك أنت؟
الرشيد : وددت لو استمعت لنصحه يوم قدم علينا في القصر.
زبيدة : أراد منك أن تسير سيرة عمر بن عبدالعزيز فهل كان ذلك في إمكانك؟
الرشيد : كان علي أن أسايره وأتلطف معه ولكني أغريت به رجال القصر فامتنعوا عن الحديث معه ومنعوا الناس من الاتصال به حتى ضاق بذلك ذرعاً فهرب من القصر واختفى.
زبيدة : ما صنعت غير ما اقتضته مصلحتك ومصلحة الدولة أفكنت تاركة يقيم النكير عليك في العلانية ويثير الناس عليك؟
الرشيد : بل كنت أنت تحرضينني عليه خشية أن أجعل له ولاية العهد مكان ابنك.
زبيدة : يا أمير المؤمنين هل كنت ترى ناسكاً متشدداً مثله يصلح لولاية العهد؟ إذن لجعل أول همة القضاء على ملك آل العباس وإذن لثار به بنو أبيك فقتلوه.
الرشيد : إني راحل غداً إلى البصرة لأزور القبر الذي ضم  رفاته وأترحم عليه.
زبيدة : افعل يا أمير المؤمنين لعل ذلك يخفف عنك ما بك.
الرشيد : ولأزور أمه كذلك.
زبيدة : أمه؟ ألم يخبرنا هو أنها قد ماتت؟
الرشيد : اطمئني يا زبيدة فإن الأم التي أنجبته والتي كنت تغارين منها قد ماتت وإنما أعنى تلك المرأة العجوز الصالحة التي ربته وتبنته.
زبيدة : بل تريد أن تلقاها فتعرف منها قصة أم أحمد حبيبة قلبك.
الرشيد : الله منكن. تغار إحداكن من الضرة حتى بعد أن يواريها التراب.
زبيدة : هذه ليست كالضرائر الأخر يا هارون.. إنك لم تسل حبها ولا الحنين إليها قط.
الرشيد : (يتنهد نهدة خافته) آه.

*  *  *

الرشيد : أين قبره يا عبدالله بن الفرج؟
عبدالله : من هنا يا أمير المؤمنين.. في مقابر عبد الله بن مالك.
الرشيد : صه. لا تدعني هكذا.. لا أريد أحداً أن يعرف من أنا.
عبدالله : معذرة يا..
الرشيد : هارون.
عبدالله : معذرة يا هارون فقد سهوت.
الرشيد : لا عليك. دلني الآن على قبره. انظر. إن يصدقني قلبي فذاك قبره!
عبدالله : أجل هذا قبره وهذا قبر والدته وهذا الشاهد الذي عليه مكتوباً فيه اسمه.
الرشيد : (يتلو بصوت يخنقه البكاء) هذا قبر الفقير إلى رحمة الله أحمد السبتي توفى يوم الأربعاء السابع عشر من شهر رمضان..

*  *  *

عبدالله : لقد بكيت كثيراً على القبر.
الرشيد : هذا خير لي يا ابن الفرج. لا أريد أن يغلبني الجزع في حضرة الحاجة خديجة الحموية.. أين منزلها.. ألم يزل بعيداً؟
عبدالله : لا.. قد اقتربنا منه. هذا درب الحسن البصري.
الرشيد : ويح أحمد ابني.. كان يدرج في هذا الحي.

*  *  *

الحاجة : مرحباً بك ادخل يا عبدالله ابن الفرج.
  
