التحقيق

محمد توفيق بركات

التحقيق

تأليف: محمد توفيق بركات*

أهدي (التحقيق):

إلى الذين كتب عليهم فذاقوا.

وإلى الذين كتب عليهم أن يذوقوا.

وإلى الذين عافاهم الله من بلاء كبير.

تبصرة وذكرى.

الشخصيات

- خالد:

- زهير:

- سالم:

- ناجي:

شباب في أعمار متقاربة، جامعيون.

- الرئيس : المحقق الذي تولى الاستجواب.

- حارس المحقق.

- أبو سامي:

- أبو نذير:

حارسان للسجن

- أبو جاسم:

- أبو عنتر:

- جبر:

معذبون جلادون

- المجهولون:

ثلاثة من رجال المخابرات

ثلاثة من رواد مقهى

المشهد الأول

الخطف

شخصيات المشهد:

- الشباب الأربعة: خالد، زهير، سالم، ناجي

- ثلاثة من رجال المخابرات

غرفة صغيرة بسيطة، عارية الجدران، تحلق فيها أربعة شباب حول طاولة، أمامهم مصحف، وبعض الأوراق.

زهير: لقد تأخر جمال عن الموعد أكثر من اللازم.

خالد على خلاف عادته.

ناجي: لا تقلقوا، لعله يأتي بعد قليل إن شاء الله.

زهير: إنني قلق لغيابه.

سالم: لا داعي إلى القلق يا أخي، يقولون إن الغائب عذره معه.

زهير: إنني أتوجس شراً.

ناجي: بل تفاءل خيراً. لا يحدث إلا المقدر.

زهير: صدقت.

ناجي: لنبدأ، فإننا تأخرنا، بسم الله الرحمن الرحيم (والعصر. إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر). صدق الله العظيم. هل هيأت الموضوع يا زهير؟

زهير: نعم، هل أبدأ؟

ناجي: انتظر قليلاً. إنني أسمع صعوداً على الدرج. ربما حضر جمال.

(الجميع ينصتون لوقع أصوات أرجل تصعد الدرج).

ناجي: الصاعدون كثيرون.

زهير: لعلهم بعض الأصدقاء، جاءوا لزيارتي. كيف سأردهم يا ترى؟

(يرن الجرس رنات متوالية).

ويقوم زهير متباطئاً، بينما يقوم ناجي بجمع الأوراق الموجودة على الطاولة ويدسها في جيبه على عجل. ويذهب زهير نحو الباب ويفتحه ويظهر أمامه ثلاثة رجال مدنيون أحدهم بيده مسدس.

زهير (مرتبكاً): نعم؟!

أحد الثلاثة: أنت زهير؟

زهير: نعم.

الرجل السابق: معنا أمر بتفتيش غرفتك لوجود منشورات سرية فيها.

زهير: من أنتم؟

الرجل: نحن عناصر الأمن.

زهير: أين (الأمر) الذي يأذن لكم بتفتيش غرفتي؟

حامل المسدس: اخرس، معنا أمر وكفى.

زهير: ولكن وزير الداخلية أذاع بلاغاً على الناس بعدم السماح لأحد بدخول البيوت وتفتيشها إلا بإذن موقع من الوزير نفسه و..

حامل المسدس: كفى هراء. معنا إذن شفوي وسندخل حتماً. واشكُ أنت للوزير.

(يدفع بالمسدس في صدر زهير، ويدخل الثلاثة الغرفة وأمامهم زهير).

الرجل الثالث: ارفعوا أيديكم، إياكم أن تأتوا بأية حركة.

حامل المسدس: كونوا هادئين عقلاء.

(يقوم الرجل الأول بتفتيش الغرفة بهدوء وتأنٍّ ولكنه لا يرى طائلاً، فيصرخ):

أخرجوا المنشورات التي تخفونها وإلا فإننا سنرسلكم إلى القبور فوراً.

(ينظر الشباب الأربعة بعضهم إلى بعض نظرة ذات مغزى).

الرجل الثالث: (بلهجة الآمر) فتش جيوبهم.

(يقوم الرجل الأول بتفتيش جيوبهم واحداً فواحداً تفتيشاً دقيقاً، وقد بدا الاضطراب في وجه زهير حين جاء دور ناجي، ولكن اطمأن حين لم يجد المفتش مع ناجي شيئاً).

الرجل المفتش: لا شيء في جيوبهم يا سيدي.

الرجل الثالث: تكلموا. أين أخفيتم النشرات؟

زهير: كما رأيت. ليس عندنا ما تبحثون عنه. إننا أبرياء.

ناجي: يا جماعة نحن في زيارة لصديقنا. (ملتفتاً إلى أصحابه): إنهم يظنون فينا الظنون.

الرجل الثالث: اخرس. (يشير برأسه إلى الرجلين) اقتادوهم إلى السيارة وسألقي نظرة أخيرة إلى البيت.

(يخرج الشباب الأربعة يتقدمهم المفتش، ويمشي خلفهم حامل المسدس، ويلحقهم زعيمهم بعد قليل).

* * *

المشهد الثاني

الاستجواب

شخصيات المشهد:

- الشباب الأربعة.

- المحقق.

- بواب المحقق.

- المكان: غرفة المحقق.

(غرفة كبيرة مؤثثة بأثاث فاخر، في صدرها طاولة فخمة يجلس وراءها رجل ضخم الجثة كبير الرأس عبوس الوجه على عينيه نظارة سوداء، يدخن من غليون. أمامه جهازا هاتف، ودلي بجانبه سلك ينتهي بمضغط جرس)

(يمد الرجل يده اليسرى فيدق الجرس، فيدخل على الفور بهدوء رجل طويل ويسلم سلاماً عسكرياً، فلا يرفع له رأسه ولا يرد سلامه).

الرجل الداخل: أمر يا سيدي.

المحقق: أدخل علي رقم 14.

الرجل: أمرك سيدي. (يخرج كما دخل: يسلم دون أن يتلقى رداً).

(تمضي لحظات ويدخل الحارس ومعه زهير، ويحيي التحية العسكرية).

الرجل: نفذ الأمر يا سيدي. (يومئ له المحقق فيخرج كما دخل).

المحقق: (متكلفاً البشاشة): أهلاً وسهلاً. كيف حالك؟

زهير: (بصوت خافت): الحمد لله.

المحقق: كيف قضيت ليلتك بالمنفردة؟

زهير: ....

المحقق: هذه هي المرة الأولى، أليس كذلك؟

زهير: بلى.

المحقق: أؤمل أن لا تتكرر.

زهير: أرجو ذلك.

