دولة تتسول

علي أحمد باكثير

دولة تتسول

بقلم الأديب الكبير الأستاذ: علي أحمد باكثير

المنظر: في دار المفوضية الفرنسية بطرابلس الغرب.

"يبدو المسيو فرانسوا وزير فرنسا المفوض في ليبيا جالساً إلى مكتبه"

الخادم: "يظهر على الباب" وزير بريطانيا المفوض يا سيدي.

فرانسوا: ماذا يريد؟

الخادم: لا أدري يا سيدي.

فرانسوا: يأتيني هكذا بغير ميعاد. أو يظن أنني خال بلا عمل؟ قل له إنني مشغول.

الخادم: سمعاً يا سيدي "يهم بالخروج".

فرانسوا: انتظر! دعه يدخل هنا وينتظرني!

الخادم: معذرة يا سيدي هل أدخله هنا أم أدعه ينتظرك في البهو؟

فرانسوا: قلت لك دعه يدخل هنا وينتظرني.

الخادم: وأنت يا سيدي أين تكون؟

فرانسوا: "محتداً" سؤال سخيف! أكون أنا في المرحاض.. في الحمام.. في المطبخ ما شأنك أنت يا غبي؟

الخادم: أنا لا أسمح لك أن تخاطبني هكذا.

فرانسوا: فكيف أخاطبك؟ أركع لك؟ أجثو لك على ركبتي؟

الخادم: علام كل هذا التآمر والتغطرس؟ تذكر أن هذا هو اليوم الرابع في الشهر ولم تدفع لي راتبي بعد!

فرانسوا: ستقبض راتبك في حينه. أو تظن أننا مفلسون؟ إن لنا إمبراطورية وراء البحار لا تغرب عنها الشمس.

الخادم: إنما يقول الناس هذا عن الإمبراطورية البريطانية.

فرانسوا: ويلك تأكل من خير فرنسا وتسبح بحمد بريطانيا!

الخادم: أنا لا آكل إلا من خير بلادي!

فرانسوا: بلادك.

الخادم: نعم بلادي.. بلاد آبائي وأجدادي.

فرانسوا: جميل.. جميل جداَ.. ما بقي إلا أن تطردني من بلادك!

الخادم: الرجل ينتظر في البهو. هل أدخله أم أصرفه؟

فرانسوا: أدخله هنا قلت لك!

الخادم: حسناً "يخرج".

فرانسوا: "يتأفف" وقاحة! كل هذا من بريطانيا. أفسدت علينا هؤلاء الخدم فصاروا يجرؤون على أن يقولوا مثل هذا لأسيادهم.. أجل يجب أن أخرج ثم ادخل عليه هنا لينهض عند دخولي "يخرج".

"يدخل الخادم ومعه وزير بريطانيا المفوض المستر برايد"

الخادم: تفضل يا سيدي.

برايد: أين السيد الوزير؟

الخادم: كان هنا منذ لحظة.. لعله دخل المرحاض!

برايد: المرحاض!

الخادم: نعم.. انتظره يا سيدي لحظة. "يخرج".

برايد: انتظار في البهو وانتظار هما في المكتب! مركب نقص  في هؤلاء الفرنسيين!

"يدخل فرانسوا فيجده واقفاً يتمعض"

فرانسوا: هل كنت جلست يا مستر برايد؟

برايد: لا داعي لأن أجلس ثم أقوم.. شفيتم!

فرانسوا: شفيتم؟!

برايد: "ضاحكاً" علينا أن نراعي تقاليد البلد والمثل يقول: إذا كنت في روما فاصنع كما يصنع الرومان.

فرانسوا: ماذا تعني؟

برايد: هكذا يقول الماس لمن يخرج من المرحاض!

فرانسوا: من المرحاض؟

برايد: ألم تكن في المرحاض كما قال لي خادمك.

فرانسوا: هذا الليبي الأحمق

لي الوقت لا قضية في المرحاض... غيره؟ إنما كنت في مكتب... أدرس مع المعاونين شئوناً هامة..

برايد: يؤسفني أن .... الثمين!

فرانسوا: لا داعي............. أنا تحت خدمتك........

برايد:

فرانسوا: الساعة...

برايد:

فرانسوا: حسناً ماذا عندك؟ "يجلس"

برايد: أشتهي أن أزيل الأثر السيء الذي تركته المعاهدة في نفوسكم.