حمد الله على السلامة. هل بلغت وصية ابني؟
عبدالله : نعم.
الحاجة : جزاك الله خيراً.
عبدالله : جئتك يا سيدتي بضيف معي. بوالد أحمد السبتي.
الحاجة : مرحباً بك وبضيفك. مرحباً بك يا أمير المؤمنين. هل قدمت لزيارة قبر ابنك؟
الرشيد : نعم يا سيدتي وقد زرته مع عبدالله بن الفرج.
الحاجة : وزرت القبر الذي بجانبه.
الرشيد : نعم زرت قبر أمينة رحمها الله.
الحاجة : رحمة الله عليهما. لقد كانا خير أم وخير ولد. لقد زهدا في الدنيا وابتغيا الدار الآخرة والدار الآخرة خير وأبقى.
الرشيد : الآن علمت يا سيدتي من أين اقتبس أحمد زهده وتقواه.
الحاجة : من والدته أمينة يا أمير المؤمنين. فقد كانت ناسكة زاهدة.
الرشيد : لعل لك يا سيدتي الحاجة أن تحدثيني كيف عرفت أمينة وكيف اتصلت أسبابها بأسبابك.
الحاجة : حباً وكرامة يا أمير المؤمنين فإن حديث أمينة لحبيب إلى نفسي وإن سيرتها لمن أجمل سير المؤمنات الصالحات. كان ذلك يا أمير المؤمنين منذ خمس وعشرين سنة. طرق بأبي ذات ليلة ففتحته فإذا فتاة رائعة الجمال وعلى وجهها آثار الحزن.
أمينة : أأنت الحاجة خديجة الحموية؟
الحاجة : نعم. ادخلي يا بنيتي. أدخلي. (يسمع غلق الباب)
الحاجة : من تكونين وماذا تريدين؟
أمينة : أنا يا سيدتي امرأة هاربة من الدنيا وفي بطني جنين يريد أن يخرج إلى الدنيا فهل لك أن تؤويني عندك أقوم بخدمتك وأتأسى بصلاحك حتى أضع مولودي؟
الحاجة : وأين أهلك يا بنيتي؟
أمينة : لم يعد لي أهل. كنت أعيش مع جدة لي فماتت.
الحاجة : هنا بالبصرة؟
أمينة : لا يا سيدتي في ضاحية من ضواحي بغداد.
الحاجة : إذن فأنت غريبة؟
أمينة : نعم.
الحاجة : ما اسمك يا بنيتي؟
أمينة : اسمي أمينة.
الحاجة : أنت يا أمينة على الرحب والسعة.
أمينة : جزاك الله خيراً يا سيدتي. سترين مني إن شاء الله ما يسرك.
الحاجة : وهكذا يا أمير المؤمنين نزلت عندي ولم ألبث أن أحببتها لتقواها وصلاحها واتخذتها بمنزلة ابنتي ثم وضعت غلامها فسميناه أحمد ولما أيفع عهدنا إلى أحد البنائين ليعلمه صناعة البناء وما كنت أعلم أنه ابن هارون الرشيد أمير المؤمنين.
الرشيد : كأنها لم تخبرك بقصتها كاملة؟
الحاجة : لا يا أمير المؤمنين لم تخبرني في أول الأمر ولم أشأ أن أسألها لئلا أحرجها فقد ظننت ـ استغفر الله ـ أنها ألمت بذنب فأرادت أن تتوب فقلت لنفسي: هذا أفضل عمل عند الله ويقينا على ذلك إلى أن كان مرضها الذي ماتت فيه فدعتني أنا وأحمد فجلسنا حول فراشها.
أمينة : لقد آن لي اليوم يا سيدتي أن أفضى إليك باسم والد أحمد وأنت يا أحمد يجب أن تعرف اليوم من أبوك قبل أن أموت.
الحاجة : استريحي يا أمينة.لا تجهدي نفسك.
أمينة : لن تسمعي يا سيدتي إلا خيراً.
أحمد : لقد أخبرتني يا أماه. أن اسم أبي هارون وأنه تاجر من بغداد وأنه ذهب في رحلة فلم يعد.
أمينة : أجل يا بني.. اسمه هارون. وقد زعم لي حين تزوجني أنه تاجر من بغداد ثم تبين لي بعد ذلك أنه ابن المهدي وأنه ولي الخلافة فتلك هي الرحلة التي لم يعد منها إلي...
الحاجة : تعنين أنه هارون الرشيد أمير المؤمنين؟
أمينة : نعم.. وهذا خاتمه الذي تركه عندي فاحفظيه عندك يا سيدتي حتى يبلغ أحمد مبلغ الرجال فإذا شاء أن يزور والده فليحمل إليه هذا الخاتم فإنه سيعرفه.