المحقق: تفضل اجلس على الكرسي الذي بجانبك.

(يجلس زهير وهو مطرق).

المحقق: هل تعشيت البارحة؟

زهير: لا.

المحقق: لماذا لم تطلب طعاماً؟

زهير: ممن أطلب؟ كنت في صندوق حديد ولم أر أحداً!

المحقق: صندوق حديد؟ لا، لا، إنها غرفة مزودة بكافة الضروريات: سرير وبطانيات وحنفية.

زهير: نسيت شيئاً.

المحقق: ما هو؟

زهير : نسيت بيت الخلاء بداخل الغرفة.

المحقق: (متجاهلاً ملاحظته) كيف كان الجو؟

زهير: كان بارداً جداً. لأن السرير ليس سوى قطعة من الإسمنت، ولم يكن عندي غير ثلاث بطانيات اتخذت واحدة فراشاً وأخرى لحافاً والثالثة مخدة.

المحقق: سنعطيك ما تحتاجه إذا كنت صادقاً وتعاونت معنا، فنحن لا مصلحة لنا في إلقاء القبض عليك، ولكننا نريد تطهير البلد من العناصر الخطرة.

زهير: وما علاقتنا بالعناصر الخطرة؟

المحقق: علاقة وثيقة جداً لا تخفى عليك.

زهير: أخشى أن يكون في الأمر التباس، نحن أبرياء.

المحقق: ستكونون أبرياء إذا أعنتمونا على تطهير البلد من الأشرار.

زهير: أكون سعيداً لو اشتركت في القضاء على الأشرار.

المحقق: اتفقنا إذن.

(يعتدل الرئيس في جلسته، وتغيرت سحنته، وصار يتكلم بجدية كاملة):

المحقق: منذ متى انتسبت إلى الجماعة الإسلامية؟

زهير: أنا لم أنتسب إلى أية جماعة قط.

المحقق: انتسابك إليها أمر مفروغ منه، نريد فقط تاريخ الانتساب.

زهير: قلت لك إنني لم أنتسب إلى أية جماعة.

المحقق: ولكننا نملك الوثائق الدامغة.

زهير: لعل هناك خطأ.

المحقق: بل هذه هي الحقيقة.

زهير: كيف تعرف عني ما لا أعرفه عن نفسي؟

المحقق: لا فائدة من المراوغة.

زهير: ولا فائدة من هذا الأسلوب.

المحقق: إن الجماعة التي تنتسب إليها عميلة للاستعمار، ولذلك يجب أن يتعاون كافة الوطنيين الشرفاء لفضحها.

زهير: إنني لم أنتسب إليها، ولكن الجماعة المذكورة بريئة من هذه التهم.

المحقق: دفاعك عنها يثبت أنك منها.

زهير: لا بد أنك توافقني على خطأ هذا الاستنتاج.

المحقق: لماذا تدافع عنها إذن؟

زهير: لأن الحق يجب أن يقال. إن الاتهام وحده لا يدين، بل لا بد من دليل التجريم حتى يكون المتهم مجرماً حقاً.

المحقق: نحن عندنا أدلة كثيرة.

زهير: لماذا لا تظهرونها؟

المحقق: لا داعي لأن نطلع الناس على كل شيء.

زهير: إنكم تذكرون جريمة وتنسبونها إلى ناس معينين، ثم لا تذكرون أدلتكهم مع وجود الداعي إليها، فكيف تفسرون سلوككم هذا؟

المحقق: الثقة بنا تكفي لتصديقنا دون وجود داع لإثبات التهم بأدلتها.

زهير: فإذا طالبكم الناس بالدليل هل تقدمونه إليهم؟

المحقق: لا. نحن لا نظهر إلا ما نريد. وعلى كل حال إن الذي يطالبنا بالدليل لا يثق بنا، وكل من لا يثق بنا خائن عميل.

زهير: إذا كان الأمر كذلك فإن أغلبية الناس خونة عملاء، والأقلية هي الشريفة.

المحقق: ليكن كذلك. الثقة هي المقياس.

زهير: ولكن طلب الدليل حق طبيعي لكل أحد.

ألا تعرف القاعدة القانونية التي تقول إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته؟ ولا يكون إثبات بغير معرفة للدليل.

المحقق: يكفي أن يثبت عندنا.

زهير: بل يجب أن يثبت عند الناس أيضاً. إنني إذا لم أطلب الدليل، فإنني أكون قابلاً أية تهمة توجه لأي إنسان. ما رأيك إذا اتهمك إنسان بأنك جاسوس إسرائيلي؟

المحقق: هذا كذب بداهة، فأنا معروف بوطنيتي وإخلاصي، ويكفي لإثبات نزاهتي أن تعلم أنني حارس الثورة على راحة المواطنين وأمنهم.

زهير: وهذه الجماعة لها ماض معروف بالنصاعة.

المحقق: ولكن ذلك مجرد ادعاء.

زهير: الواقع أن هذا الادعاء مشفوع بأدلة لا ترد، ولكن لو فرضنا جدلاً أن ذلك ادعاء دون برهان، فلماذا لا يكون ادعاؤك النزاهة ضد الاتهام بالتجسس مجرد اتهام أيضاً؟!

المحقق: (مغضباً): أنت وقح، قليل الأدب.

زهير: إنني لم أتلفظ بلفظة بعيدة عن الأدب حتى أكون قليل الأدب.

المحقق: اسكت يا حقير.

(يمد يده ويدق الجرس، فيدخل حارسه السابق، ويسلم سلاماً عسكرياً).

المحقق: خذ هذا المجرم وبلغ (الشباب) وجوب إعطائه درساً ثورياً.

الحارس: أمرك سيدي.

المحقق: لا داعي لأن تقدموا له طعاماً لأنه صائم..

الحارس: مفهوم سيدي.

المحقق: أدِّبوه لأنه يخفي عنا حقائق يعلمها.

الحارس: سنجبره على قول الحقيقة.

المحقق: خذ وليأتِ رقم 13. (يخرج زهير ووراءه الحارس).

* * *

(تمضي فترة والمحقق في حالة عصبية ظاهرة، ثم يدخل الحارس، ووراءه سالم ويحيي رئيسه، فيومئ له الرئيس بالخروج، يخرج ويبقى سالم).

المحقق: سالم، أليس كذلك؟

سالم: بلى.

المحقق: كم عمرك؟

سالم: ثلاثة وعشرون عاماً.

المحقق: أنت في أول الشباب، ويجب أن تعرف كيف تحافظ عليه، وتستمتع به.

سالم: طبعاً.

