في السويداء رجال

علي أحمد باكثير

*

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

-1-

في منزل الشيخ عامر بالسويداء عاصمة جبل الدروز.

جابر: لا تؤاخذني يا عامر إن زرتك في هذه الساعة من الليل.

عامر: لا بأس. إني كما تعلم أحب السمر.

جابر: ما جئتك للسمر.

عامر: خير إن شاء الله.

جابر: لا ريب أنه قد بلغك نبأ هذه الأسلحة التي قيل إنها توزع على كثير من جماعتنا هنا في الجبل.

عامر: أجل. بلغني ذلك.

جابر: يقال إنها مهربة من حدود إسرائيل.

عامر: هكذا يشاع.

جابر: أليست عندك معلومات خاصة بهذا الصدد؟

عامر: معلومات خاصة؟ لا.

جابر: لا تحاول أن تخفي عني يا عامر. قد بلغني أنك مطلع على الأمر وأن لك يداً في توزيع تلك الأسلحة.

عامر: كذب الذي حدثك.

جابر: كلا إنه ثقة لا يكذب.

عامر: هيه كأنك جئت لتأخذ نصيبك من تلك الأسلحة.

جابر: لا بل لأعرف الحقيقة. لا تخف.. لن أبلغ عنك ولا عن أحد غيرك. خذها مني كلمة شرف.

عامر: فيم إذن بحثك وسؤالك؟

جابر: أخشى أن تكون هناك مكيدة مدبرة في الخفاء ضد جماعتنا الدروز.

عامر: أما من هذه الناحية فاطمئن.

جابر: إذن فأنت حقاً على علم بذلك؟.

عامر: نعم وقد هممت أن أتصل بك في هذا الشأن لولا ما أعلم من تعصبك للشيشكلي وحكم الشيشكلي.

جابر: وما دخل الشيشكلي في هذا الأمر؟

عامر: هذه الأسلحة لحمايتنا من بطشه.

جابر: مضحك! ولماذا يبطش الشيشكلي بنا؟

عامر: يريد أن يفرق أمرنا اليوم خشية أن ننقلب غداً عليه.

جابر: وماذا يدعونا إلى الانقلاب عليه؟

عامر: هذا رأيه هو وهذه خطته. إنه لا يطيق أن يرى جماعتنا متكتلة.

جابر: هذه دعاية آثمة ضده. ويجب علينا أن نقاوم انتشارها بين الدروز فلن ينالهم فيها غير الضرر.

عامر: إذا تبين فيما بعد ألا أساس لذلك في الحقيقة فلا ضرر علينا من أخذ هذه الأسلحة التي تهرب من بلاد أعدائنا اليهود. إن إخواننا الذين في إسرائيل قوم منكوبون قد ذاقوا مرارة الذل والاضطهاد من الدولة التي تحكمهم. فأصبحوا شديدي الإحساس بما يتهدد كيان الجماعة في المستقبل. وقد صار أملهم الوحيد منوطاً بنا نحن دروز الجبل لتخليصهم من العار الذي هم فيه.

جابر: ولذلك يهربون إلينا الأسلحة من إسرائيل؟

عامر: نعم.

جابر: أي منطق هذا؟ هل يعقل عندك أن إسرائيل تسمح بتهريب الأسلحة منها إلى بلادنا لو لم يكن لها في ذلك غرض خبيث؟

عامر: لا بأس أن يكون لها غرضها في ذلك ما دام في وسعنا أن نحقق غرضنا فقط دون غرضها هي.

جابر: هذا تلاعب بالنار سيفضي بنا إلى كارثة.

عامر: أي كارثة؟

جابر: لو علمت الحكومة بأمر هذه الأسلحة...

عامر: اطمئن فإننا محتاطون.. ألا إن شئت أنت أن تبلغ عنا لتقضي على قومك.

جابر: حاشاي يا عامر أن أخل بوعدي لك. وحاشاي أن الحق الضرر بقومي.

عامر: فثق إذن أننا لن نثور على الشيشكلي إلا إذا بدأنا هو بالعدوان.

-2-

(في منزل الشيخ جابر)

عامر: أرأيت يا جابر مصداق ما توقعناه؟ ها هو ذا الشيشكلي قد قبض على زعماء الأحزاب السابقة.

