وأذن في الناس

عبد الله الطنطاوي

وأذن في الناس

برنامج إذاعي

إعداد: عبد الله الطنطاوي

1) في وادٍ مجدبٍ، لا يطير في سمائه طائر، ولا تمر منه القوافل.. ترك أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، زوجته هاجر، وابنه إسماعيل في حفظ الله الرحمن الرحيم، ولم يترك لهما إلا قليلاً من التمر والماء، لا يكفيهما إلا لأيامٍ معدودات.

2) هذه الحادثة، شاء الله أن تكون سبباً في تشكيل نسلٍ جديدٍ، يأتي منه آخر نبي مرسلٍ... إنه سيد البشر: محمد صلى الله عليه وسلم.

1) قال الله تعالى في كتابه العزيز، على لسان نبيه إبراهيم عليه السلام، مبتهلاً وداعياً:

بسم الله الرحمن الرحيم

(ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة؛ فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) سورة إبراهيم37.

2) امرأةٌ وطفلٌ صغير، تركا وسط تلالٍ قاحلةٍ جرداء، وفي وادٍ تكاد تنعدم فيه الحياة، حيث لا مأوى ولا نبات ولا ماء.. إنها تعبيرٌ عن حالة من الإيمان بالله، والتوكل عليه، والإذعان له..

1) في محيط مكة ذات الشعاب والتلال، تعيش امرأةٌ فاضلة، أم وحيدة، تلوب بين هضبتين.. بين الصفا والمروة، تفتش عن ماء لطفلها الظمآن.. قلبها معلق بالله الرحمن الرحيم.. تأمل أن يهديها إلى نبع ماء قراحٍ، إلى عين ماء.. إلى حفرة تختزن الماء.. لم تتوقف عن الهرولة بين الصفا والمروة.. وبكاء طفلها يقطع نياط القلوب، فقد يبست الشفاه، واشتد الظمأ... وليس لها سواك يا رحيم.

2) يا رب أنت المغيث، ولا أحد غيرك يغيث يا الله.. يا غوثاه..

1) إنها لم تفقد الأمل.. تردد بصرها بين السماء والأرض.. ثم تسرع إلى وليدها الحبيب، وقد تفجر الماء تحت ضربات قدميه الصغيرتين..

2) خافت على الماء أن يضيع بين الرمال، فأحاطت حواف الحفرة بالتراب وزمتها، ولو تركتها تسيل لملأت الوادي، والله أعلم، فهي غزيرة، يستقي منها الملايين كل عامٍ ولا تنضب.

1) وعندما عاد سيدنا إبراهيم إلى المكان الذي ترك فيه زوجته هاجر، وطفله إسماعيل، وجد المكان آهلاً بالسكان، فبادر إلى بناء الكعبة المشرفة، بيت الله الحرام، بالقرب من زمزم، يعاونه ولده إسماعيل عليهما السلام.

2) فكان هذا البيت المعظم، أول بيتٍ وضع للناس، تهفو إليه القلوب، ويتوجه إليه الناس، فهو قبلتهم حيث كانوا، كل الاتجاهات تتجه إليه، فهو مركز هذا الكون الفسيح.

1) بسم الله الرحمن الرحيم

(ولله المشرق والمغرب، فأينما تولوا فثم وجه الله، إن الله واسعٌ عليم).

2) في الوقت الذي كان سيدنا إسماعيل يحمل حجارة الكعبة المشرفة، كان سيدنا إبراهيم يقوم ببناء جدرانه.. كان يقوم بنحت الحجارة على شكل مربعٍ، وعندما ارتفع الجدار قام سيدنا إبراهيم باستخدام حجر للوصول إلى أعلى الجدار، هذا الحجر الذي ما زال يحمل أثراً لقدمه الطاهرة أصبح يعرف موقعه بمقام إبراهيم...

1) في جبل أبي قبيس، وفي مكان يغيب عن الأنظار تسلم سيدنا إبراهيم الحجر السماوي.. الحجر الأسود من أحد الملائكة، وقام بوضعه في إحدى زوايا الكعبة، وما زال حتى الآن، وسوف يبقى إلى أن تقوم القيامة، ومنه يبدأ طواف الطائفين حول الكعبة.

2) بعد الانتهاء من بناء الكعبة، أمر الله تعالى سيدنا إبراهيم أن يدعو الناس إلى الحج.

1) بسم الله الرحمن الرحيم

(وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فج عميق).

2) صعد سيدنا إبراهيم إلى جبل أبي قبيسٍ، وصاح في جميع اتجاهاته:

"أيها الناس! لقد فرض الله عليكم الحج وزيارة هذا البيت العتيق".

1) استجابت الأرواح وجميع من سمع نداء سيدنا إبراهيم، حتى الأجنة في أرحام أمهاتها، استجابت ولبت هذه الدعوة بقولها:

"لبيك اللهم لبيك".

2) هذه التلبية ومنذ أن بدأت ما يزال يرددها جميع من يقصد مكة لأداء مناسك العمرة أو الحج، تلبيةً لنداء سيدنا إبراهيم.

"لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك".

1) يا الله.. لقد جئت من أجلك.. سمعاً وطاعةً لك..

جئت إليك بلا حول ولا قوة، متجرداً من هذه الدنيا وحطامها، لا أريد علواً في الأرض ولا فساداً. جئت طامعاً برحمتك الواسعة..

2) بسم الله الرحمن الرحيم

(فيه آياتٌ بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً. ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين).

1) الحج وسيلةٌ لتجديد العهد بين العبد وربه، ومحاولةٌ للحصول على رضاه، من خلال الشعائر التي يقوم بها في وقت محدد وفي مكان معين.