المحقق: هل تحب الحرية؟

سالم: نعم، ومن لا يحبها؟

المحقق: لا أحد، ولذلك يجب أن تتصرف معنا بحكمة لنحافظ على حريتك. إن حريتك في أيدينا، ولن تنالها إلا بالتصرف العاقل البعيد عن التهور. نريد منك بعض المساعدة، ثم تخرج من هذا المكان الرهيب معززاً مكرماً، وإذا بخلت علينا بما تستطيع تقديمه إلينا فإننا سنضطر آسفين إلى إجبارك على تقديم المساعدة.

سالم: ما هي المساعدة التي تطلبها مني؟

المحقق: أنت وأصحابك منتمون إلى الجماعة الإسلامية كما تؤكد وثائقنا الثابتة، واعترف به قبلك زهير الذي كنتم مجتمعين في بيته اجتماعكم الأخير، والذي أريده هو..

سالم (مقاطعاً): ولكن هذا غير صحيح.

المحقق: لا مجال للشك في هذا الأمر بعد اعتراف زهير.

سالم: إنني لم أنتمِ إلى أية جماعة، وأعتقد أن بقية زملائي هم كذلك، ولست أصدق أن زهيراً يقول هذا الذي تذكره.

المحقق: أتكذبني؟

سالم: أقصد أن..

المحقق (مقاطعاً): أنت حقير. سأحضر لك صاحبك بعد قليل ليعترف أمامك بأنه ذكر لنا كل شيء، ثم يكون لنا معك حساب شديد.

سالم: مهما يكن فإنني لم أنتمِ إلى أية جماعة.

المحقق: إذن ماذا كنتم تعملون في بيت زهير؟

سالم: زيارة عادية. نحن أصدقاء.

المحقق: والمصحف الذي كان أمامكم ماذا يعني؟

سالم: ماذا يعني؟

المحقق: دراسته جزء من برنامج حزبكم الهدام.

سالم: الهدامون لا يدرسون القرآن الكريم.

المحقق: أنتم تدرسون القرآن لتبحثوا عن الآيات التي تستطيعون تحريفها.

سالم: من نحن؟

المحقق: أنت مراوغ! قلت لك إننا نعرف عن حقيقتكم كل شيء. وسأريك ذلك بالدليل بعد قليل. إنما أريد أن تطلعني على المكان الذي أخفيتم فيه آخر نشرة لكم لأنها تهمنا.

سالم: لست أدري كيف أقنعك.

المحقق: كلمني بمنطق الحقيقة ودع الكذب.

سالم: إنني لست منتمياً إلى أية جماعة، وبناء على ذلك، فأنا لم أطلع على أية نشرة لهذه الجماعة، ولا يصح أن تسألني عن مكانها.

المحقق: إذن أنت لا تعلم؟

سالم: لا أعلم.

المحقق: وإذا ثبت لنا أنك تعلم فما هي العقوبة التي تقترحها لنفسك؟

سالم: لا أعلم، ولذلك فلا عقوبة علي.

المحقق (بغيظ): أنت تعلم وسترى العقاب.

(تمضي فترة صمت طويلة كان الرئيس المحقق خلالها ينفخ في غليونه. وفجأة توجه بسؤال غير متوقع:

المحقق: ألا تدخن؟

سالم: لا.

المحقق: والقهوة.

سالم: لا أريدها.

المحقق: لا تأكلون طعامناً لأننا كفار. أليس كذلك يا مولانا الشيخ؟!

سالم:...

المحقق ما رأيك في الجماعة الإسلامية؟

سالم: معلوماتي عنها قليلة.

المحقق: كذاب.

سالم: ...

المحقق: ما رأيك في الطريقة التي ندير بها شؤون البلاد؟

سالم: ...

المحقق: كن صريحاً.

سالم: هل أملك الحرية في الصراحة!

المحقق: نعم. نعم. الحريات مكفولة في العهد الثوري. وإعادة الحريات إلى الشعب أهم أسباب وجود الثورة.

سالم: أنا لا أؤمن بالنظام القائم كله.

المحقق: (مندهشاً): كله.

سالم: نعم.

المحقق: أقسم إن هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها من يرفض نظامنا جملة وتفصيلاً.

سالم: أراك مندهشاً من جوابي، فماذا كنت تتوقع مني؟

المحقق: أتوقع أن تكون لك ملاحظات على جوانب معينة، أما رفض النظام. لا ريب أنك مجنون!

سالم: إنني أعتقد أن كل نظام لا يقوم على أساس الإسلام يجب أن يرفض.

المحقق: آه إنكم تريدون العودة بنا إلى عصر الجمل! لا يا هذا نحن في عصر الذرة.

سالم: أنت لا تعرف الإسلام، ولو عرفته لما قلت هذا الكلام.

المحقق: لا أشعر بأية خسارة إذا لم أدرس شيئاً فات أوانه.

سالم: أنا أعتقد أن كل حين يصح أن يكون أوان الإسلام.

المحقق: دعنا من هذا. قل لي ما رأيك بالقيادة السياسية؟

سالم: إذا تجاوزنا الناحية الأولى تبين لنا أنهم لا خبرة لهم بشئون الحكم ويعتمدون على الدعاية، ثم إنهم لم ينفذوا أية وعد قطعوه على أنفسهم.

المحقق: أنت متأثر بدعايات الطابور الخامس. إن رجال الحكم مجموعة من النوابغ والعباقرة، أما الدعاية فهي شيء ضروري بكل زمان.

سالم: والوعود؟.

المحقق: سياسة. لو كنت تعرف السياسة لعرفت أن البيانات الأولى التي أطلقها الثوار كان يراد بها أن يتجمع الشعب حول الثورة. ثم يبقى الكلام كلاماً والحقيقة حقيقة. فإذا استتب الأمر للثورة من بعد فعلت وفعلت.

سالم: ولكنها كذب على الأقل.

المحقق: ذلك جزء من العمل السياسي، لأن الأمور تقاس بمقياس فائدة الثورة لا بمقياس الأخلاقيات القديمة.

سالم: كيف تضعون ثقتكم في ناس لا تعرفونهم، وكل المعلومات عنهم تدل على ضعف إمكاناتهم الفكرية والسياسية؟

المحقق: إشاعات كاذبة، ثم إن العلاقة ليست متلازمة بين الصفاء الثوري وتراكم المعلومات. والدليل على بعد نظر القيادة السياسية هو تلك التحليلات العميقة للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الداخلية، وتلك المواقف الصائبة من مسائل السياسة الدولية.