جابر: ولكنه لم يتعرض لنا نحن الدروز.

عامر: إنما قبض على هؤلاء تمهيداً للحملة التي سيوجهها إلينا.

جابر: إنه اتهمهم بتدبير انقلاب ضد النظام الحاضر لحساب دولة أجنبية.

عامر: نفس التهمة التي سيرمينا بها غداً. ألم يزعم أنه وجد عندهم أسلحة حديثة؟

جابر: الخطر الآن من وجود هذه الأسلحة عندنا، فستكون دليلاً ضدنا.

عامر: الرأي عندي أن نعالجه بإعلان الثورة ونستعد للمقاومة. هلم معي لتقنع جماعتنا بذلك.

جابر: كلا لست أنا من رأيك. إن من الخيانة للوطن أن نثور على حكومته الشرعية.

عامر: ومن الخيانة لجماعتنا أن ندعوهم للاستسلام لمن يريد القضاء على كيانهم.

جابر: لم يقع من ذلك شيء.

عامر: أننتظر حتى يقع؟

جابر: قد تبين الآن أن الحملة ليست موجهة إلى الدروز وحدهم بل هي عامة لتأمين سلامة الدولة.

عامر: تلك هي الحيلة التي اتبعها ليصرف الأذهان عن حقيقة هدفه وهو القضاء علينا. وهأنتذا قد جازت حيلته عليك.

جابر: لا تحاول يا عامر أن تستدرجني إلى رأيك. فمهما تفعل فلن أوافقك عليه أبداً.

عامر: ستندم غداً يا جابر.

جابر: بل ستندم أنت على تهورك.

عامر: إن كنت تخشى أن تشترك في الثورة هنا فسنسند إليك مهمة أخرى لتقوم بها.

جابر: ما هي؟

عامر: ارحل إلى لبنان.

جابر: ماذا أصنع هناك؟

عامر: لتجمع كلمة إخواننا الدروز هناك.

جابر: أجمع كلمتهم على ماذا؟

عامر: على تأييد ثورتنا إذا وقعت.

جابر: أنا نفسي لا أؤيد هذه الثورة فكيف أدعو غيري إلى تأييدها".

عامر: حتى في حالة وقوع العدوان علينا؟

جابر: ذلك شيء آخر.

عامر: فانتظر هناك حتى يقع العدوان من الشيشكلي وتحصل المقاومة منا فقم حينئذٍ بمهمتك.

جابر: كلا يا عامر. إن مهمتي هنا في الجبل لأراقب سير الحوادث فأقوم بما يمليه الواجب علي لمصلحة وطني أولاً ومصلحة قومي ثانياَ.

عامر: هذا الذي أشرت عليك به هو واجبك نحو قومك ووطنك.

جابر: إن كنت ترى ذلك واجباً فلم لا تقوم به؟

عامر: كنت أؤثر البقاء هنا لأشترك بنفسي في المقاومة والدفاع.

جابر: بل تريد أن تقصيني عن الجبل ليخلو لك الجو فتسوق قومك بتهورك سوقاً إلى الكارثة!

عامر: وتريد أنت تقصيني لتسوقهم بخنوعك إلى الاستسلام.

جابر: أنا ما دعوتك لمغادرة الجبل ابق هنا أنت.

عامر: أجل سأبقى هنا وسأبعث برجل آخر.

جابر: كما يحلو لك.

عامر: سأسجل عليك غداً أنك نكلت عن القيام بواجبك.

جابر: افعل ما بدا لك.

-3-

"في مكتب وزير الخارجية البريطانية بلندن"

شنويل: سمعت الأنباء السارة يا مستر إيدن؟

ايدن: لقد نجحت الخطة!

شنويل: نجاحاً ساحقاً!

روبرتسون: لا ينبغي أن نسبق الحوادث يا مستر شنويل. علينا أن ننتظر حتى نرى إلام تنتهي الأمور.

شنويل: ستنتهي لا محالة بسقوط الشيشكلي. هذا أمر مقطوع به.

روبرتسون: ليس في الأنباء التي وصلتنا ما يدل على ذلك.