*  *  *

الحاجة : وتوفيت أمينة يا أمير المؤمنين وطفق أحمد يلح على أن آذن له ليرحل إليك فكنت استأنيه حتى يبلغ مبلغ الرجال إلى أن جاءني ذات يوم.
أحمد : دعيني يا أماه أرحل إلى أبي فإني اليوم رجل.
الحاجة : أخشى يا بنى ألا تعود إلي.
أحمد : بل أعرف ماذا تخشين يا أماه. إنك تخشين أن يفتنني ما عند أبي من الملك والدنيا فأنسى الله والدار الآخرة.
الحاجة : أجل يا بنى إني أخشى عليك ذلك.
أحمد : اطمئني يا أماه فإن ذلك لن يكون. إنما أريد أن أذهب إلى أبي لأعظه وأنصحه لعل الله ينفعه بموعظتي فيكون كالخليفة العادل الزاهد عمر بن عبد العزيز.
الحاجة : فلم يسعني يا أمير المؤمنين إلا أن آذن له فأعطيته الخاتم وزودته ببعض الزاد ورحل ثم كان منه عندك ما كان.
الرشيد : أجل يا سيدتي لقد أردت أن أجعل له ولاية العهد وأراد هو أن يحملني على أن أسير سيرة عمر بن عبد العزيز. أردت له الدنيا وأراد لي الآخرة ولما لم يجد عندنا ما أحب غادر القصر دون أن يودعني وأرسلت في طلبه فلم يعثر له على أثر حتى جاء عبدالله بن الفرج يخبره.
الحاجة : عاد إلى حينئذٍ يا أمير المؤمنين وأخبرني بكل ما حدث.
الرشيد : ترى ماذا قال لك؟
الحاجة : قال لي والدموع في عينيه.
أحمد : إن أبي يا أماه لم يسمع لوعظي وإن رجال القصر كانوا جميعاً إلبا واحداً علي وليس فيهم من يرجو لله وقاراً.
الحاجة : هون عليك يا بنى.. إن هذا الذي ابتغيته ليس بالأمر الهين وقد أديت أنت ما عليك من النصيحة لأبيك.
أحمد : إني خائف عليه يا أماه من مشهد يوم عظيم ألا أستطيع يا أماه أن أصنع لأبي شيئاً؟ ألا أستطيع أن أنفعه بشيء؟
الحاجة : نعم تتقي الله يا بنى وتعمل صالحاً وتدعو له.
الرشيد : يا ويحه. لقد ظننت أنه ذهب حاقداً علي.
الحاجة : كلا يا أمير المؤمنين لقد كان يحبك حباً جماً.. كان يعمل نهاره ليتصدق بأجر ذلك على الفقراء والمساكين فإذا كان الليل قام يتهجد ويتعبد ولا يكف لسانه عن الاستغفار لله حتى ضعف جسمه فأشفقت عليه من ذلك يا أمير المؤمنين.
الحاجة : ويحك يا بنى.. قد ضعف جسمك فانقطع عن العمل عند الناس فعندي بحمد لله ما يكفيني لنفقتي ونفقتك.
أحمد : ويحك يا أماه. إن الصدقة خير العمل وإن أفضل المال ما يكسبه المرء من عمل يده فدعيني أتصدق بأفضل المال لعل الله يغفر لأبي أمير المؤمنين.
الحاجة : لقد سألتني يا أمير المؤمنين فهل لي أن أسألك؟
الرشيد : حبا وكرامة.
الحاجة : حدثني كيف تزوجت أمينة أم أحمد؟ وكيف تخليت عنها حتى لجأت إلى هنا بالبصرة فقد علمت أنها كتمت هذا السر عني ولم أشأ أنا أن أحرجها بالسؤال.
الرشيد : أجل سأحدثك يا سيدتي بما تحبين. كان ذلك في حياة المهدي أبي رحمه الله عليه وكنت فتى في السابعة عشرة وكنت مغرما بركوب الخيل فبينا أنا أتجول في إحدى ضواحي العاصمة إذ لمحتها أمام كوخها تحلب شاة لها فوقعت من نفسي واستسقيتها فسقتني وأعجبني حياؤها وحديثها وجعلت أتردد عليها كل عيشة فلم أزدد إلا حباً لها وإعجاباً بجميل خلقها فزعمت لها ولأهلها أني تاجر أتنقل في البلاد وتزوجتها سراً من أبي لأنه كان قد سمى لي زبيدة بنت عمي. وصرت أختلف إليها إلى أن تزوجت زبيدة ومات المهدي ووليت الخلافة من بعده فشغلني ذلك عنها زمناً حتى اشتقت إلى لقائها فسريت إليها متنكراً لأكشف لها حقيقة حالي وأدعوها إلى الإقامة في القصر.