سالم: بصرف النظر عن تقييم التحليلات والمواقف فإن الشعب غير متجاوب معها.

المحقق: الشعب لا يعرف مصلحته الحقيقية.

سالم: ولكن مصادر الإعلام دأبت على القول بأن الشعب هو معلم الثورة وصانعها وحاميها.

المحقق: المقصود هو الطليعة الشعبية الواعية المساندة للثورة.

سالم: إذن مجموع الشعب ليس هو المعلم والسيد؟

المحقق: هو السيد والمعلم في التحليل الأخير.

سالم: والآن هو ليس كذلك.

المحقق: طبعاً هو ليس كذلك.

سالم: لماذا لم تقل تحليلاتكم ذلك للشعب؟

المحقق: ما كل ما يعلم يقال.

سالم: ما رأيك إذا نقلت هذا عنك؟

المحقق: سأدق عنقك..

سالم:...

المحقق:: لنعد إلى الموضوع الأصلي. من هو المسؤول عنكم.

سالم: لد أكدت لك عدم انتمائي إلى أي حزب.

المحقق: ستدفع ثمن امتناعك عن الإدلاء بالمعلومات لنا غالياً جداً يا شيخ سالم.

سالم: أستعين بالله وأصبر.

المحقق: استعن بمن شئت، واصبر إن استطعت أن تصبر.

(يمد يده فيضرب بالجرس ويدخل الحارس فيحيي رئيسه).

المحقق: لقد كان الشيخ في ضيافتي، ولا داعي لتكليف أنفسكم بتهيئة طعام له.

الحارس: أمرك يا سيدي.

سالم: مضى علينا يوم ونصف يوم ونحن لن نذق شيئاً.

المحقق: لن تذوقوا طعاماً حتى تعترفوا بالحقائق كلها وتتعاونوا معنا. (موجهاً كلامه للحارس): يجب أن يلقن درساً في الأدب وسرعة الجواب أخبر (الشباب) بذلك.

الحارس: أمرك سيدي.

المحقق: أخرج يا شيخ. وليحضر رقم 6.

(يقوم سالم ويتبعه الحارس بعد التحية وحين يصلان إلى عتبة الباب ينادي المحقق).

المحقق: يا سالم. (يتوقف سالم ويلتفت ويتوقف الحارس).

سالم: نعم.

المحقق: لن يفيدك الصمت، وستعلم أن الصبر يقف عند عتبة هذا البناء ولا يدخله أبداً.

(يمضي سالم بهدوء دون أن يجيب ويتبعه الحارس).

* * *

(بعد فترة يدخل خالد، وعلى عينيه آثار النعاس، وخلفه الحارس الذي يحيي ويخرج).

المحقق: أهلاً، وسهلاً تفضل اجلس.

(يجلس خالد على الكرسي الذي جلس عليه من قبل زميلاه دون أن يتكلم).

المحقق: أرجو أن تكون ارتحت الليلة الماضية.

خالد: لا تجتمع الراحة مع البرد والجوع والإرهاب.

المحقق: سينتهي كل ما يزعجكم قريباً فور استكمالنا الإجراءات المتعلقة بأمن المواطنين وفي حالة تعاونكم معنا. ونرجو أن تقبلوا عذرنا، فنحن لا نريد بأحد سوءاً.

خالد: يبدو أنكم تعتبروننا خطرين جداً حتى تعاملونا هذه المعاملة.

المحقق: لا، لا، حدث بعض الإهمال غير المقصود، وأنتم إخواننا على كل حال. المرجو أن تنطلقوا أحراراً بعد لقائنا القصير هذا. ما رأيك بكأس من الشاي؟

(ودون أن ينتظر الجواب مد يده وضغط على الجرس فدخل الحارس وحيا).

المحقق: كأس من الشاي المخمر لأن (المشايخ) يحبون الشاي الثقيل.

الحارس: أمرك سيدي. (يحي ويخرج).

المحقق: إنني في الواقع مسرور جداً، لأن أصحابك عقلاء جداً، وفي منتهى الأدب، وقد تجاوبوا معي بصورة ممتازة، باستثناء ناجي الذي سأشرح لك أمره بعد قليل. إننا سنطلق سراحهم قريباً لأنهم لم يبخلوا علينا بكل المعلومات الضرورية. هناك فقط بعض الإجراءات الشكلية التي تحول دون إطلاق سراحهم، وحالما تنتهي سيغدون أحراراً. والأمل كبير أن نطلق سراحك معهم إذا تصرفت مثلهم بحكمة وتعقل.

(ثم اعتدل في جلسته وملأ غليونه وأشعله وهو يرمق خالداً ليرى أثر كلماته في وجهه وتابع):

المحقق: كيف كان تصرف رجال الأمن حين دخلوا عليكم البيت؟

خالد: بصراحة لقد تصرفوا بقسوة وفظاظة.

المحقق: يجب أن تسامحوهم، فهم مخلصون في خدمة الشعب. الحقيقة إنني كنت أمرت أن يكونوا لطيفين جداً معكم، ولكن لعل الأمر لم يصلهم. على كل حال أنا أعتذر عنهم.

خالد: عفواً.

المحقق: ما رأيك في ناجي؟

خالد: شاب ذو أخلاق عالية وفكر سامٍ.

المحقق: أنت تتكلم عن ظاهره طبعاً.

خالد: طبعاً، فالسرائر علمها عند الله. ولكنني أعتقد أنه طيب في السر والعلن.

المحقق: ما رأيك إذا كان في حقيقة أمره مخالفاً لكل ما تعرفه عنه؟

خالد: يجوز، ولكنه احتمال بعيداً جداً.

المحقق: هذا الذي تستبعده هو الواقع.

خالد: ما تقصد؟

المحقق: عندنا دلائل قاطعة على أنه منحرف سلوكياً ولا يتورع عن القضايا المخلة بالأدب والخلق.

خالد: لا بد أن هناك التباساً بينه وبين أخيه الكبير فإن أخاه موغل في الضلال.

المحقق: بل نقصده هو، وإننا نعرف أخاه معرفة جيدة، لأن المجتمع بالنسبة إلينا صفحة مكشوفة.

خالد: لعل هناك وشاية كاذبة.

المحقق: إننا ندرب رجالنا ونربيهم على الصدق الكامل والأمانة في النقل.

خالد: ألا يمكن أن تخالف هذه القاعدة مرة واحدة؟

المحقق: خرق قواعد العمل مستحيل.

خالد: عجيب.

(تبرق عينا المحقق من الفرح وهو يكتم ابتسامة تحاول الظهور على شفتيه).

