القابض على الجمر

د. كمال يونس

تأليف: رفقي بدوي

إعداد مسرحي: د. كمال يونس

[email protected]

المشهد الأول

نور خافت ..طرقات نحاسية.. شاشة بخلفية المسرح.. سلويت لخيالات أشباح.. صوت انفجارات.. ضحكات لنسوة متهتكات ..صوت قرع كؤوس.. أصوات مبارزة بالسيوف ..يظهر عدة شياطين يحيطون بامرأة تهدهد طفلها.. يقف أمامها رجل متأنق..يوسوس في أذنها ..ثم يضع عقد نقود حول عنقها.. ويستمر في وسوسته فتسلمه طفلها.. يعطيه لشيطان آخر.. فيعطيه كل من الشياطين للآخر بدوره ..تتعالى ضحكاتهم مع صراخ الطفل الذي لا تأبه المرأة به.. يمسك الشيطان بيدها ليسلمها للشيطان ..المرأة تصاب بالذهول حين يكشف الرجل عن نفسه فتجده شيطانا مثلهم.. تستدير في لهفة باحثة عن طفلها ..يلقيه كل من الشياطين للآخر..وتدور.. وتدور ..وتستمر في محاولة إنقاذ طفلها.. وهم يدورون حولها.. وتدور الإضاءة في المسرح ..ثم تتركز على رجل نائم يرتدى عباءة متسخة.. فيها بقع حمراء وأخرى سوداء.. ديكورات المكان توحي بالسجن ..تزداد الإضاءة تدريجيا ببطء ..الرجل يتقلب في نومه.. صوت ضربات قلب متلاحقة.. الرجل ينتفض من نومه صارخا والمرأة في آن واحد.. تقع المرأة على الأرض ..وتظلم الخلفية ..فيقوم منزعجا فتختفى المرأة والشياطين.

الرجل : أضغاث أحلام.. ألا يكفينى ما أنا فيه..من ذا ينقذنى من حلمى المزعج.. آه

 ..فى نومى مغبون .. ويقظتى تدفعنى للجنون..( يتنهد ) آه.

 ( صوت هدير الأمواج.. صوت موسيقى يوحي بالغموض.. دخان يتصاعد

 بالتدريج ثم يتكاثف ويظهر شيخ وقور.. لحيته بيضاء ..يقبض بكفيه على

 كرتين لونهما أحمر متوهج.. يتأمله الرجل بذهول )

الرجل : حلم أم حقيقة ما أرى..( يفرك عينيه بيديه ) لعله وافد جديد.. ( يهز رأسه )

 ولكنها ضيقة رغم أتساعها .. ولكن ما فتح الباب !!..ولا انشق عنه سقف!!

 ..( ويقترب من الشيخ في حذر يتحسسه ) أتسلل من بين القضبان؟!..أم حمله

 الهواء ( ويتحسسه ثانية .. وتلفت نظره الكرتان ) ما هذا؟! ( يقترب ..

 ويقرب إصبعه ثم يسحبه في جزع ) ما هذا؟!.. أتقبض بكفيك على الجمر؟!..

 ( ثم يدفعه من مرفقيه كي يلقى بالجمر.. والشيخ ثابت في مكانه لا يتحرك )

 أيها الشيخ.. أفق.. كفك ستحترق.

الشيخ : ( يهز رأسه في أسى ) يا ليتنى.. يا ليتنى.

الرجل : ( متعجبا ) أفق.. ألق بالجمر من يدك.. ستحترق.. ستحترق.

الشيخ : ( صوته مختنق بالبكاء ) يا ليتنى.. يا ليتنى فأصفو واصطفى.

الرجل : ( متعجبا ) تصفو.. فتصطفى.. ( ويهز رأسه ) منذ متى وأنت القابض على

 الجمر؟!.

الشيخ : منذ أن لامتنى نفسى.. إيه يا زمن الملامة.

الرجل : أتعذب نفسك؟!!.

الشيخ : لا.. لا.. بل أؤدبها.

الرجل : لا.. فأنت تحرقها.. لفحني الجمر في كفيك.. وأراك تقبض عليه بقوة ..قل

 لي خبرنى.. بما تحس الآن؟!.

الشيخ : من قبض أحس.

الرجل : ياللعجب.. أذهبت عقلى أو ما تبقى منه ..يلفحنى اللهب ويقول لى من قبض

 أحس.

الشيخ : أما أنا فما عاد يلفحنى.. كم تمنيت أن ترتقى خشيتى على وقود من ندمى

 و ملامتى.

الرجل : والمحصلة!!.. ما المحصلة من ذلك ؟.

الشيخ :الاطمئنان فى الزمن.

الرجل : كيف؟!.. متى؟.

الشيخ : حين تسكن الطمأنينة قلبى.

 ( يظلم المكان الوجود فيه الرجل والشيخ.. وتنطلق ضحكة المرأة .. ورقصة

 بالخلفية بالسلويت تشترك فيها المرأة والشياطين ..تعبر عن تدلل المرأة على

 الرجل وغوايته.. ثم التمنع عليه.. وتتركه لتذهب إلى رجل آخر ..فيقبع الأول

 بدوره في مكانه كسيف البال.. ويجلس القرفصاء.. وسط ضحكات الشياطين

 المشتركين في الرقصة.. ويعود الضوء تدريجيا على الشيخ والرجل )

الشيخ : هل أحببت؟.

الرجل : ( مشيحا بيده ) مرات ومرات.

الشيخ : ( يهز رأسه ) لا.. فأنت ما ذقت له طعما.

الرجل : كيف هذا؟!!..أقول لك مرات ومرات .. وتقول لى ما ذقت له طعما.

الشيخ: لو ذقته لما كان ذا الحال حالك.

الرجل: أى غموض هذا؟!..أى زمن هذا الذى تقابلنا فيه؟!.

الشيخ : الزمن.. أى زمن تقصد؟.

الرجل : وهل هناك غيره.. تلك الأيام التى أحياها.. ما بين ماض وحاضر ومستقبل.

الشيخ : تقصد زمن خلق الأحداث.

الرجل : ( متعجبا ) زمن خلق الأحداث!!.. ماذا تعنى؟!.

الشيخ : لما كنت في الأحداث فأنت منته بنهايتها.

الرجل : وإن لم أك فيها؟.

الشيخ : إذن فأنت المعلق فى الخلود.

 الرجل : لقد عشت حتى الآن خمسين عاما.

الشيخ : ( مبتسما مربتا على كتفه ) أما أنا ..فلم أعش سوى عام واحد.. رغم بلوغي

 المائة.