2) ولمعرفة المعنى الذي يحمله الحج، علينا أولاً معرفة الجوانب الأدبية والفلسفية والبعد الجغرافي والتاريخي لهذه الفريضة.

1) قال عليه الصلاة والسلام:

"من حج، فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه".

2) كل خطوة نخطوها ونحن محرمون، هي كخطوة سيدنا إبراهيم عليه السلام.. الكعبة في كل الاتجاهات، الهواء الذي نستنشقه بين الصفا والمروة، يكاد يكون هو نفسه الذي استنشقته السيدة هاجر.

1) جميع قراراتنا هي كقرار سيدنا إسماعيل بقبول تحقيق رؤيا والده بذبحه، وأخيراً كل رجاءٍ لنا، هو كرجاء آدم عليه السلام للعودة إلى الجنة التي فقدها..

2) إذا قمنا بذلك، وفي ضوء هذا المفهوم خلال أدائنا لفريضة الحج فإننا نكون قد ولدنا من جديد.

1) الحرم:

الحرم هو الاسم الذي يطلق على المنطقة التي تغطي ما مساحته خمسةٌ وعشرون كيلو متر مربع. ومركزه الكعبة. وإذا ما نظرنا إليها من الجو فإننا، وللوهلة الأولى، نعتقد بأنها منطقةٌ صحراويةٌ لا حياة فيها، ذات تلالٍ بركانية.

2) لقد قام جبريل بإطلاع سيدنا إبراهيم على حدود هذه المنطقة، وقام فيما بعد سيدنا محمدٌ عليه الصلاة والسلام بتحديد حدود منطقة الحرم من جديد.

1) هذه المنطقة القاحلة المغطاة بالحجارة السوداء، شكلت منذ سيدنا آدم، مروراً بسيدنا إبراهيم، وانتهاءً بسيدنا محمد –أكبر ساحة صراعٍ بين أقطاب الشرك والتوحيد في تاريخ الإنسانية.. أقدم موقعٍ أثري في العالم.

2) الكائنات الحية والجماد يتمتعون هنا بالحماية، فالحرم منطقةٌ مشمولةٌ بحماية إلهية، حتى إن نقل الحجارة والتراب من منطقة الحرم غير مسموحٍ به.. هنا لا يجوز الاعتداء على الإنسان، بل إن قتل نملةٍ له ثمن. إن قطع غصن شجرةٍ جناية.

1) هنا.. على كل من جاء محرماً من أجل الحج أن يثق بغيره من الحجيج، وأن يثق به إخوانه حجاج بيت الله.

2) الحرم وسيلة تعليمٍ ذات أبعاد فلسفية لكل من جاء حاجاً من جميع بقاع الأرض، وسيلة تعليمٍ ترشدهم وتعلمهم أن يكونوا أكثر بلوغاً ونضجاً في سائر مراحل حياتهم.

1) هذه الفلسفة التي بدأت من المكان الذي أمر به النبي الكريم بالقراءة، المكان الذي يمكن رؤيته من جميع أنحاء منطقة الحرم. إنه غار حراء الذي يبعد عن مكة حوالي عشرة كيلو مترات شمالاً، ويقع في قمة جبل النور، وهو الغار الذي نأى فيه النبي عليه الصلاة والسلام بنفسه عن مظاهر الشرك والباطل.. لبث فيه أياماً وليالي يعبد ربه، ويطهر نفسه، ويرقى بروحه ويتسامى على طين الأرض، ولوثات الطين.

2) بسم الله الرحمن الرحيم

(اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم).

1) بهذه الكلمات بدأت رسالة التوحيد، وبقيادة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام تم نقشها في قلب الإنسانية جمعاء.

2) الحج.. هذه الرسالة الربانية التي عبر عنها في القرآن، يتم تطبيقها عملياً.. الحج هو ركن من أركان الإسلام، جمع الله سبحانه وتعالى فيه ما أراد أن يعلمه للبشر من هذه الفريضة.

1) النية والميقات:

المواقيت هي الأمكنة التي عينها النبي صلى الله عليه وسلم ليحرم منها من أراد الحج أو العمرة، ثم يكون الدخول منها إلى منطقة الحرم المكي. هذه الأماكن المعروفة يعلن الحاج عن نيته، وهو يحرم لأداء فريضة الحج، ومن يأتي من المدينة المنورة أو من طريقها يحرم من منطقة ذي الحليفة.

2) الميقات هو المكان الذي يتجرد فيه الإنسان من الدنيا، ومن ملابسه الدنيوية، ليغتسل ويلبس الثياب البيضاء التي تشبه الكفن، وسيلةً للتقرب إلى ربه.

1) يبدأ الحاج أو المعتمر بإعداد نفسه للإحرام قبل دخول منطقة الميقات، ويقوم بصلاة ركعتين، يخلع الرجال ملابسهم، ويلتفون فقط بقطعتين من القماش هما: الإزار والرداء. أما النساء فيحرمن بملابسهن العادية، مع تغطية رؤوسهن والإبقاء على وجوههن مكشوفة.

2) بعد هذا الاستعداد الأولي، وقبل دخول حدود الميقات، ينوي من يريد أن يقوم بأداء فريضة حج التمتع بقوله: "اللهم إني أريد الإحرام بالعمرة، متمتعاًً بها إلى الحج، فيسرها لي، وتقبلها مني". ويقوم بعد ذلك بأداء العمرة.

1) ومن أراد أن يقوم بأداء فريضة الحج ينوي للحج، ومن يرد الحج والعمرة ينوي الاثنين معاً.