فرانسوا: أتنوون أن تلغوها؟

برايد: هذه قد أبرمت فلا سبيل إلى نقضها.

فرانسوا: لإذن فلا فائدة.

برايد: لكني..

فرانسوا: لعلك جئت لتعتذر وتتنصل كعادتكم حين تجرحون ثم تضمدون! لا يا مستر برايد لم تعد تجوز علينا هذه الحيل والألاعيب!

برايد: يا صديقي دعني أشرح لك حقيقة الأمر.

فرانسوا: ماذا تريد أن تشرح. الأمر واضح.. لقد أردتم أن تقضوا على سلطتنا في هذا الجزء من إمبراطوريتنا كما فعلتم معنا في سوريا ولبنان من قبل.

برايد: هذا هو الفهم الخاطئ الذي أريد أن أصححه.

فرانسوا: إنكم معشر البريطانيين تحسبون سواكم من الناس بلهاء لا يفهمون.

برايد: بل أنتم معشر الفرنسيين تتسرعون في الحكم على الأشياء وقلما تزنونها بميزان الحكمة والتعقل.. إن هذه المعاهدة التي عقدناها بيننا وبين ليبيا لهي في صالحكم لو تعقلون!

فرانسوا: لا تحاول أن تخدعني عن الحقيقة.. هذه المعاهدة قد جعلت لليبيا كياناً ثابتاً كدولة مستقلة.

برايد: بل هيئة الأمم المتحدة هي التي قررت ذلك لا نحن. وأنتم تعلمون أننا طالما حاولنا عرقلة هذا القرار لكننا لم ننجح.

فرانسوا: لولا المساعدة المالية التي قدمتموها لليبيا بمقتضى المعاهدة لبطل ذلك القرار من تلقاء نفسه.

برايد: كيف؟

فرانسوا: لظهر عجز هذه الدولة واستحال قيامها وحينئذ تضطر الهيئة إلى العدول عن قرارها هذا إلى مشروعنا السابق... مشروع تقسيم ليبيا بين الدول الثلاث.

برايد: أمهلني حتى أشرح لك الأمر.

فرانسوا: اشرح.

برايد: يجب أن تعلموا أولاً أننا لسنا الذين وضعنا الميزانية الليبية هذا عرضنا لحرج ولولا مجهودنا لاستطاعت... نفسها بنفسها وإذن لما بقي لنا نحن الدول الثلاث أي مجال للتدخل.

فرانسوا: نفس الحجة التي ترددونها دائماً عندكم غيرها.

برايد: انتظر! ويجب أن تعلموا أيضاً أن الولايات المتحدة كانت بسبيل أن تمنح ليبيا مائة مليون دولار يصرف جزء منها على بناء قواعدها في طرابلس وجزء آخر على تعبيد الطرق والباقي يمنح للشعب الليبي لرفع مستوى معيشته وتحسين حالته الاقتصادية. تصور ماذا كان يكون الحال لو تدفق كل هذا الدولار الأمريكي على ليبيا. هل كانت الستون ألف جنيه التي اعتمدتها حكومتك لفزان تكفي لوقف هذا التيار المخيف.

فرانسوا: فماذا فعلتم أنتم بمعاهدتكم هذه؟

برايد: استطعنا بإبرام هذه المعاهدة أن نجعل الولايات المتحدة تعدل عن كرمها البالغ حد الإسراف وتحذو حذونا في الانفاق بعقل وحكمة. وبذلك أصبح في الإمكان أن تحتفظوا أنتم بفزان إذا جدتم بنصف مليون جنيه.

فرانسوا: نصف مليون جنيه سنوياً؟

برايد: لا تخف لن يرهق هذا المبلغ ميزانيتكم وفي وسعنا أن ندبره لكم.

فرانسوا: قرضاً منكم.

برايد: لا بل هبة ومنحة من الولايات المتحدة.

فرانسوا: لا يليق بفرنسا أن تتسول من الولايات المتحدة.

برايد: ... منها في حرب الهند الصينية والقضاء على ثورات المغرب وتونس.

فرانسوا:

برايد:

فرانسوا:

برايد: .... إنما نريد بهذا مساعدتكم.

فرانسوا: نحن لسنا بحاجة إلى مساعدة أحد!