 ( يخفت الضوء جدا على مكان تواجد الشيخ والرجل صوت غراب ..لحن جنائزي

 مع سلويت لشواهد قبور.. فتهتز يد الشيخ بما فيها من جمر ..ويرتعش مع

 تركيز الإضاءة عليهما.. الرجل يبتعد عنه في خوف )

الرجل : احذر.. احذر.. لئلا يسقط الجمر من يدك فيصيبك ويحرقنى.

الشيخ : أو تدرى ما تلك؟.

الرجل : نعم.. تلك هى المقابر.. دار من رحلوا.

الشيخ : بل هى دار البقاء.

الرجل : كم شدتنى إليها الذكرى.

الشيخ : ستظل فى الدنيا طالما هى ذكرى.

الرجل : وأنت .. ما الذى أتى بك هنا؟.

الشيخ : لىّ فيها جسدى.

الرجل : إذن أنت من طين مثلى.

الشيخ : طين يتردد له نفس بين الجوانح.. نفس يدخل.. نفس يخرج..ولكن.( يتنهد تنهيدة طويلة )

الرجل : لكن ماذا؟.

الشيخ : أقفز أحيانا إلى ناحية الضد.

 ( موسيقى فيها تعبير عن التأمل)

الرجل : أظننى أعرف كيف..فحين يستكين جسدى..يسّاقط منى الإحساس.. فأكتشف موته.

الشيخ : أما أنا فتخاطبنى روحى.. أن أنفض جسدك.. فأفصد منى الصديد.. شهوتى.. شقوتى.. نقائصى.. وأصرخ .. أيتها الروح.. أيتها الروح..احملينى لأعلى.. لأعلى.

الرجل : أما أنا فلا أستطيع أن أزحزح قدمى.. وحين تتأجج الشهوة فى عروقى.. يأتلف الضدان.. أرحل عبر أوردتى.. أنزفنى قطرة قطرة.. طفلا.. طفلة.. فيثبتنى جسدى بالأرض.

الشيخ : دع الحجر الذى فى مقلتيك يتفتت.

الرجل : دلنى.

الشيخ : اعصره.. فتسّاقط الغشاوة عن عينيك.. حتى تغسلك الدموع.

الرجل : إذا تفتتت الحجر .. طمس ترابه نور بصرى.

الشيخ : بل اضغط بجفنيك على ترابك واعتصره..تجلى الدموع عينيك.

الرجل : فإن لم تر ببصرك.. رأيته ببصيرتك.. ترقرق.. أحجر أنت؟.

( موسيقى )

الرجل : ( فى يأس ) أخاف الهزيمة.

الرجل : ترقرق.

الرجل : أضعف من بعد قوة ؟.

الشيخ : ذب عشقا فى المعشوق يصير ضعفك قوتين.

الرجل : ( فى دهشة وهو يعد على إصبعين ) قوتين!!.

الشيخ : الأولى تبصرها فى تحنانك.. وقد تخلقت من قسوة الحجر الراسخ فى صدرك.

الرجل : والثانية؟.

الشيخ : قوة من فيضان العشق.

 ( موسيقى وصوت ناى .. والرجل يجلس على الأرض واضعا يده على جبهته )

الشيخ : لا تتجهم .. فكأنك تحمل الدنيا فوق رأسك.

الرجل : ولماذا لا أتجهم.. وأنا أحمل خوفى ورهبتى.

الشيخ : ( مربتا على كتفه ) قم.. قم..هيا.( ويمد يده إليه )

الرجل : لا أقدر.. ذنوبى أثقلت خطوتى.

الشيخ : هيا ..( ويجذبه من يده .. فيقوم الرجل مترددا ) هيا قم.. من هرب من ذنوبه

 هربت منه..فعلى ظهرى حمل أثقل مما تحمل.

( موسيقى )

الرجل : ( فى حركة بانتوميم بطىء تصور عدم قدرته على اللحاق بالشيخ .. صوت الرجل يتردد مع صدى أنفاسه المتلاحقة ) لا.. لا أقدر أن ألحق بك فى خطوك..أو تجرى؟.

الشيخ : هذا ما يعذبنى.. لقد رأيت من يحمل على ظهره أضعاف ما يحمل..وكان يطير.

الرجل : ( في دهشة ) يطير!!..( موسيقى.. يقلد الرجل الطائر.. محركا ذراعيه كالجناحين.. ثم يرسلهما جانبا فى يأس ) يطير!!

الشيخ : نعم يطير يا سجين الشك..

الرجل : كيف؟!.. كيف.

الشيخ : لقد حلق بجناحيه تدفعه نسائم التوبة فطار بسر الغفران.

الرجل : ولكننى أراك تجرى.

الشيخ : كيف؟ ..والجمر ما يزال فى قبضتى .. وأنا المنشغل بك.. والمنشغل بما أحمله على كاهلى.. مما أزيد به حملى حملا.

الرجل : هون عليك.. فأنت أفضل منى حالا.

الشيخ : كيف؟!..وأنا لم أشمل بعد بسر الرضا.

الرجل : كيف؟!.. الجمر ما يزال فى قبضتك .

الشيخ : المنتظر أنا.. أنا المنتظر.

الرجل : ( فى حيرة ) ولكن الجمر ما يزال فى قبضتك.. ألا تشعر به.

الشيخ : المنتظر أنا.. أنا المنتظر.

الرجل : ماذا تعنى؟.. لم أعد أفهمك.. منتظر ماذا؟.. ولماذا؟.. وإلى متى ؟.

الشيخ : حتى أرى البشارة فى الإشارة.

الرجل : رفقا بنفسك.

الشيخ : أخشى أن أضعف.

الرجل : عجبت لك..أتضعف فى الدعة والوداعة؟!!.

الشيخ : فلتلطمنى الأمواج.. فأسقط عن كاهلى حملى.. ليذهب مع الزبد.. فتلتقطه ديدان البحر. فتعود بطانا .. فسبحان الذى أطعمهم من همى.. فأزال عنى غمى.

( ويبكى ويتردد صوت النشيج.. ثم يتصاعد صوت كروان.. مع موسيقى.. ويتصاعد الدخان تدريجيا ليحيط بالرجل )

الرجل : سأصطحبك.. لا تتركنى.. سآتي معك..( الشيخ مستمر في طريقة لا يبالى ) لا تتركنى.. لا تتركني وحدى.. سأصطحبك.

الشيخ : إذا مات أحدنا .. من يصحب الثاني؟.

الرجل : ( مندهشا ) ماذا أفعل ؟!.

الشيخ : لتفعل الآن ما تفعله غدا؟.. ألا خل خدوم؟.. ألا صديق يدوم؟ .. ألا حليف

 وداد؟..( الشيخ يهم بالخروج ) يا باسط.. يا باسط.