2) الكعبة الآن بانتظارنا، كلما اقتربنا زاد الشوق والارتباك، لقد ملأ قلوبنا حب الكعبة... سيلٌ من البشر يسير نحو المسجد الحرام، يبدأ بالسرعة والاتساع والازدياد كلما اقتربنا منه.. كلما اقتربنا زادت عظمة المكان، ازداد خفقان القلب، وتغلق الجفون كأننا ننظر إلى أشعة الشمس التي تتكشف عنها الغيوم، يبقى القلب الوسيلة الوحيدة لرؤية المكان.

1) وفي النهاية..

الكعبة دليل البقاء وقبلة الإيمان نتجه إليها في كل صلواتنا.. في بيوتنا، وجوامعنا وحتى في قبورنا.. ننام ونصحو معها.. هنا قلب الإنسانية وبيتها وحرمها.

2- بسم الله الرحمن الرحيم

(إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين).

1- هنا بيت الحرية والاستقلالية، نحيا فيه أياماً بعيدين عن كل مظاهر الأبهة والفخفخة الفارغة.

فصاحب البيت هو الله، والمستأجرون هم العابدون التائبون، هنا حتى ولو أنك جئت من آخر الدنيا، فإنك تؤدي الصلاة كاملةً دون قصرٍ أو جمعٍ، فأنت لست مسافراً.. أنت جئت للوفاء بوعدك لسيدنا إبراهيم ملبياً دعوته، وجئت قاصداً دار التوحيد، فلقد كنت غريباً في وطنك، والآن أصبحت صاحب مكان، لقد عتقت نفسك. هنا لك حرية التصرف في كل حركاتك داخل المسجد الحرام.

2- الطواف:

الكعبة أمامنا، وسط حلقة بشرية. الحلقة تبدأ بالاتساع والتشكل عند الالتقاء بهذه الجموع الغفيرة التي جاءت شاقةً طريقها عبر شوارع مكة الضيقة.

1- حلقةٌ أشبه بالفراشة التي تحوم حول الضوء. إنها مثل ضوء القمر الذي يحيط بالأرض، مثل الشمس التي تدور دون توقف.. هذا هو الطواف..

2- كل شيءٍ يتحرك ما عدا الكعبة المشرفة.. فهي وحدها الثابتة في مكانها، حركةً تبدأ من عند الحجر الأسود، ولمسه يفتح أمامنا الطريق للدخول في مسار الموكب الكوكب.
1- هو بدايةٌ لإلقاء السلام، وتجديد العهد مع رب هذا البيت، وطلب المباركة منه سبحانه وتعالى في بداية طوافنا..

2- باسم الله والله أكبر.. عبارةٌ يرددها كل من يلتقي هذا الحشد الغفير.. ليدخل إلى نظام الجذب المركزي للكعبة.. من الشمال إلى اليمين، نطوف بعكس عقارب الساعة، وبعكس الزمن. نفقد الوعي في مركز الجذب هذا، تماماً مثلما كان عليه حال السيدة هاجر التي سلمت أمرها لله.

1- تخرج من الطواف بعد الشوط السابع، وسبعةٌ هو عدد الحجارة التي يرجم بها إبليس، واليوم السابع هو اليوم الذي أتم به الله القدير خلق السماوات والأرض.

2- بعد انتهاء الطواف نصلي ركعتين في مقام سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام.. أو في أي مكان داخل المسجد الحرام، وهي سنة الطواف، وهذه الصلاة تعني انتهاء الطواف.

1- السعي:

ثم نمشي إلى بئر زمزم في ساحة الكعبة المشرفة، لنشرب من مائه الذي وصفه الرسول عليه الصلاة والسلام: "بأنه شفاءٌ لكل داء".

2- بعد أن نشرب من ماء زمزم، وفي ضوء المفهوم الذي يحمله الحديث الشريف، نتجه للسعي بين الصفا والمروة.. ندخل في سيل هذه الجموع الغفيرة، بقلبٍ يخفق مثلما خفق قلب السيدة هاجر..

1- السعي وسيلةٌ للبحث عن الماء، عن القدر، عن الذات.. إنه التسليم التام لله تعالى، مع التوكل عليه وليس التواكل.

2- لم يذهب سعي السيدة هاجر سدى، فقد وجدت الماء لابنها إسماعيل، بل وجدت ماء زمزم الذي لا يجف ولا ينضب، وما زال يسيل حتى الآن بمياهٍ مباركة.

1- نحن الآن وسط هذه الجموع التي تسعى بين الصفا والمروة سبع مراتٍ، ثلاثةً في الصفا وأربعةً في المروة.

2- فرحت السيدة هاجر بعد سعيها بين التلال بعد أن وجدت الماء، أما فرحة الحاج فهي أن يتقبل منه الله سعيه هذا.

1- مكة:

مركزٌ لملتقى الحضارات، ومؤتمرٌ ثقافيٌ متنقلٌ في شوارع هذه المدينة التي تزدحم بالحجاج الذين جاؤوا من شتى أنحاء المعمورة: من تركمانستان والفلبين من البوسنة والهرسك والولايات المتحدة، من جميع الأعراق والألوان.. اجتمعوا في مكة.

2- لقد التقوا في منطقة الحرم على أساس الأخوة في الله.. فالمسلمون إخوةٌ في الله.. هذه الأخوة هي الشعار الذي يحمله ملايين الحجاج الذين يأتون إلى هذ المدينة في كل عام.

1- في نهاية شارع غزة الذي يمتد باتجاه شمال مكة، جنة المعلاة.. وفيها أكبر شاهد على تاريخ هذه المدينة، فيها قبر زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام وأول من آمن بدعوة النبي المصطفى، قبر خديجة الكبرى أم المؤمنين. وفي هذه المنطقة أيضاً قبر جد الرسول صلى الله عليه وسلم.. وقبور الرعيل الأول من شهداء الدعوة الإسلامية.