برايد: إصغ إلي يا صديقي.. قد شرحت لك ما في ذلك من المصلحة لكم فإن لم تستطيعوا فهم ذلك فسنحملكم عليه بالقوة.

فرانسوا: بالقوة!

برايد: نعم

فرانسوا:

برايد:....... لا تنس أنه في قبضتنا.

فرانسوا: هيه.. الآن عرفت قصدكم تريدون أن تنتزعوا منا هذين الإقليمين لتجعلوهما تحت سيطرتكما!

برايد: أؤكد لك أنك على خطأ وأننا لا مطمع لنا غات أو غدامس.

فرانسوا: فما شأنكم بهما إذن

برايد: إنهما من فزان ويجب أن تبقيا كذلك.

فرانسوا: وفزان هذه لمن؟ أليست لنا.

برايد: بلى هي لكم على أن تبقى منها غدامس وغات وعلى أن تعمل فرنسا في تعاون وانسجام مع الدولتين الشريكتين فلا تشذ عن السياسة العامة المشتركة وإلا أضرت بنا جميعاً ولن نسمح لها بذلك.

فرانسوا: ترسمون أنتم الخطة التي تروقكم ثم تلزموننا بالعمل بمقتضاها!

برايد: نعم.. أي ضرر في ذلك عليكم؟ هذه الولايات المتحدة تسير على الخطة التي نرسمها هنا وليست فرنسا بأقوى منها ولا أغنى.

فرانسوا: "ينظر في ساعته" هذا موعد زيارة الوزير الأمريكي قد حان. اعذرني يا مستر برايد إذا التمست منك أن تنصرف!

برايد: لا بأس أن أشهد هذه المقابلة بينكما.

فرانسوا: كلا هذه مقابلة خاصة ولم أستأذنه في حضورك. ماذا يقول عني إذا وجدك عندي؟

برايد: لا تخف.. لن أدعه يلومك على ذلك. سأحميك أنا من غضبه.

فرانسوا: عجباً أتريد أن تتدخل حتى في شؤوني الخاصة؟

برايد: هذا شأن مشترك بيننا وليس من شؤونك الخاصة.

فرانسوا: تريد أن تشهد الحديث الخاص الذي سيجري بيني وبينه؟

برايد: لن يكون حديثكما حديثاً خاصاً.. ستكون بريطانيا مدار هذا الحديث.

فرانسوا: "محتداً" شيء لا يطاق! ما يدريك أنت بما سيدور بيني وبينه؟

برايد: أنا ما حضرت هنا عبثاً يا مسيو فرانسوا بل لأشهد ذلك الحديث وأوجهه لمصلحة دولتك.

فرانسوا: كلا، يا سيدي إننا لم نوكلك في ذلك!

برايد: لست في حاجة إلى توكيل منكم.

الخادم: "يدخل" وزير أمريكا المفوض يا سيدي!

برايد: دعه يتفضل!

الخادم: سمعاً يا سيدي "يخرج"

فرانسوا: في امتعاض في مكتبي

برايد:

فرانسوا: "يصيح نافد الصبر" كلا لا أريد أن تعتذر لي.. أنا الذي سأعتذر بنفسي.. أنا لست أخرس!

برايد: لو كنت أخرس لكان ذلك أيسر لمهمتنا. إن الكلام الكثير يضر أكثر مما ينفع.

فرانسوا: أتتهمني بالثرثرة؟

برايد: حاشاي وإنما أدعوك إلى تركها؟

فرانسوا: أدركوني يا ناس، إني أكاد أجن!

برايد: حذار أن تجن الآن... احتفظ بعقلك قليلاً حتى ننتهي من حديثنا مع الوزير الأمريكي.

فرانسوا: أوه.. خلاص جننت! جننت!

برايد: لا بأس إذن.. سأتولى أنا الكلام عنك فلا يظهر له شيء مما أصابك!

"يدخل الوزير الأمريكي المستر سام"

سام: صباح الخير!

برايد: بونجور! جود مورننج!

سام: "متعجباً" ما هذا يا مستر برايد؟

برايد: قلت بونجور بالنيابة عن مسيو فرانسيوا وقلت جود مورننج بالأصالة عن نفسي.

سام: "يقهقه قهقهة عالية" نكتة لطيفة.

برايد: أجبه الآن يا مسيو فرانسوا.

فرانسوا: بل أجبه أنت فقد أقمت نفسك وكيلاً علي!