أمينة : ويحك يا حبيبي ماذا قطعك عنا طوال هذه المدة؟
الرشيد : لن أنقطع عنك بعد اليوم يا أمينة.ستقيمين معي في قصري ببغداد.
أمينة : أوقد اشتريت لك قصراً ببغداد.
الرشيد : ما اشتريت يا أمينة بل ورثته عن أبي.
أمينة : لا حول ولا قوة إلا بالله. أوقد توفى أبوك دون أن أعلم؟
الرشيد : بل سمعت بوفاته يا أمينة.
أمينة : لا والله يا حبيبي. من أين لي ذلك وأنا لا أعرفه. ولا أعلم إلا أن اسمه محمد بن عبد الله.
الرشيد : ما من أحد في البلاد إلا سمع بموته.
أمينة : ماذا تعني يا هارون؟
الرشيد : ألم تسمعي بوفاة المهدي أمير المؤمنين.
أمينة : بلى.
الرشيد : فهو أبي.
أمينة : أبوك؟
الرشيد : نعم. وأنا هارون الرشيد.
أمينة : (نشيجها باكية).
الرشيد : ما بالك تبكين يا حبيبتي؟ ألا يسرك أن يكون زوجك أمير المؤمنين؟
أمينة : لا.
الرشيد : فيم يا أمينة؟
أمينة : قد فقدتك يا هارون فلم تعد لي.
الرشيد : ماذا تعنين؟
أمينة : أنت زوج زبيدة بنت جعفر.
الرشيدة : وزوج أمينة قبل زبيدة.
أمينة : هيهات. هي ابنة عمك ومن نسبك وحسبك.
الرشيد : لكنك حبيبتي الأولى.
أمينة : هيهات يا هارون أن تصفو لي بعد اليوم.
الرشيد : لا حق لك يا أمينة أن تجحدي حبي لك.
أمينة : فأين تريد أن تنزلني؟
الرشيد : في القصر عندي.
أمينة : لتضار زبيدة بي؟
الرشيد : لا شأن لك بزبيدة أنا أعرف كيف أرضيها.
أمينة : هيه. أدركت الساعة بعض نيتك.
الرشيد : ماذا تعنين؟
أمينة : أنشدك الله يا هارون بحق الحب الذي نعمنا حيناً في ظله إلا ما أخبرتني فصدقتني. هل تستطيع أن تجعل لي في قصرك نفس المنزلة التي لزبيدة ابنة عمك؟
الرشيد : ......؟
أمينة : ما بالك لا تجيب؟ أجب.
الرشيد : أما هذا فلا ولكني سأنزلك..
أمينة : اسمع يا هارون. إني تزوجتك دون أن أعلم أنك ابن المهدي أمير المؤمنين وإنما كنت أظنك من سواد الناس ولو قد علمت أنك من بيت الخلافة ما تزوجتك فسرحني الآن سراحاً جميلاً.
الرشيد : كلا لن أسرحك فإني أحبك.
أمينة : فأبقني حيث أنا  وزرني حين تشاء.
الرشيد : لا يا أمينة لم يعد ذلك في إمكاني اليوم.
أمينة : بل تخشى من زبيدة أن تعلم أن لك زوجة أخرى تختلف إليها.
الرشيد : ويلك قد أكثرت من ذكر زبيدة.
أمينة : أو يغضبك أن أذكرها؟
الرشيد : لا غرو فهي ابنة عمي.
أمينة : فاهنأ بها إذن وطلقني.
الرشيد : كلا لن أطلقك وسأبعث من يحملك حملاً إلى القصر.
أمينة : أذكر يا هارون أنني حرة ولست بأمه.
الرشيد : أنا أمير المؤمنين.
أمينة : وأنا لا أبالي.

*  *  *

الحاجة : وأرسلت إليها يا أمير المؤمنين؟
الرشيد : كلا يا سيدتي. لقد ندمت على أني أغضبتها فرجعت إليها بعد أيام لأسترضيها وأعاود إقناعها بقبول ما اقترحت فوجدت الكوخ خالياً وأرسلت في البحث عنها فلم يقعوا لها على أثر.
الحاجة : وكنت تعلم أنها حامل.
الرشيد : نعم وكان ذلك مما ضاعف قلقى عليها وظلت حسرة في نفسي طوال هذه السنين.
الحاجة : يرحمها الله. كان حبها الشديد لك هو الذي دفعها إلى ما فعلت.
الرشيد : آه لو كنت أعلم أنها مقيمة عندك.
الحاجة : تلك مشيئة الله يا أمير المؤمنين ليقضي أمراً كانت مفعولاً.

(ستار الختام)