2- غداً هو اليوم الثامن من ذي الحجة.. اليوم الذي يسبق يوم الوقوف في عرفة، إنه يوم التروية... فيه يخرج الحجاج إلى منى.

1- منى:

هنا خطب الرسول عليه الصلاة والسلام في الصحابة في حجة الوداع.. قال للمسلمين: "خذوا عني مناسككم".

2- يقضي الحاج اليوم كاملاً أو نصفه في هذا المكان، ويصلي فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، يقضي ليله في منى، ثم يصلي الفجر فيها.

1- بعد أن يكون الحاج قد أتم الوقوف في صعيد عرفات، والمبيت في المزدلفة، يعود إلى منى، التي تبدو للوهلة الأولى وكأنها غطيت بالثلوج.. منظرٌ رائعٌ يتمثل بالإعداد الجيد للخيام البيضاء اللون.. لإبعاد حرارة الشمس الملتهبة.. يقضي فيها مليونا حاجٍ ثلاثة أيامٍ، يجدون فيها كل ما يلبي احتياجاتهم.

2- حج عرفات:

عرفات.. نقطة البداية لكل حاجٍ لكي يعيد حساباته في جميع مراحل حياته.

1- هو المكان الذي التقى فيه سيدنا آدم بحواء، إنه أول لقاءٍ بين نبي وإنسانٍ فوق هذه الأرض.. مكان الدعاء والتبتل والابتهال.

2- هو المكان الذي يتقبل فيه الدعاء، ومكان بشرى لمن غفر الله له.

1- عرفات ساحة رحمةٍ لا تنتهي..

2- بعد بزوغ شمس اليوم التاسع من ذي الحجة، نتوجه إلى صعيد عرفات.. شرق مكة.. وهو أبعد مكانٍ عن المسجد الحرام، نتجه للبحث عن جنةٍ فقدناها..

1- يبدأ الحاج بالتوجه إلى صعيد عرفات، بعد أن ترك الوطن والأهل والبنين، يتجه بقطعتين من القماش وسط هذا الغبار، بعد أن يكون قد ترك جميع مظاهر الحياة بكل أشكالها، كل ذلك في سبيل الله، وليبدأ خطوةً بعد خطوة من أجل الاقتراب من رحمته سبحانه وتعالى. فهو يومٌ يتضرع فيه كل مؤمنٍ وعابدٍ، هو يوم استغفارٍ تفتح فيه أبواب الرحمة لجميع التائبين في جميع أنحاء هذه المعمورة..

2- هنا في عرفات.. فرصةٌ لأن يتعرف الإنسان على نفسه.. هو المكان الذي يحمل المعنى الحقيقي للحج.

1- تحت أشعة الشمس الساطعة يخرج الحجاج من خيامهم، في محاولةٍ للبحث عن المكان الحقيقي للحياة.. هذا هو الشعور الذي ينتاب كل حاج وهو في طريقه إلى عرفات.

2- نحن الآن في أبعد مكانٍ عن مكة.. مكان واسعٍ جاف ومليء بالحجارة والرمل، حتى إن وصف هذا المكان بالفسيح والواسع لا يليق به.. هذا الميدان الذي له تأثيرٌ كبيرٌ، قادرٌ على جمع هذه الأمم من مختلف أنحاء الأرض التي تتوحد في حركاتٍ متناسقةٍ من رفع الأيدي إلى السماء لطلب الرحمة والمغفرة، كأنه جزءٌ من مكان يوم الحشر.

1- في هذا المكان الذي شرح فيه الرسول عليه الصلاة والسلام رسالة الإسلام الإنسانية في خطبة الوداع، وسأل الصحابة ثلاث مرات.. وكان في كل مرةٍ، يشهد الله على ما فعل:

ألا هل بلغت

اللهم فاشهد.

2- بعدها ركب الرسول عليه الصلاة والسلام دابته ليشق طريقه نحو التلال بعد أن قرأ هذه الآية العظيمة:

(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً).

2- جبل الرحمة في صعيد عرفات.. إنه المكان الذي أعلن الرسول عليه السلام –عند سفحه- تبليغ رسالته، وهو المكان الذي أحس فيه بأنه اقترب من لقاء وجه ربه.

1- الوقوف في عرفات هو الركن الثاني بعد الإحرام.. وقفةٌ تحمل الكثير من المعاني والعبر.. يوم حريةٍ ويوم بحثٍ عن الذات، هذه الوقفة التي ليس لها شكلٌ معينٌ، هذا المكان الذي بدا وكأن إسرافيل عليه السلام قد نفخ في الصور، وكأن هذه الجموع قد خرجت من قبورها وأكفانها على أكتافها.

2- يوم عرفة تذرف الدموع من العيون طلباً للرحمة، فالكل يبكي رجالاً ونساءً، تماماً مثلما طلب سيدنا آدم وأمنا حواء المغفرة من رب العالمين.

1- في هذه اللحظة يتجرد الإنسان من مظاهر الدنيا، ويتم وقفته في ظل هذا الشعور.

2- لحظة النفرة من صعيد عرفات تذكرنا بيوم المحشر أيضاً.. كنا نتوقف لحظةً أخرى نحاول شق الطريق وسط هذا السيل من البشر، هي لحظة العودة إلى الدنيا مثل بزوغ الشمس بعد غياب.

1- لقد قرأ الرسول عليه الصلاة والسلام رسالةً في صعيد عرفات.. وها نحن نقف في نفس اليوم الذي وقف فيه الصحابة رضي الله عنهم للاستماع إلى خطبة الوداع.

(ورضيت لكم الإسلام ديناً).

2- حان الآن الاتجاه إلى المزدلفة، في اليوم التاسع من ذي الحجة.