الرجل : ( يمسكه من ردائه ) أرجوك لا تتركنى.. خذني معك.. لا تتركنى.. أرجوك.

 ( الشيخ مستمر في سيره.. والرجل ممسك بردائه )

الشيخ : فيض الصبر زاد صحبتى .. وما أنت بالصابر.

( ويخرج الشيخ والرجل لا يستطيع اللحاق به ..فيجلس في مكانه يائسا.. تظلم الإضاءة على الرجل.. ويتردد هذا الإنشاد.. مع ترديد الله .. الله تعلو وتخفت كخلفية لغناء المنشد )

يا باسط يدك بالليل ليتوب مسىء النهار

يا باسط يدك بالنهار ليتوب مسىء الليل

كيف أشقى وحبك زادى، التجأت إلهى إليك

الخائف أنا لذت بك.. ولزم لسانى اسم الباسط.

المشهد الثاني

 ( عاصفة.. صوت الرعد ضوء يمثل البرق.. صوت هطول الأمطار.. إضاءة خافتة مركزة على الرجل.. النائم على الأرض يرتعش ويحاول أن يغطى أذنيه بيديه )

الرجل : آه من ذاك البرد القارس.. والدفء أمنية غالية..آه.. آه.. فأنفاسي باردة

 ..وأطرافى باردة.. والعقل تشتت.. والفؤاد تأجج.. وجفن العين أثقله البرد

 .. أنى لي بقبس من نار؟.

 ( الدخان يتصاعد تدريجيا ..بينما تهدأ العاصفة تدريجيا.. يدخل الشيخ من خلاله.. ممسكا بكل يد كرة بيضاء ..ويسير حتى يقف أمام الرجل الذي لايلحظه.. وفجأة يرفع الرجل رأسه.. ويحملق بعينيه.. ثم يفركهما وهو لا يكاد يصدق.. ثم تتملكه الفرحة ) نعم.. نعم هو أنت ..أنتظرتك طويل.. مرحى.. مرحى ..

 أرني كفيك.. ( يقترب في حذر كي يستدفئ بهما.. وما إن يقترب ويلمسهما إلا ويصيح )

 ما هذا؟!..ما هذا؟!.. أقبض على ثلج.. أيها الشيخ قل لي قبل أن أفقد عقلي.. أو ما تبقى منه في هذا الصقيع ..وأنت تقبض على الثلج بما تحس؟؟.

الشيخ : من قبض أحس ..ومن التمس لمس ..ومن لمس مس ..وبفيض الخاطر أحس.

الرجل : أين كنت.

الشيخ : كنت أناجى كي أنجو.

الرجل : كيف ؟.

الشيخ : أرطب لساني مترنما أوابا.. وقد لزم لساني اسم الباسط.

الرجل : يا باسط.. يا باسط.

الشيخ : ( ينظر إلى السماء ) ها أنا ذا وقد حملني إليك بساط البسط.. وبسره عدت..

 لأجدك مرتعدا.. عاجزا .. على حالك لم تتغير.

الرجل : ( يرتعش ) أن أرتعد من شدة البرد..( يهز الشيخ رأسه أسفا.. فيحدث الرجل

 نفسه ) ها قد عاد لغموضه.. ( ثم يصرخ في الشيخ ) ألم أطلب منك الصحبة؟!

 .. بل توسلتك ورجوتك.. وأبيت.. متلاشيا من أمامي ..كنت تطير وأنا لا

 أقدر حتى على الحبو.. وما من سبيل للحاق بك.. و ها قد مضى وقت طويل

 طويل.. منذ لقائنا الأول.. وقد اشتعل رأسي فكرا.. وغزاه المشيب ..ومر

 عقد وراء عقد.

الشيخ : ماذا كنت تفعل بكل هذا الوقت؟.

الرجل : كنت أتساءل.

الشيخ : وماذا بعد.

الرجل : وتولدت من أسئلتي أسئلة.

الشيخ : ثم ماذا؟.

الرجل : لم أجد جوابا يطمئنني من خوف.

الشيخ : وبعد.

الرجل : وتوقفت عن السؤال.. حتى أريح نفسي وأستريح.

الشيخ : كيف ؟.

الرجل : ركنت إلى الاستكانة .. وكلما أوجعني القلق ..أصعد درجة من درجاتها.

الشيخ : وهل بلغت السكينة؟.

الرجل : السكينة.. السكينة .. إيه يا حلما صعب المنال... لا.. لا لم أبلغها بعد.. بل

 ما خمدت النار التي تشتعل في رأسي و أحشائى.. آه.. آه لكم تمنيت أن تطفأ

 تلك النار التي بداخلى.

الشيخ : و ها أنا قد أتيتك.

الرجل : نعم أتيت بعد كل هذا الانتظار.. أتيت قابضا على ثلج بينما أرتعد.. ولم يعد لدى

 أدنى قدرة على السؤال.. أيها الشيخ.. أفصح.. أو امض في طريقك واتركني

 على حالى.

الشيخ : اقبض قبضة من كفى.

 ( موسيقى يدور فيها الرجل حول الشيخ مذهولا )

الرجل : أقبض قبضة من كفك!!.. ولكن لماذا؟.

الشيخ : أو تدرى ما القبضة؟.

الرجل : ( يهز رأسه بالنفي ) لا.. لا أدرى.

الشيخ : القبضة امتلاك.

الرجل : نعم .. نعم.. هي امتلاك.

الشيخ : والامتلاك انتشاء.

الرجل : القبضة تساوى قبضة.. إذ تفي الشيء حقه وحقيقته.

الشيخ : فلتعلم أن القبضة تدخلك مداخل التضاد.

الرجل : ( في حيرة ) مداخل التضاد.

الشيخ : والتضاد يدخلك مداخل المعارف.

الرجل : إذن ماذا تعنى القبضة على الجمر؟.

الشيخ : القبض على الجمر ارتقاء.

الرجل : وعلى الثلج؟.

الشيخ : القبض على الثلج سلام.

الرجل : وفى السؤال؟ .

الشيخ : بر.

الرجل : والقبض على الحكم؟.

الشيخ : جبروت.. وسبحان مالك الملكوت.

الرجل : وعلى المشتهى؟.

الشيخ : اشتهاء وبلاء.

