محاكمة في زمان الصمت

سوزان نبيل الشرايري

محاكمة في زمان الصمت

سوزان نبيل الشرايري  *

[email protected] 

الفصل الأول 
 
ديكور المسرح يمثل قاعة المحكمة التي تتألف من طاولة المدعي العام يقابلها قفص الحديد الذي تسكن فيه المتهمة بينما توجد في صدر القاعة طاولة القضاة يقابلها مقاعد الحضور . 

يعم الصمت القاعة كلها حيث الجميع ينتظر دخول القاضي ليبت قراره الفاصل في هذه القضية ,كل من المتهم والمدعي ينظر للآخر, هي تخشى الحكم ولكن كبرياءها وغرورها بل سلطانها ونفوذها يطبطبان على ذلك الخوف فتغدو وكأنها لبؤة هائجة تصرخ بعينيها متحدية ذاك المدعي .

بينما جابر يصر لما وقع عليه  من لظلم وقسوة أن ينتقم منها لعل كلمة عدل تخرج من ضمير القاضي تعيد له اعتباره وتحمي آخرين من غدر هذه الملعونة. 

وبينما يتطاير شرار الحقد بين هذا وذاك يدخل القاضي قاعة المحكمة والهيبة تكلل محياه , فيقف الجميع احتراما وتقديرا لرمز العدالة وما هي إلا لحظات بسيطة حتى جلس القاضي معلنا بصوت رزين تمزجه الشدة :افتتحت الجلسة). 

ومع افتتاح الجلسة افتتحت ذكريات من الآهات والآلام ,ذكريات عاشها جابر دون أن يعرف أنها وجع وهموم ما كان يدري أنها ستقوده إلى هذا المكان بل والى هذا الموقف بالتحديد . 

القاضي : أقبل علي يا جابر وقل اقسم بالله العظيم أن أقول الحق ولا شيء غير الحق . 

جابر : اقسم بالله العظيم أن أقول الحق ولا شيء غير الحق. 

القاضي : حسنا جابر أمامي مجموعة من الأوراق تظهر بأنك قد تقدمت بشكوى ضد المدعوة مخدرات تطالب فيها بحرقها فما حجتك على ذلك ؟. 

جابر : حجتي ؟ لا ادري سيدي القاضي إن كانت مدة الجلسة ستسعني للبوح بحجة تحكي قصة شاب عمره ثمانية  وعشرون عاما .ضاع فيه شبابه بين أنياب هذه المغتالة,أوهمتني  بالحياة فظننت أنها ستمنحني إياها فإذا بالسجون والمعتقلات ونوبات الصرع هي ما ينتظرني , قالت لي أن الحياة لهو ومرح وساعة مزاج تقصيها بين حقنة هيروين وجرعة كوكائين هكذا قالت وهكذا كنت غبيا لدرجة أنني آمنت بقولها.

وأنا اليوم هنا لأنني أريدك أن تمنحها ما منحتني إياه من ذل وهلاك .احرقها يا سيدي استحلفك بالله عليك أن تنتقم لشبابي الذي اغتصبته مني ,أن تنتقم لعرضي وكرامتي اللذين دنسهما الذل والعار .أرجوك , أرجوك سيدي القاضي أن تعوضني عن نفسي التي شوهت تحت أقدام هذه القاتلة .عوضني عن عمري... 

ثم يصمت قليلا ويبتسم والحزن يعانق شفتيه قائلا: 

عمري هههههه.حتى هذا العمر لم يعد لي فيه نصيب فمخدرات سلبته مني خلسة ودون رحمة ,أنا لم أنكر الموت يوما ولكنني ما أردت إلا أن يأتيني بغتة ومرة واحدة وليس ألف مرة . مذ عرفتها وأنا أراه كلما انتهى وقت الجرعة المخدرة .أنا يا سادة ألقى الموت في كل لحظة وكأن كل منا يصارع الآخر فما أن يضجعني مصرعا ,حتى أجد نفسي معلق القلب في دعاء الله, ليطيل في عمري حتى انتقم من هذه الملعونة . 
 