نواصل سيرنا على خطى النبي عليه الصلاة والسلام، نسير نحو المشعر الحرام.

1- تبعد المزدلفة ثلاثة كيلو مترات عن منى، وهي عبارةٌ عن وادٍ يقف فيه مليونا حاج في ظلامٍ دامسٍ، وبدون خيام.. قمرٌ يشهد لنا وقفة المزدلفة، كما شهدت الشمس وقفة عرفة. والمشعر الحرام.. مثله مثل الطواف والسعي والوقوف في عرفات، كلها شعائر فريضة الحج. والوقوف في المزدلفة محاولةٌ لفهم العبرة من الوقوف في عرفات، محاولةٌ لإدراك سر هذه الوقفة.

2- يبدأ الحاج بجمع الحصى، وعددها تسعٌ وأربعون جمرةً أو سبعون جمرةً.. أي حصاةً. استعداداً لرمي الجمرات في أيام عيد الأضحى، وكأن الآية التي تقول: (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام) محفورةٌ على كل حجر من هذه الحجارة.

1- دعاءٌ وانتظارٌ إلى اليوم الثاني، اليوم الذي تبدأ فيه رحلةٌ جديدةٌ إلى منى، وسنمر من الطريق التي سلكناها قبل يومٍ في محاولةٍ للصعود إلى صعيد عرفات.. لكننا نعود إلى منى هذه المرة أكثر نضجاً وبلوغاً ومعنا أيضاً هذه الحجارة التي جمعناها.

2- منى في العاشر من ذي الحجة

يبدأ سيل الحجاج القادمين من صعيد عرفات مروراً بالمزدلفة بالتوجه إلى منى في صباح أول أيام عيد الأضحى، هذه السيول الغفيرة التي صعدت إلى عرفات بصبرٍ وبعيونٍ أغرقتها الدموع وتبردت بالنسيم العليل في المزدلفة والمشعر الحرام. تزيد الحاج شوقاً وارتباكاً.. هذا الحاج الذي نزل من عرفات بقراراتٍ لا رجعة عنها.

1- هنا بات الجميع رجالاً ونساءً، شيوخاً وأطفالاً يتصرفون بحركةٍ وبشعورٍ مماثل، شعور الكراهية لأكبر عدو للإنسان. هنا يبدأ الجميع برجم ولعن الشيطان برمي هذا المكان الذي يرمز إلى الشيطان.

2- بسم الله الرحمن الرحيم

( إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً، إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير).

1- في أول أيام العيد ترمى سبع جمراتٍ فقط.. هنا رجم سيدنا إبراهيم عليه السلام الشيطان الذي ظن أنه قادر على حمله على معصية الله.

2- بعد رمي جمرة العقبة الكبرى، يقدم الحاج القارن والمتمتع الهدي كشرط لإتمام فريضة الحج. في هذا الموقع الذي يرمز إلى المكان الذي أراد أن يضحي فيه سيدنا إبراهيم بابنه إسماعيل، بأمر من الله سبحانه وتعالى. بعد ذلك يقوم الحاج بحلق شعره أو تقصيره.. بما يتناسب مع السنة النبوية.

1- يعود الحاج مرة أخرى إلى مكة وفي نفسه هذه المرة قرارٌ بمحاربة الشر والشيطان.. عهد وثقة بينه وبين ربّه عز وجل.. يعود وهو مرفوع الرأس ومفعم القلب بالإيمان.

2- الطواف:

مرة أخرى نعود إلى الكعبة، نعود إلى هذا المكان الذي لا مثيل له، المكان الذي تطوف فيه الملائكة في سماء خالقها.

1- نأخذ مكاناً لنا إلى جانب الحجر الأسود، لنبدأ طوافاً من سبعة أشواط. كل شوطٍ بثلاث مئة وستين درجةً، نعود للطواف مرة أخرى. ولكننا هذه المرة نكون أكثر تسليماً لله.

2- وبعد أن نكون قد قررنا التطهر من ذنوبنا، ندور في هذا الفلك بأقدامٍ عاريةٍ، معلنين تجديد العهد مع الله. والتوبة وثيقةٌ لهذا الإعلان..

1- والطواف مثل الصلاة فهو بحاجة لأن نكون على وضوءٍ بعكس الشعائر الأخرى التي لا تشترط الوضوء.

2- بعد الانتهاء من الطواف نصلي ركعتين خلف مقام إبراهيم إذا أمكن ذلك، أو في أي مكان من المسجد الحرام، لنتوجه بعد ذلك إلى السعي بين الصفا والمروة.

1- السعي:

نبدأ سعينا بين الصفا والمروة.. سعياً بين هاتين الهضبتين اللتين سعت بينهما السيدة هاجر بحثاً عن الماء لإطفاء ظمأ ابنها.. هذا المكان الذي شهد صراعاً ضد الجوع والعطش وضد وسوسة الشيطان.

2- هذا الركن من أركان الحج يحمل في طياته الكثير من العبر، فبعد الانتهاء من السعي بين الصفا والمروة سبع مراتٍ يكتسب الحاج مرةً أخرى مفاهيم كان قد فقدها أو نسيها وهو في خضم تيار الحياة الدنيا.. مفاهيم التسليم لله عز وجل، والعفو عند المقدرة، وحب الآخرين.

1- بعد الانتهاء من الطواف والسعي بين الصفا والمروة نعود إلى منى لنقضي فيها ليلتنا وفقاً للسنة النبوية، وإن كنا قد أتممنا فرائض الحج، إلا أن رحلتنا لم تنته بعد، فغداً هو يومٌ آخر لرمي الجمرات.

2- كأننا بالأمس واليوم قد شهدنا يوم المحشر.