( الرجل يمد يديه والشيخ يمسح على صدره.. الرجل يختنق.. وتتعالى أصوات قلبه.. مسرعة.. ثم تبطئ تدريجيا .. ويزول الاختناق وتنتظم أنفاس الرجل وتستريح.. يمسك الرجل بيدي الشيخ محاولا التقاط كرتي الثلج.. في بانتوميم بطىء.. وموسيقى مناسبة.. فلا يستطيع .. يتملكه اليأس .. فيقف مكانه متحسرا )

الشيخ : يا مستكين.. لا.. لاتستكن حتى تبلغ الحسرة الحلقوم.

الرجل : الثلج لا يذوب في يديه.. وأنا أرتعد.. أرتعد.

الشيخ : شتان بين قبضات وقبضات.

الرجل :( مستسلما ) صدقت.. صدقت.

( يخرج الشيخ وسط الدخان وتظلم الإضاءة تدريجيا على الرجل الذي يحدث نفسه )

شتان بين قبضات وقبضات.. رأيت من يقبض على سوق.. ومن يقبض على

رقاب العباد.. ومن يقبض على المشتهى.. ومن يقبض على عقول.. ومن

يقبض على آذان فيصمها.

( يسمع صوت طرقات نحاسية .. يختفي الرجل ..ثم يسمع صوت الشيخ وهو يردد في الخلفية يا باسط.. ياقابض.. لا.. لا تستكن حتى تبلغ الحسرة الحلقوم.. لا.. لا .. لاتستكن ..ثم يتردد هذا الإنشاد ويتردد في الخلفية الله.. الله ..القابض الباسط .. تعلو وتهبط على حسب الإنشاد )

لا تستكن حتى تبلغ الحسرة الحلقوم

فما بدر منك لا تخفيه ستائر وغيوم

اقبض ما شئت ففي السماء للأوابين نجوم

ولا تخفى خافية على الواحد القيوم.

المشهد الثالث

( رقصة الضاربين بالسياط ..صوت زئير أسود وأصوات حيوانات ..الراقصون يحملون في أيديهم أسواطا ً..يضربون بها في كل الاتجاهات ..يمين..شمال ..أعلى ..أسفل..أجساد الراقصين ..والرجل يقف في جانب المكان خائفاً يراقب ما يدور حوله في دهشة ..وقبل أن تنتهي الرقصة ..يدخل الشيخ وهو يحمل سوطاً.. يضرب به مثل الراقصين ..الرجل حين يرى الشيخ يتهلل ..ولكنه يقبع في ركنه يتأمل ما يدور حوله ..يصاحب دخوله خروج الراقصين ..ويسمع هذا الإنشاد ..مع الآهات كخلفية صوتية للمشهد )

يا ويلتى ..لا أتحمل ..فكيف يتحملون

حقيقي تلك ..لا أتجمل ..فمن يخدعون

آه من سوط عذاب.. أو نخن مبعدون

أيا نفس اهجعي ..وإن كانوا لا يهجعون

كون شاغلي ..وإن كانوا لا ينشغلون

يا ويلتى لا أتحمل ..فكيف يتحملون

 ( الشيخ يردد هذا الإنشاد كلاما وهو يبكى )

الرجل : ( يقترب منه يتحمسه ..يربت على كتفه ) أجهدت نفسك.. أرفق بها .

الشيخ : وهل ترفقت بي طرفة عين.

الرجل : أنا في انتظارك منذ فترة طويلة ..( والشيخ مستمر في استخدام سوطه ..

 الرجل يصرخ فيه ) ألا تنتهي ؟! ..كفاك ..كفاك .

الشيخ :ما أنا بمنته.. فأنا القائم على هم عكفت عليه بفؤادي المستجير من شر نفسى.

الرجل : أأتعبك الجلد.

الشيخ : لا.. لا لم يتعبني بعد.

الرجل : إذن متى تكف عن هذا؟.

الشيخ : سأظل على حالى طالما يحملني جسدى.

الرجل : ( في ضجر ممزوج بالشفقة ) أنهتكه بجلدك إياه والهواء.

الشيخ : بل أريحه بجلد ذاك الذي استشرى وطغى.. مخافة أن يتسلل لقلبي فيغلفه.

الرجل : إذن قل لي .. أخبرنى.. ما الذي تجلده.

الشيخ : أجلد ذاك الذي استشرى وطغى.. وساقني كالبهيمة في ظلمات وظلمات.

الرجل : أفصح.

الشيخ : أجلد الذي ما أسلم له أحد قياده إلا وهوى.

الرجل : ( يهز رأسه في ضجر وحيرة ويحدث نفسه ) ألغاز.. ألغاز.. ولم أظفر بإجابة

 واحدة..( ثم يخاطب الشيخ ) لاعليك.. رفقا بنفسك ..ألا ترى ..لقد شحب

 لونك.. وهزل بدنك.

الشيخ : البدن حامل.. والمحمول أولى بالرعاية.

الرجل : قل لي .. أترنو الموت ؟!

الشيخ : لو تدرى ما الموت لأدركت حقيقة الحياة ولحملت سوطك كما أحمل.

الرجل : سوطى.. أي سوط.. أنا لا أملك واحدا.

الشيخ : ولماذا؟.

الرجل : لست بحاجة إليه.. ولما الداعي إليه؟!.

الشيخ : حين يكون لك سوطا.. تنكسر الأغلال ..وتنطلق الروح الحزينة سجينة الأبدان

الرجل : ( يشيح بيده للشيخ ) أتهد الجسد وتهلكه؟!!.. كنت أظنك المدرك لقيمة الحياة.

الشيخ : إذن كف عن السؤال.

الرجل : لا.. قطعا لا.. أدرك تماما أنني قد خلقت لأسأل .

الشيخ : وتسأل ..إن أعجبك الكلام فأصمت ..ولو أعجبك السكوت فتكلم.

الرجل : ( في تحد) أخبرني ما الحياة؟.

الشيخ : عجبا.. يسأل عن الحياة من لم يحيا بعد.

الرجل : ألا تراني أمامك.. أمشى.. أتكلم.. أتنفس.

الشيخ : تعسا لمن قضاها جاهلا.. وأقام فيها حائرا.

الرجل : ليتني أعود للنوم.. لا فرق.. فكل ما أمر به أضغاث.. أضغاث مروعة.

الشيخ : الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.. وإذا انتبهوا ندموا.

الرجل : ها قد عدت إلى غموضك رفقا بى.. فأنا لم أعد أفهمك.

الشيخ : من غلقت أمامه أبواب الإدراك.. لا تنفتح له أبواب الفهم.

الرجل : إذن ما الموت؟.

الشيخ : عجبا.. ميت يسأل ميتا.

الرجل : ما الموت؟.

الشيخ : عبور الممر سعيا نحو المستقر.

الرجل : ما الموت؟.

الشيخ : إطلاق السراح من زنزانة الطين.