وفي هذه الأثناء تنفعل مخدرات غاضبة وتصرخ بصوت عال قائلة : 

كف عن هذا الهراء أيها الغبي فقد مللت كلامك الذي يثير اشمئزازي  ولتعلم جيدا أن القانون لا يحمي المغفلين أمثالك , فانا لم أجبرك على التعاطي أنت من أتاني ,وأنا كأي تاجر ماهر أعرض سلعي وأروج لها وأمنح المشتري فرصة تذوقها ومن ثم له الخيار فإما الاستمرار وإما الإعراض ,ثم فلتذكر جيدا كيف أنقذتك مما كنت تعانيه من فراغ وضياع فلا عمل يؤويك ولا أسرة صالحة ولا رفقة ناصحة , وجدتني أنا,وأنا وحدي من قدم لك يد العون منحتك الحياة في وقت اعتبرك فيه  الجميع كلبا ضالا ليس له سوى الموت .

ثم صمتت لحظة وأشارت بإصبعها لجابر تسأله بلطف غير معتاد :جابر أعرف صدقك وإخلاصك واستحلفك بما تؤمن به أن تخبر عن الوضع الذي كنت فيه قبل لقاءنا الأول .

أخبرهم كيف أن أسرتك غفلت عنك منشغلة بالمال والأعمال والموضات والسهرات أنا من احتضنك ساعة خوفك أليس كذلك ؟؟. اخبرهم عن دولتك التي لم تتمكن من أن تمنحك عملا يتناسب وشهادتك الجامعية .الضياع يا رفيقي هو ما كان ينتظرك والشارع هو ملجؤك أولئك الملامون فلماذا تحملني ما ليس لي فيه شأن ؟؟

أبعد كل هذا المعروف تشكوني وتطلب حرقي أي فتى أنت ؟!! لمن ستترك الضائعين أمثالك من سيضمهم تحت جناحه إن أدبرت راحلة ؟.

 حقا أنتم البشر تنكرون المعروف, ولكن لا بأس لا بد أن سيدي القاضي سيكون عادلاًُ في حكمه ويحرقك بدلاً مني لأنك عاجز والزمان قوي يرفض الضعفاء . 

ينفعل جابر كثور هائج محاولاً ضربها غير أن العسكر يمسكون به بشدة فيقف عاجزاً عن الحراك إلا أنه يقول لها : يا وقحة ...أبعد كل ما فعلتيه لا زلت تتظاهرين بالملاك ؟ انزعي عنك هذا القناع لتري ما أنت عليه من قبح أريهم يديك اللتين تلطخهما دماء الأبرياء اسمعيهم أصوات نياح وعويل المدمنين أريهم كم أنت قذرة وبشعة علّك تشفقين أنت على نفسك فتطالبين لها بالموت والحرق . 

فترد مخدرات ببرود قاهر قائلة : بالطبع لن افعل ذلك . 

وإثر هذه المجادلة الحادة يصرخ القاضي قائلا : هدوء وفي أثناء ذلك يطرق بمطرقته على الطاولة ومعالم الغضب تظهر على وجهه ثم يعاود الكرة قائلا هدوء اصمتوا جميعا انتم في قاعة المحكمة وليس من حقكم أن تتشاجروا في حضرتي .ولا أريد من احد منكما أن يتكلم دون أذني . 

ثم سأل القاضي جابر : هل أنت من عمد إلى زيارة مخدرات مرارا ؟ 

يجيبه جابر ومعالم الخجل تبدو واضحة على وجهه  : نعم سيدي ولكنني ما علمت أنني بتكرار ذهابي إليها قد أعنتها على أن تحيك لي كفن الموت بهذه السرعة .  ما علمت ما علمت  

القاضي : حسنا أتفهم من هذا أنها لم تجبرك على تعاطيها  

جابر: مخدرات يل سيدي صياد ماهر يكتفي بوضع الطعم مرة واحدة ثم إذا ما تلقفته إحدى الضحايا علق في فيها فلا يزال إلا وهي بين يدي الصياد الذي يمتلك الخيار بين إرسالها إلى القبر أو إلى مصحة المجانين .

القاضي : لماذا لم تعالج نفسك منذ البداية وأنت على يقين بأن الحالة تزداد سوءا كلما تماديت في التعاطي؟ 

جابر: حبها منعني وما كنت أدرك أنني سأظل كل هذا الوقت أسيرا لها ,لم أكن اعلم أن الإهانة والذل والألم لن يزجروني ,لم أكن اعلم أن المصحات والمعتقلات لن تخيفني ,ما كنت اعلم سأظل أتعاطى, وأتعاطى, وأتعاطى, حتى أتحول من مدمن مخدرات إلى مريض ايدز . 

(أوووه ه ه ايدز.....يا حرام ........يا الهي )كلمات عديدة تخرج من أفواه الحضور حيث يظهر على وجوه الجميع علامات الاستفهام والتعجب حول ذاك المجهول الذي ينتظر هذا المسكين .) 

