المهرج والحكيم(12)

عبد الله عيسى السلامة

حواريات

عبد الله عيسى السلامة 

أقزام عمالقة

سأل المهرج الحكيم: ما تقول يا سيدي الحكيم في زعيم أسرة، يدفن أهله من أبناء وإخوة وأقارب، وهم أحياء ليصعد على قبورهم، فيبدو مرتفع القامة، وحيداً في مؤهلاته وصفاته!؟

قال الحكيم ممتعضاً: بئس الرجل هو.. إذا وُجد.

قال المهرج: وما تقول في زعيم قبيلة، أو حزب، أو دولة، يسمّر من حوله الرجال البارزين، بمسامير من حديد، ويكمم أفواههم، ويصعد على أكتافهم، ليبدو طويلاً، عملاقاً، ضخماً، خطيباً، مفوهاً، عبقرياً.. ثم لا يكتفي بذلك، بل يطلب من هؤلاء المسمّرين أن يصفقوا له، ويهتفوا له، فإذا هزوا رؤوسهم بالموافقة، نزع المسامير من أيديهم، ورفع الكمامات عن أفواههم!؟

قال الحكيم: ويل له، وويل لمن قبل به زعيماً، وويل لك على هذه الصور البشرية القميئة التي تتخيلها.

قال المهرج محتجاً: وكيف أتخيلها يا سيدي الحكيم، وهي من حولك، تراها صباح مساء، أم لعلك تغمض عينيك حين تنظر إليها!

قال الحكيم بنبرة عميقة حزينة: الحقّ معك يا عزيزي المهرج.. إنها من حولنا، بل محيطة بنا، بل متغلغلة في شرايين عيوننا وآذاننا وقلوبنا وأرواحنا.. إلا أننا عطلنا حواسنا جميعاً، كيلا نتفجر من الغيظ والألم.. ثم أدمنا تعطيل الحواس، حتى أصابتنا أمراض النفوس والقلوب والعقول جميعاً، من بلاهة، وبلادة، وعدم اكتراث، وإذعان، وخنوع، وإحباط.. وأخشى أن أقول:.. وسفاهة.. وقلة حياء..

قال المهرج: ولمَ تخشى من ذلك يا سيدي؟ وما علاقة السفاهة وقلة الحياء بهذه الأمور؟

قال الحكيم جاداً: لقد بدأت أرى الكثيرين ممن أرغموا في البداية على مسخ إنسانيتهم، استمرأوا المسخ، وأدمنوه، وباتوا يتلذذون به، فصاروا هم أنفسهم أجزاء من اللحن النشاز.. أجزاء متطوعة راغبة مريدة مختارة.. بل مصرّة.. مصرّة على أن تكون عناصر في جوقة الفساد والإفساد.. فهي لم تعد تكتفي بالهتاف والتصفيق، بل باتت تراقب من لا يهتف أو يصفق، لترفع أمره إلى الصنم المتربع على أكتافها، لتتقرب إليه، فتحظى منه بتربيتة على الكتف، أو لتسلم من وخزة حذاء في الخاصرة! علام يدلّ هذا يا مهرج؟ ألا يدلّ على سفاهة وقلة حياء؟

قال المهرج ضاحكاً: ما دمت قد قلت إنهم ممسوخون يا سيدي الحكيم –وحتى لو لم تذكر نوع المسخ، سواء أجاء على صورة قردة أم خنازير- فكيف تعاتبهم على السفاهة وقلة الحياء؟

قال الحكيم مقطباً: لو كان الأمر مقتصراً على ضمير "هم" لكانت المصيبة أخفّ، والكارثة أقلّ سوءاً يا مهرج. إن الحديث الآن، هو عن ضمير "نحن" وهو الذي يزلزل كياني، ويجعلني أرتعد فرقاً وذعراً من المصير البشع الذي صرنا إليه، ومن ذلك المصير الغامض الرهيب الذي سنصير إليه في المستقبل القريب..!! إني أقرف من نفسي يا مهرج.. هل تصدق!! ليتني مت قبل أن أرى هذا المصير البائس المخيف..

أجهش الحكيم ببكاء عنيف، وبدأ المهرج يخفف عنه، ويحاول تسليته بما لديه من أساليب المزاح والتهريج، إلا أن الحكيم ظلّ مستسلماً لحزنه العنيف، وقال وهو يحاول إمساك نفسه عن البكاء:

إن موت آلاف الرجال وهم رجال، يعيشون رجالاً، ويدفنون بعد فراق أرواحهم رجالاً.. أهون من موت رجل واحد، يحيا بين الناس، وهو ميت الإحساس بكرامته الإنسانية، ميت المروءة، ميت الضمير والوجدان والرجولة.. فكيف إذا كان هذا المخلوق الحي الميت، قبيلة أو حزباً، أو شعباً بكامله، أو أمة بأسرها، بما فيها أقزامها المتعملقون، وأصنامها المتربعة على أكتافها، ومقدمات أحذيتها –أحذية الأصنام- منغرزة في خواصرها الدامية.