 الرجل : ما الموت؟.

الشيخ : الموت هو انقضاء المنحة.

الرجل : أفصح .. كلماتك تطيح بعقلى.

الشيخ : الشرح يحتاج تفسير.

الرجل : صدقت.

الشيخ : والتفسير يحتاج تبرير.

الرجل : طبعا. طبعا.. كلام منطقي و بديهي

الشيخ : والتبرير في البديهي مغالطة .

الرجل : ( مهمهما) مغا.. مغالطة.

الشيخ : والمغالطة في مناقضة اليقين.. وتلك حماقة أن تتوقف على الحال التي أنت

 عليها.. فتدبر حالك أيها الميت .. أو فارقنى.( ويعطى الرجل ظهره ويهم

 بالانصراف)

الرجل : ( يلاحق الشيخ ) إلى أين أنت ذاهب.. ( الشيخ مستمر في سيره ) لماذا تتركني؟

 ..فأنا لم أخطىء.. فما كانت أسئلتي إلا رغبة في المعرفة ..أو لرغبة في

 المؤانسة ..أى عذاب هذا؟!فما أنا براغب أن نفترق ..وما أنت بطالب الصحبة

 الشيخ : فلتعلم أن الموت يولد بميلاد الإنسان.. يكبر معه.. ويموت الإنسان بموت

 الموت.

الرجل : لقد فهمت من كلامك أن المرء أيام.. كلما ذهب يوم ذهب بعضه.. لكأنك بكلامك

 هذا تخبرني ..أننى أهدم عمري من يوم أن ولدتني أمى.. وأنا و يا للعجب ..

 كنت أتمنى وأتمنى.

الشيخ : فلتعلم أن الإنسان يولد .. وعمره على امتداده .. يقصر يوما فيوم.. وأمانيه

 تولد صغيرة وكبر شيئا فشىء.. بلا حدود.

الرجل : ( متوسلا ) أرجوك آجرنى.. علمنى.

الشيخ : فلتجر نفسك.. ولتفك رهنك.. فكل نفس مسؤولة .. فمرتهنة.. أو متخلصة

الرجل : وكيف السبيل إلى فك الرهون ؟

الشيخ : فكاك الرهون إنما يكون بقضاء الديون.. فإذا تلفت الرهون.. وجبت السجون.

الرجل : آجرنى..آجرنى..آجرنى.

الشيخ : ليحسن قلبك من تستجير به .. فقف على البساط.. وإياك والانبساط.

الرجل : ما البساط ؟.

الشيخ : ما هو لك.

الرجل : والانبساط؟.

الشيخ : ما عليك .. حصاد فعلك واختيارك.

( ثم يمسك الشيخ بسوطه ويضرب في الهواء حوله يتصاعد الدخان ويخرج من المكان وهو يردد ياقابض.. يا باسط. ويتصاعد في الخلفية الإنشاد الله.. الله.. القابض .. الباسط )

 يا مجير المستجار ولا يجار

ألهمني الدعاء وللدعاء أسرار

ومن رزق الدعاء طاب له الإبحار

ودا وحنا ونجاة من النار

المشهد الرابع (الأخير )

( تظهر على الشاشة بخلفية المسرح حروف الأبجدية متناثرة.. تتحرك في عشوائية.. تصاحبها موسيقى مناسبة.. الرجل يجلس في الركن مكدودا.. تسترعى نظره الحروف ..يتأملها .. يفرك عينيه في دهشة.. يقترب من الشاشة )

الرجل : من أين أتت تلك الحروف المتناثرة من الأبجدية.. أهو لغز؟! أم أحجية؟!!..

 لعلها تكون المسرية عنى في ليلىّ الطويل.

 ( يدخل الشيخ قابضا كفيه.. يهرع إليه الرجل )

الرجل : مرحى.. مرحى.. ها قد أتيت أخيرا.. أرني كفيك.

 ( يفتش فيهما بلهفة متخليا عن حذره السابق )

الشيخ : ( ضاحكا ) أراك لم تعد تخشى ما في قبضتى.. بل وتتعجل رؤيته.

الرجل : لقد انتظرتك طويلا.. والانتظار أشد حرقة..

 ( يحدق الرجل في كفىّ الشيخ.. الشيخ يرفعهما.. وتظهر على الشاشة كفا

 الشيخ وخطوطهما واضحة )

 تلك خطوط كفيك.. أتعنى أن أقرأ لك الكف ..كيف وما أنا بقارئ للكف؟!..

 ( موسيقى.. تتراقص الحروف على الشاشة حتى تستقر على الكفين لتشكل

 كلمة الكلمة.. ينطق الرجل الحروف ويتهجاها)

 ألف.. لام.. كاف..لام.. م.. تاء مربوطة .. أخيرا نعم اتضح الأمر..

 الحروف على كفيك تشكل الكلمة ..أتحسبنى أميا.. نعم .. نعم.. لقد أدركت

 المراد وبلغته.

الشيخ : ( يهز رأسه في أسف ) من منا أدرك المراد وبلغه.. من منا ؟

الرجل : تلك هي الكلمة.. قلت لك أنا لست بأمي ..وتلك هي حروفها انظر.. ألف..

 لام.. كاف..لام.. ميم .. تاء مربوطة.

الشيخ : أفق.. فلقد نطقت الحروف وما أنطقتها.

الرجل :أنا لست بأمي .. وأعلم يقينا أن الكلمة اسم وفعل وحرف.

الشيخ : وأعرف يقينا أن الاسم له.. والفعل له.. والحرف له.

الرجل : شتان بين معرفة ومعرفة.. ويقين ويقين.

الشيخ : الاسم هوالله.. والفعل به القدرة تنطق.. والحرف به وعليه التوكل.

الرجل : أي معرفة تلك.

الشيخ : تلك معرفة تلقيناها عن حي لايموت.. فعلم اليقين.. ما أعطاه الدليل ..وعين

 اليقين ..ما أعطته المشاهدة.. وحق اليقين هو العلم الذي به تتحقق المشاهدة الرجل : كم أنا جاهل جاهل.. كنت أظن الكلمة تتكون من حروف فقط ظاهرة معانيها.

الشيخ : الحروف تحمل معاني فيها للروح تآلف.. الكلمة آلفها استواء.. ولامها لطف.

 وكافها كمال.. ولامها لدنه.. والميم مدد ..والتاء المربوطة بها تتوثق تلك

 المعاني في قلوب العارفين وتثبت.