يسأله القاضي متعجبا : وما شأن مخدرات بالايدز ؟؟!!!.  

فيجيبه كريم متحسرا : بدأت رحلة الضياع في سيجارة أعقبها حشيش وظللت انتقل من نوع لآخر حتى وصلت إلى حقن الهيروين فقد قال لي رفاقي أن لها حلاوة لا تشترك بها مع غيرها ,وما كان مني سوى أن سلمتهم يديّ ليحقنوها ولا عجب فقد سلمتهم عقلي من قبل يوم أن أغلقوه وغلفوه وكتبوا عليه (منتهي الصلاحية). 

وبعد فترة من تعاطي الحقن تعرضت للإصابة بالإيدز لاستخدامي حقنة ملوثة بالفيروس .

وهكذا أصبحت عاجزا مرتين وهذه الأخيرة تعني الموت.

فهذه الملعونة قدمت لي الموت وأنا اليوم أطالب لها بالموت ,فاحكم بهذا إن أردت العدل . 

القاضي بنبرة غاضبة : جابر .لا تتجاوز حدودك وتذكر أنني من يصدر الحكم هنا ولست أنت ,فلا تتدخل فيما لا يعنيك وإلا حبستك مقيدا إلى جانب مخدرات. 

يجيبه جابر بانكسار :حسنا كما تشاء . 

ثم يلتفت القاضي إلى مخدرات ويسألها : ما رأيك فيما يقوله جابر .كوني دقيقة وموضوعية في ردك. 

مخدرات تجيبه وحالة من الثقة المصطنعة تبدو عليها :سيدي القاضي ألم تسمعه وهو يعترف أمام حضرتكم بأنني قدمت له السعادة ابتداء ,جعلته يرحل بعقله عن هذا الواقع المر ,ثم يا سيدي القاضي أليس من العدل أن تأخذ بعين الاعتبار ما قاله من أنني لم اجبره على التعامل معي ,هو من أتاني (تصمت برهة)ثم تقول : ثم فلنفترض جدلا أنني أجبرته المرة الأولى مثلا أليس من الواجب عليه أن يعالج نفسه وبالأخص أن الدولة حفظها الله ورعاها(تبتسم سخرية)تنفق على أمثالك من المدمنين مئات آلاف الدنانير . كما أن الشرطة في خدمة الشعب ألا تقولون ذلك انتم البشر!فلماذا لم يبلغ عنّا منذ البداية (تضحك بسخرية مواصلة حديثها ).

طبعا سيدي القاضي الإجابة واضحة وهي عدم إرادته لذلك لأنه يؤمن أنني منحته الحياة كما وعدته , وما حصل مجرد خطأ . خطأ عادي .وكلنا نخطئ في قانونكم وقانوننا . 

ينفعل جابر مقاطعا مخدرات: يا فاجرة هذا الخطأ العادي كلفني حياتي ,كما أنك تعلمين أنني ما كنت قادرا على تركك لان لا عقل لي فقد سلبته حبوبك وحقنك . وما كان يشغلني سوى أن أسعى لتأمين ثمن الجرعة ,لا بأس كيف ومن أين المهم أن أتعاطى .

فكري ,وعقلي ,أهدافي ,وطموحاتي انحسرت في الانشغال بالصنف القادم الذي يفوق السابق قوة.

فلا تدعي البراءة وتقولي بأن هدفك هو تحقيق السعادة لنا ,فليس هذا ورب الكعبة ما تسعين له ,فهدفك هو تدمير عقول الشباب وسلب عقولهم حتى لا يفكروا في استرداد ما سلبه من أرسلوك إلينا ظلما وعدوانا ,ورصيدك في البنوك العالمية اصدق دليل على ذلك . 

ويبدو الحضور والقضاة متعاطفين مع جابر مما يربك مخدرات . 

وفي أثناء ذلك تنزل ستارة المسرح لتعلن الدخول في الفصل الثاني : 

غادر القضاة قاعة المحكمة للتشاور, ومخدرات في قفص الاتهام عاجزة عن إخفاء معالم الخوف والارتباك تهز رجليها وتفرك يديها وكأنها تتأمل بحبل نجاة بدلا من حبل السجان الذي سيقودها للمحرقة . 