برايد: صحيح.. "لسام" أنت يا سيدي ألطف.

سام: ماذا تعني؟

برايد: رداً على قولك: نكتة لطيفة. أنسيت؟

سام: "يعود إلى القهقهة" ها.. تقصد هذا! "ثم يلتفت إلى فرانسوا" على فكرة.. ماذا بك يا مسيو فرانسوا اليوم؟ إني أراك على غير ما يرام.

برايد: مسيو فرانسوا اليوم متوعك قليلاً.

سام: يؤسفني ذلك أشد الأسف.

برايد: أشكرك على رقة شعورك!

سام: ماذا يشكو؟

برايد: علة في المعدة.. تردد اليوم على المرحاض!

سام: إذن فهل ترغب يا مسيو فرانسوا أن نؤجل حديثنا إلى وقت آخر؟

فرانسوا: أعتقد أن ذلك أفضل!

برايد: كلا لا داعي إلى ذلك. إنه الآن بخير ولن يرهقه الحديث شيئاً إذ ما عليه إلا أن يسمع!

سام: كلا هذا لا يكفينا. يجب أن نسمع منه أيضاً.

برايد: لن يعجزه على كل حال إن يقبل نعم في حالة الموافقة ويقول لا في ...................

فرانسوا: ماذا تقول؟ أي طلب؟

برايد: اسكت أنت.. لا ترهق نفسك فتزيد علتك. اعذره يا مستر سام فقد اشتد به القلق على مصير طلبه هذا حتى نسي الطلب نفسه! بشره الآن يا مستر سام بالجواب الذي تلقيته من حكومة بلادك ليطمئن باله ويهدأ قلقه.

سام: أبشرك يا مسيو فرانسوا بأن حكومتي قد وافقت مبدئياً على اعتماد المبلغ المطلوب لمساعدة فرنسا على القيام بتبعاتها في فزان.

فرانسوا: أي مبلغ تعني؟

برايد: ويحك يا مسيو فرانسوا؟ أو قد نسيت حتى مقدار المبلغ المطلوب؟ النصف مليون جنيه يا صديقي.. النصف مليون جنيه.

فرانسوا: قرضاً أم هبة؟

برايد: بل منحة. أو قد نسيت نوع الطلب أيضاً؟

فرانسوا: كلا لا يليق بفرنسا أن تتسول!

برايد: أي تسول؟ إنما تدفعه الولايات المتحدة من ضمن مبالغ اعتمدتها لمحاربة الشيوعية.

سام: إذا كانت فرنسا تريد ذلك على سبيل القرض فلا بأس.

برايد: لا يا مستر سام. يجب أن نسمي الأشياء بأسمائها. القرض.. الذي لا سبيل إلى تسديده هو في الحقيقة منحة.

فرانسوا: من قال لك أننا لا نستطيع تسديده؟

برايد: لولا علمي بأن صحتك ليست على ما يرام لاتهمت عقلك. حذار يا مستر سام أن تعتمد على هذا الذي سمعته من المسيو فرانسوا فترفع عنه تقريراً إلى حكومتك.

سام: أي بأس في ذلك؟

برايد: لو يبلغ حكومة باريس هذا الذي قال صديقنا المسيو فرانسوا لعزلته في الحال. ولا شك عندي أنك ستأسف لذلك مثلي فمن يدري ماذا يكون الوزير الجديد الذي سيخلفه هنا في منصبه إن من نعرف خير ممن لا تعرف!

سام: صدقت يا مستر برايد.. ولكني أريد أن أسمع من المسيو فرانسوا ما يشعر بالموافقة على قبول هذه المنحة لأرفع ذلك إلى حكومتي رسمياً.

برايد: إنه موافق طبعاً.

سام: أريد أن أسمع منه هو.

برايد: قل له نعم يا مسيو فرانسوا!

فرانسوا: "في غيظ" لا!!

سام: لا؟!

برايد: أراد أن يقول نعم فغلط.

سام: كلا.. يجب أن أسمع من فمه كلمة نعم.

برايد: حسناً.. ستسمع ذلك من فمه الآن. "يلتفت إلى فرانسوا" اسمع يا مسيو فرانسوا "بجفاء وغلظة" يجب عليك أن تطيع أمري. قل للمستر سام: لا!

فرانسوا: "ينفجر صائحاً في حنق" نعم! نعم! نعم!

"ستار"