 ( ينشد هذا الإنشاد وفى الخلفية الصوتية.. ياالله.. مدد.. يا رحمن .. مدد. يا

 سميع. مدد .. يا بصير.. مدد.. يا عليم مدد )

الحروف في دنيا الصفا عرائس

مهرهن اللارتقا في معرفة معانيها

فليس الحرف ما نطقه لسان يجهله

ولم يستبن خفى معان الصدق يجليها

كم قارئ نطق بعينه ونطق لسانه

وطوبى لمن فيض الفؤاد يمليها

هي حروف فيها للروح تآلف

فالخط بيانها وأسرار الحب تبديها

الألف استواء والباء بر والكاف

 كمال واللم لدنه والميم مدده

وتاء مربوطة توثق إشاراتها في قلب

عارف أدرك سر الحب فيها.

الرجل : أنا أمى.. شقي أنا بأميتى.

الشيخ : بل جاهل رأى ببصره.. وقد حيل بينه وبين قلبه.. ومن يرى ببصريته.. فقد

 أدرك أحق اليقين.. بعين الفؤاد يتذوق.

الرجل : علمني كيف ..وما السبيل كي أتذوق.

الشيخ : لا تدرك بالعلم وحده بل ستوهب لك بمشيئة لتنكشف أمامك الحجب والأستار..

 ..ولتعرف أن أولى درجات المعرفة هي في حقيقة كونها الخروج عن معارف

 العموم.

الرجل : لن أيأس .. شوقي سيحطم اليأس ..علمنى .. علمنى.( ويبكى )

الشيخ : الشوق يظفر به كل من يسعى إلى الطريق.

الرجل : صدقنى.. صدقنى..فأنا.. أنا المشتاق.

الشيخ : هل قدمت برهانك..

 ( طرقة نحاسية )

 ( يقف الرجل كمن يستجمع همته.. يتردد على إيقاع الذكر.. الله..الله.. يعلو

 ويخفت حسب الحوار )

الرجل :أحببت القرب على البعد.. فصرت من الدنيا على فرار.. فاطما الجوارح عن

 الشهوات.

الشيخ : أهل المعرفة أحياء بحياة محبوبهم.. وغيرهم لا حياة له.

الرجل : كم من مسرور سره بلاؤه.. وكم من مغموم غمه نجاته.

الشيخ : ومن عرف الحق لم ينقطع رجاؤه.

الرجل : من عرف نفسه لم يعجبه عمله.

الشيخ : من عرف الحق لجأ إليه.

 ( يعلو الذكر الله.. الله)

الرجل : الدنيا سجن.

الشيخ : لمن دنت من قلبه فشغلته عن الحق .

الرجل : وطالبها؟.

الشيخ : معمرا لعاجل.. مخربا لآجل.

الرجل : ومن يقبل عليها ؟ .

 الشيخ : تحرقه نيرانها.

الرجل : ليصير رمادا لا قيمة له.. أما من يقبل على الآخرة ؟.

الشيخ : تصهره الخشية.. ليصير سبيكة الذهب.

الرجل : ومن يقبل على الله منيرا قلبه بالتوحيد ؟.

الشيخ : صار جوهرا لا يقدر بثمن.

 ( يعلو الذكر الله.. الله)

الرجل : من مشى في الظلم إلى ذي النعم ؟.

الشيخ : أجلسه على بساط الكرم.

الرجل : ومن قطع لسانه بشفرة السكوت؟.

الشيخ : بنى له بيت في الملكوت.

الرجل: ومن واصل أهل الجهالة ؟.

الشيخ : ألبسه ثوب البطالة. فمن أكثر من ذكر الله .. شغله عن ذكر الناس.

 ( يعلو الذكر الله.. الله)

الرجل : ولكن.. تطاردني الذنوب.. تطاردني الذنوب.

الشيخ : اخرج من المظالم بعدل الإنصاف ..فمن هرب من الذنوب هربت منه.. من

 هرب من الذنوب هربت منه.. من هرب من الذنوب هربت منه.

 ( يعلو الذكر.. الله.. الله)

الرجل : دلني على الطريق.. أين الطريق ؟.. خذ بيدى ..خذ بيدى..( يبكى )

الشيخ : اترك نفسك وتعال.. فالسلامة السلامة في مخالفتها.. والبلاء البلاء في اتباعها

 .. ولتعلم أن الغالب لهواه أشد ممن يفتح المدينة وحده.

الرجل : كيف؟..كيف؟.

الشيخ : الزمها الورع.

الرجل : كيف؟.

الشيخ: بوقوفك عند الشبهات.

 ( يعلو الذكر الله.. الله)

الرجل : زدنى.

الشيخ : لا تسأل أحد شيئا.. ولا تأخذ من أحد شيئا.. ولا يكون معك شئ تعطى منه

 لأحد.

الرجل : زدنى.

الشيخ : ترك الشكوى صبر.. والتلذذ بالبلوى رضا.

الرجل : وما علامات الرضا؟.

الشيخ : استقبال الأحكام والمقدر بالفرح .

الرجل : النعم؟.

الشيخ : طرد.

الرجل : والبلاء؟.

الشيخ : قربى.. فمن أساءه البلاء.. أحب البعد.. وترك القرب.

 ( يعلو الذكر الله.. الله)

الرجل : أنا الضعيف ..الضعيف.

الشيخ : إنما أضعفك أن جعلت قلبك مسكنا للشهوات.. وقد خلق ليكون مسكنا للذكر..

 فلا رق أثقل من الشهوة.

الرجل : كم كنت في غفلة.

الشيخ : لولاها ما ظفرت بك الشهوة.

 ( يعلو الذكر الله.. الله)

الرجل : استحى من وهني وهوانى.

الشيخ : الحياء انتهاء.

الرجل : وما علاماته ؟.

الشيخ : وجدان الأنس بفقدان الوحشة.. والامتلاء بالذكرى ..واستشعار الهيبة بخالص

 المراقبة.

الرجل : أنا التارك نفسي مهلكتي لأصحبك.. فأغنم المشاهدة.

الشيخ : فلتعلم أن حقيقة المشاهدة هى.. وجود الحق مع فقدانك.. فكن في الدنيا عابر

 طريق ..واعلن أن ما سوى الحق حجاب عنه.. فلولا ظلمة الكون لظهر نور

 الغيب.

الرجل : آه من فتنة النفس.

الشيخ : لولاها لارتفعت الحجب.. ولولا العوائق لانكشفت الحقائق.. ولولا العلل لبرزت

 القدرة.

الرجل : ولولا الطمع.

الشيخ : لرسخت المحبة.

الرجل : ولولا الحظ باق.

الشيخ : لأحرق الأرواح الاشتياق.

الرجل : آه.. آه.. فلولا البعد لتحقق القرب.

الشيخ : ولانكشف الحجاب.. متى زالت الأسباب.