فرحلة الحج التي طالما استعددنا لها طوال حياتنا، كأنها يوم المحشر.. بعد هذا الاختبار نعود إلى خيامنا لنأخذ قسطاً من الراحة من تعب مزج بحلاوة التمتع بأداء هذه الفريضة.

1- نعود إلى خيامنا لنتوجه بالدعاء إلى الله.

وبين التضرع والانتظار فرصةٌ للالتقاء بإخواننا المسلمين الذين جاؤوا من مختلف بقاع الأرض.. فرصةٌ لتبادل الثقافات والتعرف على العادات، والتباحث في قضايا المسلمين.

2- منى في الحادي عشر من ذي الحجة.

جاء في رواية عن رمي الجمرات الثلاث، أن إبليس ذهب إلى سيدتنا هاجر التي لم تكن على علم بأمر الله لزوجها بذبح ابنه إسماعيل، وحاول إبليس أن يقنعها أن هذا لا يليق بنبي، إلا أن السيدة هاجر التي سلمت أمرها لله تعالى، ردت عليه برجمه، حتى أبعدته عنها، ليذهب بعد ذلك إلى سيدنا إسماعيل وقام هو الآخر برجمه، وعندما حاول إبليس الدخول إلى صومعة سيدنا إبراهيم عليه السلام قام برجمه ولعنه.

1- منى في الثاني عشر من ذي الحجة.

اليوم هو الثاني عشر من ذي الحجة، ثالث أيام عيد الأضحى، يوم رجم إبليس بالجمرات الثلاث. جموعٌ غفيرةٌ تسير فوق هذا الجسر العملاق، إنه لمنظرٌ يستحق المشاهدة. منظرٌ لأكبر مظاهرة تبدأ منذ ساعات الصباح الأولى وحتى المساء.. مظاهرة احتجاجٍ يلعن فيها إبليس، في كل مرةٍ ترمى فيها هذه الحصيات تعني لعنة الشيطان إلى الأبد.

وتعبر عن حالة من الحرب المعلنة ضد الشيطان فيما تبقى من حياتنا.

1- هنا يبدأ الحاج ينظر إلى الدنيا نظرةً مختلفةً، فقد جعل من حياته مكاناً محرماً على الشيطان لا يقوى على اقتحامه.

2- هذه الجمرات الثلاث تبدأ بالنزول على المكان المرموز به لإبليس تماماً مثل حجارة السجيل في حادثة الفيل.. يجتمع الحجاج كل تحت علم بلاده، فيبدو المشهد كأنه منظرٌ لجيشٍ منتصرٍ، يقف مرفوع الرأس بعد الحرب التي أعلنها على إبليس –رمز الشر- في هذا المكان.

1- طواف الوداع:

طواف الوداع.. هو الطواف الذي ننهي به رحلتنا الطويلة هذه.

نودع السيدة هاجر وابنها إسماعيل عليه السلام..

2- نودع مقام إبراهيم عليه السلام.

2- وفي النهاية نودع بئر زمزم.

1- نعيش هذا الجو الرباني.. الروحاني..

ومع مفارقة هذا المكان ينتابنا الشعور بالخوف والارتباك، ويسيطر علينا الحزن والألم، لتنتهي بهما رحلةٌ كأنها كانت حلماً.

2- دموعٌ تنهمر كتلك التي انهمرت من عيون أبي بكر الصديق في وداعه للكعبة وبعد سماعه لخطبة الوداع.

1- ثم نتوجه إلى المدينة المنورة لعل زيارتها تخفف من هذا الحزن.. نتوجه إلى هذه المدينة المباركة بأرضها ومائها وتمورها.

2- بتلك الروح العالية التي أحاطت بالصحابة أثناء الهجرة، يتوجه الحاج الذي أنهى طواف الوداع إلى المدينة المنورة.. مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدينته.

1- لقد أيقن الرسول عليه الصلاة والسلام أن الوقت قد حان للهجرة وترك مكة بعد أن زادت معاناة الصحابة من الظلم والتعذيب الذي تعرضوا له على أيدي المشركين، وترسخ هذا الاقتناع لدى النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن التقى الرسول اثني عشر مسلماً في بيعة العقبة، وكان قد قدم هؤلاء من يثرب التي تعرف اليوم بالمدينة المنورة.

2- بالقرب من منى، وفي منطقة العقبة بايع هؤلاء الصحابة الرسول عليه الصلاة والسلام بأن لا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتانٍ يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصونه في معروف.

1- بعد هذه البيعة بدأ الإسلام ينتشر بسرعةٍ في المدينة، إذ وصل عدد الذين بايعوا الرسول عليه الصلاة والسلام في بيعة العقبة الثانية ثلاثةً وسبعين رجلاً وامرأتين، بايعوا الرسول في منتصف الليل، وأخذ عليهم عهداً بإطاعته.

2- مد الصحابة أيديهم إلى الرسول وبايعوه، وأرست هذه البيعة الأسس لقيام دولةٍ إسلامية في المدينة فقد بايعوا النبي الكريم على أن يعبدوا الله وحده، ولا يشركوا به شيئاً، وعلى أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم.

1- بعد بيعة العقبة الثانية قررت قريش قتل الرسول، وأرسلت أقوى رجالها لارتكاب هذه الجريمة، لكن النبي القائد الشجاع عليه الصلاة والسلام، كان قد خرج ليلاً إلى جبل ثور بصحبة أعز أصدقائه أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ليمضيا في مغارة في أعلى هذا الجبل الذي يصعب تسلقه، ثلاثة أيامٍ بلياليها.

2- كانت قريشٌ تبحث عنهما في كل مكان إلى أن وصلوا إلى باب المغارة، ولكن الله سبحانه وتعالى أحاط الرسول وصاحبه بعنايته، فأمر العنكبوت أن ينسج بيته على مدخل الغار، فارتد المشركون على أعقابهم خائبين.