المحقق: أنت صافي النفس وطيب القلب، وإلا لما اغتررت به.

خالد: لقد كان مثال الخلق الفاضل.

المحقق: بل كان يمثل..

خالد: لقد كانت علامات الصدق تبدو عليه. كان بعيداً عن التصنع.

المحقق: قل: كان رائعاً في القيام بدر الرجل التقي الصالح، وهو ينام على فضائح غريبة.

خالد: هل يمكنني أن أعرف بعض هذه الفضائح؟

المحقق: بكل تأكيد، إن الجريمة لا تثبت دون دليل، ونحن سنقدم لك بعضاً من الأدلة كما قدمناها لأصحابك بشرط أن يبقى الأمر سراً بيننا، فنحن لا نريد أن نكشف مخازيه أمام الملأ. فقط نريد أن يعرف المخدوعون به حقيقته.

خالد: (في اضطراب وقلق): أوه شيء لا يصدق.

المحقق: كنا نتمنى أن لا نفشو سراً لأحد، فإن الله قد أمر بالستر، ولكنها الضرورة..

(يقوم المحقق وقد انبسطت أسارير وجهه لنجاح خطته بضرب الجرس فيدخل الحارس ويحيي تحيته المعهودة).

المحقق: لماذا تأخر الشاي؟

الحارس: عفواً سيدي. لحظة واحدة ويكون الشاي حاضراً.

المحقق: هات كأساً من عصير الليمون قبل الشاي حاضراً.

الحارس: أمرك سيدي.

(يؤدي التحية ويخرج ليعود وفي يده كأس عصير).

المحقق: أعط السيد خالد.

(يناول الحارس خالداً كأس العصير فيشربها دفعة واحدة وهو في حالة هيجان نفسي).

خالد (متمتماً): هل يمكن أن يكون ما سمعته صحيحاً؟ كيف يكون ذلك الصالح العابد فاسقاً؟ إنني لا أستطيع أن أتصور، مجرد تصور..

المحقق: يا سيد خالد إن الفرق كبير بين ظاهر الإنسان وحقيقته.

خالد: حقاً إن هذا لعجيب. أعود إلى الرجاء أن تطلعوني على بعض هذه الفضائح.

المحقق: عندنا صورة لصاحبك التقي وهو في أحد الملاهي.

خالد: غير معقول.

المحقق: وعندنا صورة له وهو يخاصر امرأة في حفلة موسيقي حمراء.

خالد: أمر لا يصدق.

المحقق: لا يصدق لولا الصور. كنا نراقبه، فكنا نعلم أنه لا يفوته فيلم واحد إذا كان فيه مشاهد مثيرة.

خالد: لقد كان ينهانا عن دخول السينما ولو كان الفيلم خالياً من أية امرأة.

المحقق: لعله كان يعتقد أن الله لم يحرم عليه ما حرم عليكم (يضحك ضحكة عالية).

(يدق الجرس فيحضر الحارس ومعه صينية عليها كأس من الشاي).

الحارس: تجهز الشاي يا سيدي. نأسف على التأخر. بماذا يأمر سيدي؟

المحقق: (وهو يغمز الحارس غمزة ذات مغزى): أحضر المصنف رقم 7 في الخزانة رقم 30.

الحارس: أمرك سيدي. (يحيي ويخرج).

المحقق: بعد لحظات سترى الصور التي تبرز الحياة السرية لصاحبك. وحتى تأتي الصور أحب أن تجيب على بعض الأسئلة ونرجو أن تكون الإجابة دقيقة. إننا نعرف عن تنظيمكم كل شيء. نريد فقط معرفة مدى صدقك. منذ متى انتسبت إلى التنظيم.

خالد: (وهو في حالة من الشعور بأن مخاطبه يعرف فعلاً كل شيء): منذ ما يزيد على السنة.

المحقق (بانشراح زائد): من الذي دعاك؟

خالد (بعصبية): ناجي.

المحقق: ناجي.. ها ها ها! إذن هو كان رئيس مجموعتكم؟

خالد: بالطبع. فقد كان أعلمنا، وكان في الظاهر أتقانا، كما أنه كان أقدم منا جميعاً.

المحقق: من تعرف من هذا التنظيم غير أصحابك؟

خالد: لا أعرف أحداً، فنحن لا يسمح لنا أن نعرف غير من نلتقي معهم.

المحقق: أرجو أن تستمر على صدقك، أذكر لي أسماء من تعرف غير هؤلاء.

خالد: قلت لك لا أعرف أحداً غيرهم.

المحقق: ماذا كنتم تفعلون في اجتماعاتكم؟

خالد (بضجر): لقد تأخر الحارس أكثر من اللازم. إنني متحرق على رؤية الصور.

المحقق: لن تمضي غير لحظات يسيرة حتى يحضر.

خالد: سأنتظره، ثم أجيبك على ما شئت من أسئلة، فأنا شديد القلق.

المحقق: مسكين، لقد صدم في مرشده! هيا هيا تكلم.

خالد: أرجوك دعني حتى تأتي الصور.

المحقق: لماذا العجلة في رؤية الصور؟ ستراها، ولا داعي لقطع الكلام انتظاراً لها.

خالد: لا داعي للتأخير، سأنتظر الصور.

المحقق: لن يكون تأخير. أجب على السؤال: ماذا كنتم تفعلون في اجتماعاتكم؟

خالد: لننتظر قليلاً.

(واعتدل المحقق في جلسته، وانقلب وجهه، وبدأ يكلم خالداً بصرامة).

المحقق: لا تضيع وقتي بالانتظار.

(يسكت خالد، وهو يشعر بأن في الأمر خدعة).

المحقق: لن تتكلم؟ (يقوم ويصفعه بقوة فيهتز خالد ويكاد يقع على الأرض): احكِ يا كلب!

خالد: ( وقد شعر بالخدعة تماماً): آه، إذن لا صور (يبكي بصوت خفيض).

المحقق: تكلم.

خالد: (وهو يكفكف نفسه): لقد كذبت علي وخدعتني.

المحقق: أخرس يا حقير سترى جزاء من يتطاول على رجال الأمن ويتأخر عن الجواب على أسئلتهم.

خالد: إذن ناجي كما كان: لا انحراف ولا فجور. آه كنت أتمنى قتلك قبل قليل أيها الأخ العزيز

المحقق: لقد قتلته بكلامك. لقد وضعت يدنا على طرف الخيط.

خالد: ولكنه لن يتكلم، إنه شجاع أكثر مما تتصور.

المحقق: لا تنفع الشجاعة مع آلاتنا. لنعد إلى الموضوع.