 ( يعلو الذكر الله.. الله)

الرجل : زدني .. دلني على عمل أجد فيه قلبي دوما مع الله.

الشيخ : لا تنظر إلى الخلق فإن النظر إليهم ظلمة.

الرجل : كيف ؟!.. ولابد لي من ذلك.

الشيخ : لا تسمع كلامهم ..فإن كلامهم قسوة.

الرجل : كيف ؟!.. ولابد لي من ذلك.

الشيخ : لا تعاملهم فإن معاملتهم وحشة.

الرجل : كيف ؟!.. ولابد لي من ذلك.

الشيخ : لا تسكن إليهم فإن السكون إليهم هلكة.

الرجل : وما العلة في هذا؟.

الشيخ : أتنظر إلى الغافلين.. وتسمع كلام الجاهلين.. وتعامل الباطلين.. وتريد أن تجد

 قلبك على الدوام مع الله ..من رجا شيئا طلبه.. ومن أحب شيئا آثره على غيره

 الرجل : ها أنا ذا.. قد تركت نفسي .. وأنى لمتبعك.. علمنى.. علمنى.. عرفنى..

 ( يمد يده للشيخ ) هيا ..هيا.

 ( يعلو الذكر الله.. الله ثم تتلوه موسيقى ..يأخذ الشيخ بيد الرجل ويسيران

 سويا وسط دخان متصاعد)

الرجل :أشعر بعروقي تنتفض في قبضتك ..جسدى يخف.. وقدماي لا تلمسان الأرض

الشيخ : بشراك .. بشراك.. فروحك من أغلال الرق تتحرر.

الرجل : ( يتنهد.. صوت شهيق وزفير مجسم.. مع ضربات قلب متلاحقة ) لقد اتسع

 صدري ولم أعد أشعر بالمشقة..

 ( يظلم المسرح.. وتتركز الإضاءة عليهما ..وعلى الشاشة تظهر حروف )

 انظر حرف النون.. نور قد تجلى.. وبدد وحشتى.. و العين.. عين الحقيقة

 تتجلى ..الضاد.. ضعفى و ضآلتي .. الشين شقوتي في شهوتى.. والزاى

 زلتى.. .. والتاء توبتى.. الحاء.. حنانا من لدنه.. الغين غفران واسع..

 والسين سكينة وسلام

الشيخ : تمهل والتقط أنفاسك.. لا أكاد أن ألحقك.. فأنت تطير.. تطير.

الرجل : فلنكمل.. فلنكمل .. من ذاق عرف ..ومن عرف آلف وائتلف ..ومن فيض

 المحبة اغترف.

الشيخ : ياباسط.. ياباسط.

 ( صوت المنشدين يتردد الله.. الله.. ياباسط.. ياباسط.. ويجلس الجل

 والشيخ يلتقطا أنفاسهما )

الشيخ : ما عدت تسأل.

الرجل : أشعر بالجوع.

الشيخ : لو كان الجوع يباع ويشترى لما كان للعارف أن يشترى غيره.

الرجل : أشعر بالجوع .

 الشيخ : الجوع لب الأمر.. والبطن دنيا العبد.. وبمقدار ما تملكه بطنه.. تملكه الدنيا

 .. فمن ملك نفسه ملك بطنه.

 ( الشيخ يمسك يده .. وعلى الشاشة تظهر كف الشيخ وعليها الكلمة )

 ما معي بين كفى وكفك ليغنى عن الجوع.. اخفت بها أو أجهر.. وانشغل بها

 واشغل فراغ البطن تجد رأسك بين الرؤوس.. أو تجد الطير يأكل منها.

الرجل : أبلغتك شدة جوعى.. ولم أطلب تفسير رؤيا.

الشيخ : كل من رأتهم عيناي جوعي الجوع.. وما أدراك ما الجوع؟..الجوع نور ..

 والشبع نار.. .. فالمرء إذا جاع صفا ورق.. وإذا شبع قسي قلبه.. لذا

 أعددت مائدتى.. آكل منها بنهم روحى.. ويأكل أصحابي على قدر حسن

 ضيافتى.. ولا ينقص منها شيئا.

الرجل : وأين هي مائدتك؟!.. أرينيها.

الشيخ : ( يشير إلى قلب الرجل ) هنا.

 ( موسيقى )

الرجل : هنا!!.

الشيخ : خير المكان لها.. لعلك إن طعمت منها.. أطلق سراحك.

الرجل : إذن أتني ما قدر لى.. ولكن متى أعددتها؟.

الشيخ : قبل مجيئك.. وعليها ما تشتهى الروح.. وجلست في انتظارك.. بعدما مات

 آخر أصحابى.

الرجل : وكيف مات؟.

الشيخ : كنت قد أعددت له كلمات ليقولها يوم الزينة.. ولكن حين صعد الدرج .. غطى

 الخوف في نفسه.. على الحق في روحه.. فانحشرت في حلقه الكلمة .. وزاغ

 بصره.. ومات ( ويبكى ) ولكنى أعدها كل يوم.

الرجل : لماذا؟.

الشيخ : لأنني كنت موقنا بقدومك.

الرجل : كلامك يبثني الصبر.

الشيخ : وبشر الصابرين.

 ( موسيقى )

الرجل : ( ينظر إلى السماء ) هبني صبرا.. هبني صبرا.. وثبتني بالكلمة.

 ( ثم يتحسس صدره.. ويسمع صوت شهيق وزفير مجسم.. مع دقات قلب

 هادئة.. و صوت زقزقة عصافير ) قلبي يمتلئ بشرا وسرورا.

الشيخ : انشرح صدرك وملء نورا.

الرجل : سبحان الله.

الشيخ : بردا وسلاما.

الرجل : الحمد لله.

الشيخ : فتح لك باب الحمد.. خط بقدميك فالأرض لك ذلولا.

الرجل : أدرك الآن أن لساني مكتوب عليه ذنوبى.

الشيخ : نور المعرفة وتجلياتها.

الرجل : خطيئتي قول.

الشيخ : الشيخ : صدقت.

الرجل : وذنوبي كلام.

الشيخ : برأت وبرأت.

الجل : سأرتوي بدموعى.

الشيخ : خير الري ريك.

 ( موسيقى ناي حزينة )

الرجل : أحس وكأن ذنوبي تنفرط كلمة كلمة.. حرفا.. حرفا .. كأوراق شجر متساقط

الشيخ : كل ورقة بألف ذنب.

الرجل : ليتني أستطيع أن أمحو بدموعي ما كان منى.

 ( الرجل يسير ويرفرف بذراعيه في الهواء )

الشيخ : ها ..أنت تطير.