(إذ قال لصاحبه لا تحزن إن الله معنا).

1- غار ثورٍ ملجأ الهجرة إلى المدينة.

هذا الجبل الذي يستغرق الوصول إلى قمته ساعتين ونصف الساعة، يتيح إلى من وصل إلى قمته التمتع بمشاهدة مكة والمسجد الحرام. وكما هو الحال في غار حراء فإن مشاهدة غروب الشمس وبزوغها من قمة هذا الجبل الذي قضى الرسول عليه الصلاة والسلام في مغارته ثلاثة أيام بلياليها، أمرٌ يستحق عناء الصعود إلى قمته.

2- طلع البدر علينا من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ما دعا لله داع

أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع

1- استغرق وصول الرسول إلى المدينة سبعة أيام بلياليها، واليوم يمكن الوصول إليها بزمنٍ قصيرٍٍٍ عبر الطرق الحديثة والمعبدة.

2- أثناء رحلتنا هبت علينا رياحٌ رمليةٌ، وبالرغم من أننا كنا بداخل السيارة، إلا أننا أدركنا حجم المعاناة التي واجهها الرسول عليه الصلاة والسلام خلال رحلته.

1- أخيراً نصل إلى حبيبة المدائن بعد أم القرى.

2- وصل الرسول وأبو بكر إلى المدينة في يوم الاثنين، الثامن من ربيع الأول سنة أربع عشرةً من النبوة، وبعد مكوث ثلاثة أيام في قباء، أمر الرسول ببناء أول مسجد في الإسلام.. هذا المسجد الذي حرص الرسول على أن يشارك في نقل حجارته بنفسه.. إنه مسجد قباء الذي يبعد عن المسجد النبوي أربعة كيلو مترات، وهو أول مسجد تقام فيه صلاة جماعة في الإسلام.

1- في صباح يوم الجمعة كان الرسول والصحابة يتوجهون نحو المدينة، وعندما حان وقت صلاة الظهر، وكانوا قد وصلوا إلى وادي رانوناء، أدوا صلاة الجمعة في بطن ذلك الوادي، وكانت أول جمعة يصليها في المدينة، وقد تم بناء مسجد فيما بعد حمل اسم مسجد الجمعة وهي أول صلاة يؤديها الصحابة وهم أحرار.

2- بعد الصلاة تابع الرسول والصحابة رحلتهم فوق ظهور الجمال، وعندما وصلوا إلى المدينة توجهت الناقة "القصواء" التي كان يمتطيها الرسول نحو مربد يمتلكه يتيمان من المدينة.

1- أبى النبي إلا أن يدفع ثمناً لهذا المربد، في خطوةٍ أولى لوضع أساس المسجد النبوي فيما بعد.

2- خصص أبو أيوب الأنصاري جزءاً من بيته للرسول عليه الصلاة والسلام، ليحظى بشرف استضافة النبي صلى الله عليه وسلم.

هذا الصحابي الجليل الذي كان ممن بايع الرسول من أهل المدينة في بيعة العقبة، وكان أيضاً من ضمن الجيش الإسلامي الذي أحاط بالقسطنطينية أو بما تعرف اليوم بإستانبول ليسقط شهيداً تحت أسوارها.

1- على الفور بدأ الرسول والصحابة ببناء المسجد، وكما هو الحال في مسجد قباء فقد تم بناء هذا الجامع بلبنٍ من الرمل. وقد وضع الرسول حجراً في وسط الحائط علامةً للمحراب الذي وجهته نحو القدس. واستخدمت أشجار النخيل لتغطية سقفه، وخصص قسمٌ من المسجد لإيواء الضعفاء والفقراء.

2- لم يكن بيت الرسول أكثر راحةً من المسجد، فقد تم بناؤه بعيداً عن جميع أنواع المظاهر البراقة. وقد شارك الجميع في بناء المسجد: المهاجرون الذين تركوا بيوتهم وأموالهم، والأنصار الذين آثروا على أنفسهم وشاركوا المهاجرين في بيوتهم وأموالهم وتجارتهم.

1- مرحلةٌ جديدةٌ بدأ الصحابة يتمتعون فيها بحرية الإيمان وأداء واجباته الدينية بحرية، بعيداً عن التعذيب والظلم، وقد فرضت الزكاة ونزلت الأحكام في الكثير من المسائل. مرحلةٌ كان الإسلام قد أرسى قواعده فيها..

2- كان بلال الحبشي أول من يؤذن في هذا المسجد بطلبٍ من النبي عليه الصلاة والسلام، فقد وصل صوته العذب إلى كل بيت ورقعةٍ في المدينة.

1- بينما كان الرسول يصلي في الجامع الذي يسمى اليوم بجامع القبلتين، نزل عليه الوحي بآياتٍ تأمره بالتوجه في صلاته نحو مكة.. وبذلك يكون الرسول الذي كان يستقبل القدس في صلاته، صار يستقبل الكعبة.. لهذا السبب أطلق على هذا الجامع اسم مسجد القبلتين.

2- كان يوم الجمعة السابع عشر من آذار نقطة تحول في حياة الإنسانية، فقد كانت جيوش قريشٍ قد بدأت بالالتفاف حول بدر والنزول من تلالها وكانت الخيول والجمال مزينة وكانت طبول الحرب تقرع معلنةً بدء أول معركة بين جيوش الكفر والإيمان.

1- عندما رأى النبي عليه الصلاة والسلام هذا المنظر دعا الله سبحانه وتعالى بالنصر على جيش قريش الذي بدا عليه الغرور والكبر.