خالد: أي موضوع؟

المحقق: عن اجتماعاتكم.

خالد: لن أتكلم.

المحقق: لن ترى النور.

خالد: بل إذا تكلمت بعد الآن فلن أرى النور أبداً.

المحقق: أن تتكلم بالحسنى خير لك من أن تتكلم تحت آلات التعذيب الرهيبة.

خالد: لو قطعتني آلاتك فلن أتكلم.

المحقق: غداً سأراك بعد أن تعرف نماذج من وسائلنا. لا بد أن رأيك سيتغير يا سيد خالد.

خالد: ألم تكن تحدثني عن الحرية؟.

المحقق: بلى .

خالد أين أنا منها؟

المحقق: لا حرية لأعداء الشعب.

خالد: أين عدو للشعب؟

المحقق: أنت وجماعتك.

خالد: إن من تسميهم أعداء الشعب يريدون إنقاذه.

المحقق: من أي شيء ينقذونه؟

خالد: من الكفر، منكم لأنكم أنتم أعداء الشعب.

(يقوم المحقق فيصفعه عدة صفعات، ويدق الجرس فيدخل الحارس ويحيي)

المحقق: خذ ها الكلب ولا تطعموه لقمة واحدة.

الحارس: أمرك يا سيدي.

المحقق: يبدو أن حزبكم يا خالد نسي أن يعلمكم وسائلنا ها ها ها! (موجهاً كلامه للحارس): أريد رقم 7.

(يمشي خالد أمام الحارس وفي وجهه آثار الصفعات ويخرج).

* * *

(بعد لحظات يسيرة يدخل ناجي وخلفه الحارس).

الحارس: نفذ الأمر سيدي.

(يومئ المحقق له بالخروج فيخرج بعد التحية)

المحقق: أهلاً وسهلاً، كيف الحال يا سيد ناجي؟

ناجي: بخير، والحمد لله.

المحقق: تفضل واجلس على هذا الكرسي.

(يجلس ناجي في المكان الذي جلس فيه أصحابه من قبل).

المحقق: (بوجه باسم) إيه يا سيد ناجي. من أين تريد أن نبدأ؟

ناجي: (بهدوء ورباطة جأش) لنبدأ في سبب الاعتقال، فإننا لا ذنب لنا يستوجب زجنا في هذه العلب التي تشبه مصايد الوحوش في الأدغال الأفريقية.

المحقق: حقاً. لكن هذا الاعتقال جاء خاتمة. ومن المنطق أن نبدأ من البداية.,

ناجي: هل هناك بداية قبل البداية؟

المحقق: نعم. ثم إنه لا فائدة من الكتمان، فنحن اعتقلناكم، لأننا متيقنون من انتمائكم إلى (الجماعة) ونتيجة لاستجواب أصحابك عرفنا أنك أنت المسئول عنهم، وهكذا ترى أن أصحابك لم يخفوا عنا شيئاً، وتعاونهم معنا موجب لتخفيف العقوبة عليهم، وربما أوجب العفو عنهم. فما رأيك أن تحذو حذوهم؟

المحقق: هنالك سبيل وحيد لتعاوننا.

المحقق: أنا مستعد لسلوكه مهما كلف الأمر، حتى أجنبك كل أذى.

ناجي: أخشى أن لا تلتزم بوعدك.

المحقق: إنني صدوق وفيٌّ، جربني مرة واحدة، إنني مستعد لأقسم لك.

ناجي: إنني مستعد للتعاون معك إذا انضممت إلى (الجماعة)!(1).

المحقق (وقد بدا عليه الغضب): أتهزأ بي؟

ناجي: أبداً، فهذه عقيدتي أن أتعاون مع الذين يؤمنون بها مثلي، وأنا لا أتعاون مع الذين يخالفونني فيها.

المحقق: إنها عقيدة اليهود أيضاً.

ناجي: شتان بين العقيدتين. اليهود يتعاونون لامتصاص دماء الناس، ونحن نتعاون على البر والتقوى، ولأجل إنقاذ الناس.

المحقق: وكذلك يدعي اليهود أنهم منقذون.

ناجي: إنهم لا يدعون ذلك. إنهم يعتبرون البشر كالحيوانات وظيفتها خدمة اليهود، ويرفضون إدخال الأمم الأخرى في اليهودية.

المحقق: دعنا من هذه الفلسفة. لنعد إلى موضوعنا الأصلي.

ناجي: إلى التعاون؟

المحقق: إلى التعاون.

ناجي:قد قلت لك رأيي.

المحقق: أنت مجنون!

ناجي: لماذا؟

المحقق: تطلب إلي أن أنضم إليكم وأنا أحاكمك، وربما أسلمتك إلى حبل المشنقة إذا لم تكن (عاقلاً).

ناجي: أنت لا تفهمني.

المحقق: بل أنت لا تفهم مصلحتك.

ناجي: مصلحتي أن أتمسك بعقيدتي. إنني أفهمها جيداً.

المحقق: وشبابك؟

ناجي: أدخر عند الله أجره.

المحقق: ومستقبلك؟

ناجي: علمه عند الله. حسبي أنني أرضي ربي.

المحقق: اختر لإرضاء ربك طريقاً غير هذا الطريق. تأمل جيداً.

ناجي: لقد تأملت واخترت.

المحقق: أنت تختار طريق الهلاك.

ناجي: لقد اخترت طريق النجاة.

المحقق: أين أنت من النجاة وأنت بين فكَّي الموت؟!

ناجي: على كل حال أنا لا أزال حياً، ثم إنني أقصد النجاة من النار ومن غضب الله.

المحقق: هل فرض الله عليك أن تدخل السجون وتعذب وتموت حتى يرضى عنك؟ هذا ثمن باهظ جداً!

ناجي: فرض الله علينا أن نعمل لنصرة دينه، وأمرنا بالصبر إن ابتلينا، وأما ما ذكرت من الأذى فأنتم أصحابه، وعليكم وزره ولنا أجره.

المحقق: يا ناجي أنت مخدوع ويجب أن تعود إلى رشدك.

ناجي: إني راشد وواعٍ لطريقي، ثم من الذي يخدعني؟ لقد اخترت طريق القرآن الذي لا يخدع.

المحقق: ومن يمنعك من اختيار القرآن؟ أنا أؤمن بطريق القرآن أكثر منك!

ناجي: أتمنى ذلك.

المحقق: هذه هي الحقيقة، ودعك من الافتراءات الكاذبة ضدنا.