أما جابر فيبدو في حالة غريبة حيث تشترك كل المشاعر في الظهور على وجهه وكأنها تتصارع على ذلك فتارة تراه مبتسما وتارة خائفا وتارة تعانق وجهه دموع حزينة وكأنها تودع تلك الخدود السمراء قبل أن تفترسها التقرحات الناجمة عن فيروس الايدز . 

وأمام تلك المشاعر الحائرة ينتظر الحضور حكم القاضي الذي يدخل المحكمة فيقوم له الحضور ثم يجلس وينظر إلى مخدرات ثم يسألها :مخدرات هل أنت مذنبة ؟ 

(فتعلو صرخات الحضور هي مذنبة, أحرقوها , أحرقوها ). 

وأمام تلك الصرخات المشتعلة غضبا تكاد مخدرات تنهار لتقول:اعترف بأنني مذ...

لكن قبل أن تكمل اعترافها تدخل جماعة غريبة الأطوار قاعة المحكمة يلبسون ثيابا تنازع في شدة سوادها قسوة قلوبهم ملامحهم لا تدل على الخير والسلام. 

يوزعون أنظارهم على مختلف الأشخاص في القاعة غير أنها لا تعبر سوى عن الكره والاحتقار للجميع وكأن كل من في القاعة عبيد مستضعفون عند أولئك الغرباء. 

وهكذا تقدم أولئك الغرباء نحو القاضي وبلهجة تختلط فيها السخرية مع التهديد قالوا له :هي مذنبة وإن استطعت فعاقبها ولكن لا تنسى أن ذلك سيكلفك سلطانك وحياتك . 

أما مخدرات فقد انفجرت ضحكا ثم قالت : كنت اعرف أيها السادة أنكم لن تتركوني وحيدة وانتم من بعثني إليهم. 

فأقبل عليها كبيرهم وطبطب على كتفها قائلا : اطمئني عزيزتي.بالطبع ما كنا لنتركك وقد حققت لنا هذا الإذلال والتدمير لشبابهم فأنت جعلت حياتهم وكرامتهم وأموالهم بل حتى أحلامهم وطموحاتهم بين أيدينا  . 

ثم تطلق من أفواههم جميعا ضحكة شماتة قوية:ههههههههه 

ثم وقف الضحك فجأة لينظر هذا الكبير إلى القاضي قائلا له : ما حكمك أيها القاضي ؟ 

فيجيب القاضي:لك الحكم يا سيدي فاكتب حكمها بيديك لأوقع عليه وإن شئت بصمت لك بالعشر لكن أرجوك أن لا تحرمني من مالي وسلطاني . 

فابتسم القاضي مغترا ودفعه جبن القاضي لان يزيد على براءة مخدرات بأن أعلن أن جابر مذنب باعتباره قد تعرض لمخدرات بالشتم والذم كما انه تدخل في حريات المدمنين وسعى لتشويه صورتهم .!! 
 
وفعلا فك وثاق مخدرات التي أدبرت خارجة ورفاقها من قاعة المحكمة غير أن الله العادل الذي أبى إلا أن يسود الخير هذا الوجود ,يمنح جابراً قوة تدفعه للثورة على قيود العساكر بل وقيود الخوف والجبن التي جبل عليها الكثيرون من أبناء جيله, ثورة قادته لأن ينتزع خنجرا من احد العساكر, ويسرع فلا يسكن حتى يراه مغروساً في ظهر تلك المجرمة ,ثم صدرها, ثم بطنها .  

ثم يندفع الغرباء هاربين تاركين وراءهم عجزا عن قتل بطولة تلك الأمة ورجولة وصلابة شبانها. 

في ذلك الحين  تدب الحماسة المتوهجة  في قلوب جمهور المحكمة, الذي يشبك يدا بيد ويتقدم أماماً متجهاً إلى الغرباء, ثم ينقضون عليهم وكأنهم نسر جارح يتعطش شوقا للفريسة.وما هي إلا لحظات حتى تفارق الأنفاس أجسادهم النجسة معلنة تحررها من تلك الأرواح الشريرة . 

وهكذا تمكن جابر بعد كل هذا الظلم من كسر قيد الخوف في داخله ربما سيكون الدور لاحقا على عاتقكم فإما أن تكونوا أحياء أو أمواتا ,حكاما أو محكومين  .

وحتى وإن كان الزمان الذي تعيشونه هو زمان الصمت فلا ترضى إلا أن تكون أول صرخة حق تصدع في جنباته 

انتهى

                 

*ماجستير تربية إسلامية

جامعة اليرموك