قال المهرج باسماً: لقد ذكرتني يا سيدي الحكيم بقول الشاعر:

ليس من مات فاستراح بميت      إنما الميت ميّت الأحياء

أما صورة الخواصر الدامية، فذكرتني بقول الشاعر:

ما لجرح بميت إيلام..

فإذا كانت الأجساد المجروحة لا تتألم، فلم تجزع أنت عليها هذا الجزع يا سيدي الحكيم!؟

قال الحكيم: ويلك.. ألم أقل لك إن الضمير هنا هو ضمير "نحن" لا ضمير "هم"! أفلا ترى كاهلي المهدود من ثقل الأصنام، وخاصرتي الراعفة بالدم؟ فإذا كنت أنت تشعر بثقل الصنم على كتفيك، فإني أشعر بثقل الأصنام جميعاً، وبثقل الأمة التي يمتطيها الأصنام.. كل أولئك أحمال باهظة على كاهلي.. الأصنام المرتفعة الممتطية، والأمة المسحوقة الممتطاة.. الجميع على كاهلي.. على صدري.. على قلبي.. على رأسي.. على روحي.. ويلك.. لم نكأت جراحي كلها دفعة واحدة!؟

قال المهرج: اعذرني يا سيدي الحكيم.. فما قصدت إيلامك. ولكن قل لي يا سيدي: ألا ترى في كل أسرة أو قبيلة أو حزب أو شعب.. إلا صنماً واحداً يدفن الآخرين ويتعملق على قبورهم، أو يسمّرهم ويرفع قامته على أكتافهم؟

قال الحكيم: ويلك.. وهذا جرح جديد تفتحه لي.. لقد صار التعملق الزائف سنة متبعة.. كل يمارسها حسب قدرته وجهده.. كل يقبر من حوله ليتعملق، وكلّ يسمّر، أو يكمم، أو يخنق من حوله، ليبدو طويلاً أو عظيماً.. الصنم الأكبر يمتطي من دونه من الأصنام، وهؤلاء يمتطون من دونهم.. وهكذا.. فإذا استطاع المقبور أو الممتطى ممن هم دون الصنم الأكبر، بدرجاتهم المختلفة، أن يقبر أو يمتطي راكبه أو دافنه، فعل ذلك بلهفة غريبة! لا أحد يأنف من أن يُمتطى، ولا أحد يعف عن أن يمتطي.. لا أحد يرفض أن يُقبر، ولا أحد يترفع عن أن يَقبر.. الأسرة مقبرة، يدفن فيها الكبير الصغير، والكبير الكبير، والصغير الصغير، والصغير الكبير – إذا استطاع -.. الحزب مقبرة.. الحيّ مقبرة.. المدينة مقبرة.. الدولة مقبرة.. الأمة مقبرة ضخمة تضم مجموعات شتى من المقابر الصغيرة والكبيرة.. ما هذا يا مهرج ما هذا.؟ أما لهذا العبث المدمّر الفتاك من نهاية؟

قال المهرج ضاحكاً: تسألني يا سيدي الحكيم وأنا المهرج.. أم أسألك وأنت الحكيم؟

قال الحكيم باسماً بمرارة: ألا ترى أن ما يجري هو نوع من التهريج يا عزيزي المهرج؟

قال المهرج ضاحكاً: بلى.. إنه كذلك يا سيدي الحكيم.

قال الحكيم: إذن أنت أولى به.

قال المهرج: أن أكون فرداً مهرجاً في أمة مهرجة، فهذا سهل علي يا سيدي الحكيم.. أما أن أصلح مزاج أمة بكاملها، فأنقلها من التهريج إلى الجد، ومن العبث إلى الرصانة، ومن الموت إلى الحياة، ومن التقزيم المتبادل، والتعملق الزائف المتبادل، والدفن العبثي المتبادل.. إلى حياة البشر الأسوياء، والأمم الجادة الرصينة.. فهذا كله ليس من شأني يا سيدي الحكيم.. إنما هو من مهمات الحكماء أمثالك.

قال الحكيم شبه شارد: صدقت يا مهرج صدقت.. لا بد من سعي الحكماء والعقلاء، وذوي الفطنة والسداد، والرأي الناضج.. لبعث الحياة في سكان هذه المقابر المتحركة الهائمة المحطمة البائسة.