2- وبالفعل فقد عاد جيش قريش مهزوماً دون أبي جهل إلى مكة، وهزم من قبل ثلاث مئة مجاهد فقط كانوا مسلحين بالإيمان، هزموا ألفاً من المشركين.

1- وفي محاولة للثأر جهزت قريشٌ جيشاً بقيادة أبي سفيان في السنة الثالثة للهجرة، وكان قوامه ثلاثة آلاف من المقاتلين.

2- كانت معركة أحد تنتظر الصحابة بعد نصرهم المبين على قريش في بدر، هذه المعركة التي جاءت لتكون اختباراً لمن لم يطع أوامر الرسول بعدم ترك مواقعهم، فكان الثمن أن استشهد سبعون صحابياً وعلى رأسهم سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه.

1- كان الرسول صلى الله عليه وسلم يزور باستمرار قبور شهداء معركة أحد، وعلى الأخص قبر عمه، ويدعو له ولجميع من سقطوا في سبيل الله، إنها زيارة تحمل الكثير من الدروس والعبر.

2- هذا المكان الذي كان يعرف بمسجد الفتح، كان غرفة عمليات للرسول في معركة الخندق، وكان المشركون هذه المرة قد جهزوا جيشاً من عشرة آلاف رجلٍ في محاولةٍ للقضاء على الدعوة الإسلامية.

1- المسلمون الذين كان عددهم آنذاك ثلاثة آلاف رجل، كان الرسول قد أمرهم بحفر خندقٍ حول المدينة كخطةٍ دفاعية أشار بها سلمان الفارسي رضي الله عنه. ذهل الكفار مما رأوه أمامهم، وحاولوا الالتفاف حول الخندق بمساعدة اليهود، وفشلوا في اختراقه.. وذات ليلة هبت الرياح العاتية على خيام المشركين، فمزقتها شر ممزق، فولوا مدبرين لا يلوون على شيءٍ.. رجعوا إلى ديارهم خاسئين خائبين.

2- البقيع

كانت مقبرة البقيع قرب المسجد النبوي، أحد الأماكن التي كان النبي عليه الصلاة والسلام يزورها باستمرار.

1- هنا وفي مدخل البقيع دفنت بنات الرسول صلى الله عليه وسلم. دفنت السيدة فاطمة وأحفادها وزوجاتهم. وفيه قبر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذي النورين عثمان بن عفان.

2- هنا يرقد ابن الرسول إبراهيم الذي وافته المنية وهو طفل صغير.. هنا يرقد بعض الصحابة الأبرار الذين ضحوا بالكثير في سبيل الدعوة الإسلامية.

1- بعد زيارة البقيع نعود إلى المسجد النبوي الشريف، حرصاً على الصلاة جماعةً، لما لها من أجرٍ كبير، فالصلاة فيه تعدل ألف صلاةٍ في سواه من المساجد، ما عدا المسجد الحرام.

2- اليوم هو يوم الجمعة، يبدأ أهل المدينة ومن فيها من الحجاج والزوار بالتوافد على المسجد النبوي في منظرٍ يفوق الروعة.. في هذا اليوم تخفق قلوب الآلاف من المسلمين بقلبٍ واحد.. يقف المصلون في صفوف واحدةٍ متراصةٍ غير مبالين بأشعة الشمس الحارقة، خاصةً في ظل الشعور بأن هذه الصلاة طالما صلاها الرسول وأصحابه في هذا المكان المبارك، وتحت وقدة هذه الشمس اللاهبة.

1- في المسجد النبوي يسعى الآلاف من المسلمين للوصول إلى قبر الرسول الكريم، وإلقاء التحية عليه، ومنهم من يحرص على صلاة ركعتين في روضته الشريفة.

2- كان عدد الصحابة الذين صلوا أول جمعة مع الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز المئة، واليوم هو يوم الجمعة أيضاً، تصلي الآلاف المؤلفة من المسلمين في المسجد النبوي الشريف وفي ساحاته الواسعة الجميلة، في مشاهد حية تأخذ بالألباب، وتدل على عظمة الإسلام.

1- بعد انتهاء صلاة الجمعة ينتشر المصلون في شوارع المدينة التي تناوب محلاتها أربعاً وعشرين ساعة.

وما يميز المدينة اشتهارها بتمورها الطيبة.. الكل يسعى لإكرامك بشيء من القهوة والتمر. إنه من كرم الضيافة التي اكتسبها أهل المدينة من الذين وصفهم الرسول عليه الصلاة والسلام بالأنصار.

2- المدينة مساءً

في ساعات المساء يضاء المسجد النبوي بألوان تبهر الأنظار، حيث بالإمكان رؤية قبة المسجد الخضراء التي أصبحت شعاراً، وبات النور المنبعث من المسجد يضيء شوارع المدينة.

1- السلام عليك يا رسول الله.. السلام عليك يا حبيب الله.. السلام عليك يا صفي الله..

2- هنا في ركن السعادة يرقد النبي صلى الله عليه وسلم.. في هذا المكان المبارك في هذا الكون، من يفوز بصلاة ركعتين، والدعاء في الروضة المطهرة فهو محظوظ.

1- يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما بين بيتي ومنبري روضةٌ من رياض الجنة" صدق رسول الله... إنها روضةٌ تحيطها الرحمة والعناية الإلهية..

2- وبجانب الرسول صلى الله عليه وسلم، يرقد صاحباه الجليلان: أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، رجلان أرسيا دعائم الإسلام، وزلزلا الأرض تحت أقدام المشركين.

1- جئنا إلى الحج لنلبي دعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام.

2- ونرحل عن هذا المكان الطاهر بعد أداء مناسك الحج، وزيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلام عليه وبهذا نكون قد وجدنا أنفسنا..