ناجي: ما هو دليل هذه (الحقيقة)؟

المحقق: إننا نفتح الباب لحرية العقيدة والعبادة. ولو كنا أعداء الدين لأغلقنا المساجد مثلاً.

ناجي: إنكم لا تقدرون على إغلاقها. ثم إن حرية العقيدة والعبادة موجودة في أمريكا، فهل هذا دليل على إيمان أمريكا بالقرآن؟

المحقق: كيف تفسر بعثات الحج التي ترسلها الدولة؟ وكيف تفسر حضور القادة لصلاة العيد والاحتفالات الدينية؟

ناجي: تقليد قديم سرتم عليه خوف إثارة الرأي العام.

المحقق: إنكم تفسرون جميع مواقفنا المؤيدة للدين بالخوف من الرأي العام وبالرغبة في كسبه.

ناجي: أنت تعرف ذلك أكثر مني.

المحقق: ما رأيك في فتاوى العلماء الكبار التي تؤكد تمسك حكومتنا بالإسلام؟

ناجي: ثمنها مدفوع.

المحقق: تعني أننا اشتريناهم؟

ناجي: نعم.

المحقق: ولكن فيهم أثرياء لا يحتاجون إلى آمال.

ناجي: المال أحد الأثمان وليس كلها. هناك المنصب والوجاهة، ولا تنس الترهيب.

المحقق: في الحقيقة إنك تحتاج إلى عملية غسل لدماغك لأنه ملوّث.

ناجي: إن عامة الناس يعرفون هذه الأمور عن العلماء المؤيدين لحكمكم.

المحقق: عرفوا هذه الأمور نتيجة للدعاية المسمومة التي تبثونها في العقول.

ناجي: أريد أن أسألك عن أمر.

المحقق: هات.

ناجي: هناك من الذين يباركون حكمكم من العلماء من بارك كل عهد مضى، ومن هذه العهود ما هو معادٍ لكم، فكيف تفسر هذا التبريك الجديد؟

المحقق: باب الرجوع عن الخطأ مفتوح لكل أفراد الشعب.

ناجي: وهل من تفسير آخر؟ (مبتسماً)

المحقق: الواقع أننا نستفيد من كل مستعد لأن يفيد.

ناجي: هذا هو التفسير الصحيح.

المحقق: باب الاستفادة مفتوح لك أيضاً. إنك شاب ذكي ونزيه..

ناجي: أيها الرئيس إلى متى ستعيش؟

المحقق: سؤال غريب لا علاقة له بما نحن فيه.

ناجي: بلى. افرض أنك ستعيش قرناً كاملاً بعد الآن، والموت هو خاتمة المطاف.

المحقق: مثل جميع البشر.

ناجي: افرض أن الوقت قد حان، فهل أنت مستعد؟

المحقق: الحقيقة: لا.

ناجي: لماذا لا تستعد، ما دمت تؤمن أن الموت آت؟.

المحقق: سأتوب بعد الإحالة على التقاعد.

ناجي: وإذا مت قبل التوبة؟

المحقق: والله هذا ليس في الحسبان.

ناجي: العاقل يحسب لكل أمر حسابه. ثم ما يدريك: لعلك أن تستمر على حالك ولا تتوب؟

المحقق: على كل حال، اطمئن علي. لن يأتي الموت إلا وأنا مستعد له. تأكد أنني سأربح الدنيا والآخرة، وأنك تخسر الدنيا ولعلك لا تربح الآخرة أيضاً، ودعنا من وعظك يا (شيخ، ولنرجع إلى الموضوع الأصلي).

(يدق الجرس فيدخل الحارس ويحيي فيطلب المحقق شاياً).

المحقق: قل لي لماذا تكذبون؟

ناجي: عن أي شيء تسأل وكيف؟

المحقق: لقد سألت اثنين ممن معك فأنكروا أن يكونوا من (الجماعة)، بينما اعترف بذلك الثالث.

ناجي: نحن نعتقد أن ذلك يباح لنا.

المحقق: هل هناك كذب حرام وكذب حلال؟

ناجي: طبعاً، وربما كان هناك كذب واجب.

المحقق: من هو نبي هذا الدين الجديد؟

ناجي: إنه ديننا الذي لم يتغير، ونحن لم نبتدع شيئاً جديداً.

المحقق: إنني أسمع بهاذ التقسيم للمرة الأولى.

ناجي: إذا كنت أسيراً في إسرائيل وقدرت أن تحتال على عدوك لتنقذ أصحابك عن طريق الكذب فهل تفعل؟

المحقق: يجب أن أفعل.

ناجي: ولو كان كذباً؟

المحقق: نعم، لأنه في سبيل الوطن.

ناجي: أرأيت؟ لنا وجهة نظرة معقولة. الإسلام أباح الكذب للإصلاح بين المسلمين ولخدمة الحياة الزوجية إذا تعرضت لهزة، فكيف لا يبيحه من أجل حفظ بعض المؤمنين ممن يسومهم سوء العذاب؟

المحقق: تقصدنا؟

ناجي (متجاهلاً): فالكذب للضرورات جائز أو واجب حسب نوع الضرورة التي تقدر بقدرها(2).

المحقق: فلسفة معقولة.

ناجي: معقولة، ولا جديد كما ترى. ولذلك لم يتكلم بعض من استجوبتهم حفظاً لسلامة إخوة لهم حتى ينجوا.

المحقق: من عذابنا! أؤكد لك أن لدينا من الوسائل ما نستخرج به أخباركم كما تخرج الشعرة من العجين.. ولذلك لا فائدة من الكتمان. كن صريحاً.

ناجي: ألا ترى صراحتي؟

المحقق: بلى، ولكن أريد صراحتك حين أسألك عن بعض الأمور.

ناجي: سل.

المحقق: ماذا كنتم تدرسون في اجتماعاتكم؟

ناجي (ببساطة): كنا ندرس الإسلام.

المحقق: هذا من الكذب الحلال أو الحرام؟

ناجي: هذا من الصدق.

المحقق: كل هذه السرية حتى تدرسوا الإسلام؟ ادرسوه علناً فلن نمنعكم.

ناجي: بل تمنعوننا.

المحقق: ولكن الخطباء والوعاظ يتكلمون علناً ونحن لا نتعرض لهم.

ناجي: لا تتعرضون لهم إذا ذكروا جزء من الحقيقة أو إذا حرفوا وبدلوا، أما إذا ذكروا الحقيقة كلها فمصيرهم مصيرنا.

المحقق: كلام فارغ. ليتكلموا في (الدين) كما يشاؤون على أن لا تدخلوا في السياسة باسم الدين.