الرجل : لا أشعر بقدمىّ.

الشيخ : ما جدواهما ..وقد وهبت جناحان.. هيا هيا .. حلق .. حلق.

 ( الحروف تظهر على الشاشة ..مع موسيقى تحمل معنى التحول إلى تلك

 المرحلة)

الرجل : سألتقط الحروف.

الشيخ : بل أقبضها.. ولتدفعك نسائم التوبة.. هيا.. هيا.. فلتنكشف لك الحجب..

 وتنجلي الأسرار.

 ( الإضاءة تتركز على الرجل )

الرجل : الصاد.. صدق فارتقاء.. صبر فانفراج.. صفاء فانتشاء.. والفاء .. فقد

 فامتلاك.. فقر فغنى.. فناء فخلود..والواو.. وفاء فاستخلاص ..وجد

 فسرور.. ود فحبور ..والياء..حسبى ونسبى.. الله ربى.. واللام ألف..

 بها وفيها الشهادة والإنابة والإجابة.. لاإله إلا الله.. محمد رسول الله.. هي

 العز الذي لا ذل معه.. والغنى الذي لا فقر معه.. والأنس الذي لا وحشة معه.

 ( خلفية الإنشاد.. لاإله إلا الله.. محمد رسول الله)

 شهادة التوحيد لي بها عند الله عهد

مقيما عليها مخلصا يوم الحشر تقيني

هي الزاد لروح بها من تقصيرها وجد

فيا شهادة التوحيد يقيني بالله يقيني

 ( موسيقى)

الشيخ : أظنك تعرف الآن من أنت؟.

الرجل : نعم.. أنا من أدرك فاستدرك.. فما عدت أملك شيئا.. ولا.. ولن يملكني شئ

الشيخ : بشراك.. بشراك .. فمن ملك نفسه عز.. ومن ملكته زل وانذل.

الرجل : أخلصت روحي لله.

الشيخ : الإخلاص ..نعم السر بين العبد وربه.. لا يعلمه ملك فيكتبه.. ولا شيطان

 فيفسده.. ولا هوى فيهلكه.. الإخلاص.

الرجل : صلاح السر والسريرة.

الشيخ : الإخلاص .

 الرجل: نعم البر بالنفس.

الشيخ : الإخلاص .

الرجل : لب التقوى.

الشيخ : الإخلاص ري للقلب من ينابيع الحكمة.

الرجل : صنو عهدي عند الله.

الشيخ : الإخلاص هو ري للقلب من ينابيع الحكمة.. طوبى للمخلصين.. أولئك

 مصابيح الهدى.. تنجلي عنهم كل فتنة ظلماء.

 ( تظهر ملائكة ترفرف بجناحيها على الشاشة )

الرجل : صفا قلبي لله.

الشيخ : فاصطفيت.

الرجل : صفا لي كل شىء.

الشيخ : وصفا بك كل شىء.

الرجل : أريد الاقتراب أكثر.. فؤادي يرى.

الشيخ : صدق فؤادك فيما رآه.. أأدركت المراد ؟.

الرجل : هذا مبتداه. أريد الاقتراب أكثر.

الشيخ : أنس واستئناس.. لا اغتراب.. طويت المسافة على بعدها.. بلطيف المناداة

 والمداناة.. نعيم القربى.. وطوبى للغرباء.

 ( موسيقى أذان بالناي )

الرجل : أريد الاقتراب أكثر.

الشيخ : اقرأ بقلبك.

الرجل : ها قد زالت أميتى.

الشيخ : كانت همي وشاغلتى.

الرجل : أريد الاقتراب أكثر.

الشيخ : اركع وسبح.

الرجل : سبحان ربى العظيم.. والحمد لله.

الشيخ : سمع الله لمن حمده.

الرجل : ربنا ولك الحمد والشكر.. أريد الاقتراب أكثر.

الشيخ : اسجد تقترب

الرجل : أسجودى اقتراب.

الشيخ : طوبى وحسن مآب.. من جعل الله مولاه قبلته.. فقد صدقت مودته.

الرجل : ( يرفع يديه فيظهر على الشاشة كفاه وقد كتبت عليهما الكلمة )

 ( يسجد الرجل وسط دخان متصاعد وتظهر على الشاشة بالسلويت المرأة التي

 ظهرت في المشهد الأول وهى تحتضن طفلها في سعادة.. وحولها الملائكة

 بأجنحتها .. مع تبدل عناصر الديكور الموحية بالزنزانة .. لتوحي بمكان

 ممتلئ بالروحانيات.. موسيقى ..ثم يركز الضوء على الشيخ وهو يشير إلى

 مكان سجود الرجل " خافت الإضاءة جدا ")

الشيخ : ياقابض.. يا باسط.. الخوف من الله تعالى يقبضنى.. والرجاء يبسطنى..

 والحقيقة تجمعني ..والحق يفرقني إذا قبضنى بالخوف أغناني عنى.. وإذا

 بسطنى بالرجاء ردني على ..إذا جمعني بالحقيقة أحضرنى.. وإذا فرقني

 بالحق أشهدني غيري ..فغطانى عنى.. فهو تعالى في كل ذلك محركي غير

 ممسكي يا

 باسط.. يا باسط..( ويشير إلى الرجل )

 إن لله عبادا.. خرجوا إليه بإخلاصهم .. وشمروا إليه بنظافة أسرارهم..

 نهلوا من عيون الصفاء.. فاستمعوا بقلوبهم ..فأجزل لهم المواهب.. وأغدق

 لهم العطايا.. فشموا روائح القرب من قربه.. فغمرهم الود في حضرته..

 وهبت عليهم رياح اللقاء من تحت عرشه.. فتطايرت أرواحهم للقائه.. ثم

 نادت لا براح ..لا براح.( ويتصاعد الدخان ..ويخرج الشيخ وهو يردد )

 يا باسط.. يا باسط .

 ( وتظهر الأبجدية كاملة على الشاشة.. وتنشد أبجدية الصفاء )

الألف استواء .. والباء بر.. والتاء تجل .. والثاء ثناء .. والجيم حمال ..والحاء حنان ..والخاء خلاص ..والدال دوام ..والذال ذكر ..والراء رحمة .. و الزاى زاد ..والسين سلام ..والشين شهادة ..والصاد صلة ..والضاد ضياء ..والطاء طهر ..والظاء ظهور ..والعين عز ..والغين غفران ..والفاء فرج ..والقاف قدرة ..والكاف كمال ..واللام لطف ..والميم مدد ..والنون نور ..والهاء هناء ..والواو وفاء ..والياء يقين بمن للفؤاد تجلى .

تمت