ناجي: الدين في مفهوم الإسلام ليس مجرد عبادات وأخلاق شخصية، إنه نظام شامل يتدخل في كل شيء.

المحقق: حتى في السياسة؟

ناجي: حتى في السياسية؟

ناجي: حتى في السياسة، لأن وظيفة الإسلام أن يحكم ويوجه في كل ميدان.

المحقق: ولكن تدخل الدين في السياسة أدى إلى كوارث وفظائع.

ناجي: هذا في أوروبا وليس عند المسلمين. عندنا حدث العكس: حين فصلنا الدين عن السياسة ولم نتقيد بأحكامه فيها وقعت الكوارث والفظائع، وحين حكمنا الإسلام في كل شيء كنا سادة العالم.

المحقق: طيب. دع هذا جانباً وقل لي: ألست ترى المكتبات عامرة بالكتب الدينية ونحن لا نمنع بيعها؟

ناجي: وأنت ألست ترى خلو المكتبات من نوع معين من الكتب الإسلامية؟

المحقق: الكتب المسمومة فقط.

ناجي: هل قرأتها وشعرت بأثر السم؟

المحقق: أعترف بأنني لم أقرأ شيئاً من كتبكم.

ناجي: المرء عدو ما يجهل. اقرأ فربما غيرت رأيك.

المحقق: ليس ممكناً أن يقرأ الإنسان كل شيء.

ناجي: على الأقل يجب أن يعرف الدين الذي حكم بلاده قروناً متطاولة وهو يحاربه اليوم.

المحقق: قلت لك إننا لا نحارب الدين.

ناجي: تغلقون الأبواب في وجهه، وتمنعون تعليمه على الوجه الصحيح، وتلغونه من الحياة العامة وتحصرونه في دور العبادة، وتحكمون بما يخالفه، وتحاربون من يدعون إلى تحكيمه، ثم أنتم لا تحاربونه؟!

المحقق: رأسك محشو بالأباطيل. غسل الدماغ شيء ضروري لك.

ناجي: أفضل أن أكون بغير رأس على البقاء برأس خال من هذه العقيدة.

المحقق: إذا لم (تتفهم) موقفنا فلا بد من إجابة طلبك!

ناجي: أمري إلى الله.

المحقق: نعود. ماذا كنتم تدرسون في اجتماعاتكم؟

ناجي: الإسلام.

المحقق: رجعنا؟

ناجي: هذه هي الحقيقة.

المحقق: يا سيد ناجي بقيت لطيفاً معك إلى حد كبير، ولا داعي لأن أقابلك بأسلوب آخر.

ناجي: دلني على طريقة أسلكها لأقنعك بصدقي.

المحقق: قل الحقيقة أصدقك.

ناجي: قد قلتها.

المحقق: كذاب.

ناجي: بل صادق.

المحقق: ستتعلم الليلة كيف تكون صادقاً. إنك بحاجة إلى تأديب.

ناجي: أنا مؤدب.

المحقق: وقاحة وكذب، ثم أنت مؤدب؟

ناجي: أنت الخصم والحكم، لو لم تكن خصماً لاختلف حكمك.

المحقق: عندي استفسار آخر.

ناجي: ما دمت لا تصدقني فلماذا تسألني؟

المحقق: لضرورات التحقيق. قل لي من هو المسؤول عنك؟

ناجي: وماذا يهمك منه.؟

المحقق: نريد أخذ فكرة عامة.

ناجي: ألستم تعرفون كل شيء؟

المحقق: طبعاً.

ناجي: لا تسألني إذن؟

المحقق: لا بد من الجواب

ناجي: وإذا لم أجب؟

المحقق (بحزم)" ستجيب حتماً.

ناجي: وإن أجبتك فإن لك معي حساباً تصفيه بآلاتك كما قلت، أليس كذلك؟

المحقق: جوابك سيخفف عنك، بل قد يلغي العقوبة الجسمية كلها.

ناجي: بل سيزيد علي.

المحقق: كيف؟

ناجي: كلما تكلمت بشيء طلبتم غيره، فإذا توقفت في أية مرحلة فإن المصير واحد.

المحقق: لن نطالبك بالإجابة على ما لا تعلم.

ناجي: الحقيقة أني أريد دفع الحساب كله جملة واحدة.

المحقق (مستهزئاً): الدفع بالتقسيط أسهل.

ناجي: التقسيط أسهل على من لا يقدر على الدفع بالجملة.

المحقق: وهل عندك مقدرة على الدفع بالجملة؟

ناجي: سأجرب، وعلى الله الاتكال.

المحقق: تعني أنك لن تتكلم؟

ناجي: ألا تسمع كلامي؟ لست أخرس..

المحقق: تسخر مني؟

ناجي: أجبت على سؤالك.

المحقق: ستدفع ثمن السكوت والوقاحة معاً.

ناجي: أسأل الله العون.

المحقق: لو أعنت نفسك لما احتجت إلى عون أحد.

ناجي: لا حول ولا قوة إلا بالله.

المحقق: يا ناجي أنت تتصرف كمجنون. تفكر في مصيرك.

ناجي: ما هي علامة جنوني؟

المحقق: عنادك.

ناجي: يجب أن ينقطع الحبل عندي

المحقق: لقد أمسكنا بطرفه وسنصل إلى نهايته.

ناجي: سأقطعه عندي.

المحقق: رأسك ثمن القطع.

ناجي: رأس واحد أرخص من رؤوس كثيرة.

المحقق: لن نقطع رأسك لتسلم الرؤوس. ستتكلم، هذا حكم وسائلنا. على كل حال ماذا تستفيد من موقفك؟

ناجي: أولاً رضى الله. ثم إنقاذ الكثيرين.

المحقق: هل أنت واع؟ إنك تمشي نحو النهاية يا ناجي..

ناجي: أرجو أن أكون ماشياً نحو الجنة.

(يتنهد المحقق بعمق).

المحقق: لا فائدة انتهى كل شيء. (يدق الجرس فيدخل الحارس).

الحارس: أمرك سيدي.

المحقق: هيئوا له طعاماً مثل رفاقه.

الحارس: حاضر سيدي.

المحقق: استوصوا به جيداً.

الحارس: أمرك سيدي.

المحقق: (موجهاً كلامه إلى ناجي)؟ هل تريد شيئاً؟

ناجي: أريد مصحفاً.

المحقق: لست في مسجد. أطلب غيره.

ناجي: لا أريد غيره.

(يومئ المحقق إلى الحارس فيدفع ناجي من كتفه فينهض ويمشي نحو الباب..)

يتبع إن شاء الله ...

          

* معتقل من عام 1976