شنويل: ماذا تريد بعد؟ قبض على عشرات من زعماء الأحزاب السابقة وأعلن الإحكام العرفية في معظم المدن والألوية. وفرض نظام منع التجول في عاصمة جبل الدروز بعد ما وقعت فيها مصادمات خطيرة.

روبرتسون: هذا ما يشككني في النتيجة التي نريدها، وهي سقوط الشيشكلي.

شنويل: الأرض كلها تتزلزل تحت قدميهّ!

روبرتسون: لكنه بقي واقفاً على قدميه لا يتزعزع ولم يرتبك.

شنويل: لقد فر سلطان الأطرش زعيم الدروز ولحق بلبنان.

روبرتسون: هذا يخدم مركز الشيشكلي أكثر مما لو اضطر إلى القبض عليه.

شنويل: وهذه الصحف اللبنانية أخذت تهاجمه وتندد بعمله.

روبرتسون: بعض الصحف اللبنانية لا كلها. ثم لا تنس أن الصحافة المصرية كلها تناصره وتؤيد موقفه.

شنويل: وقد تقدم نائبان من نواب الدروز في إسرائيل لإثارة المسألة في البرلمان الإسرائيلي.

روبرتسون: وما قيمة هذا البرلمان الإسرائيلي؟

شنويل: كيف تجرؤ على أن تحتقر البرلمان الإسرائيلي أمامي؟ إنه أرقى وأكمل من البرلمان الإنجليزي!

روبرتسون: (يقهقه) ضاحكاً...

شنويل: مم تضحك يا جنرال روبرتسون؟

روبرتسون: من كلامك!

شنويل: إنى أحتج يا مستر ايدن على هذه الإهانة‍. كيف تسمح له أن يسخر مني قدامك؟

ايدن: اعتذر إليه يا جنرال روبرتسون.

روبرتسون: كلا لن أعتذر إليه. مم أعتذر؟ هو الذي أهان البرلمان الإنجليزي.

شنويل: أنت أهنت البرلمان الإسرائيلي أولاً.

ايدن: أجل لا حق لك يا جنرال روبرتسون.

روبرتسون: كلا ما قصدت القدح في البرلمان الإسرائيلي وكل ما قلته هو أن البرلمان الإسرائيلي لا يستطيع أن يضر الشيشكلي في شيء.

شنويل (محتداً): وهل يستطيع البرلمان الإنجليزي أن يضره في شيء.

روبرتسون: ولا البرلمان الإنجليزي أيضاً يقدر على ذلك.

ايدن: ها هو ذا قد أرضاك الآن يا مستر شنويل.

شنويل: أتدري يا مستر ايدن لم يحاول الجنرال روبرتسون التقليل من قيمة الثورة القائمة الآن في سوريا؟

روبرتسون: (ضاحكاً)- لماذا يا مستر شنويل؟

شنويل: لأني أنا الذي رسمت الخطة ويرجع فضلها كله إلي.

روبرتسون: ما أسوأ ظنك يا مستر شنويل. أيعقل عندك أنني لا أتمنى سقوط الشيشكلي لئلا ينسب فضل ذلك إليك؟ حقا إن هذا لمضحك ثم أين هذا الفضل الذي تخشى أن أنتزعه منك؟ فضل الخيبة والإخفاق؟

شنويل: سترى!‍ سوف ترى.

-4-

(في اجتماع كبير بعاصمة الدروز)

جابر (يخطب): يا معشر الدروز يا أبناء الجبل الأشم. هلموا إلى خير.

أحدهم (معترضاً): أي خير بعدما قبض على رجالنا وفتشت بيوتنا ووصمنا بتهمة الخيانة للعروبة والوطن؟

جابر: هذه إجراءات اتخذت لسلامة الوطن الذي هو وطننا جميعاً. لئن قبض على بعض رجالنا فقد قبض أيضاً على رجال آخرين من غير الدروز. ولئن فتشت بيوتنا فقد فتشت بيوت غيرنا كذلك. ولئن أعلنت الأحكام العرفية في جبلنا هذا فقد أعلنت أيضاً في الألوية الأخرى. فلسنا وحدنا المقصودين بهذه الإجراءات. ولاشك أن اكتشاف الأسلحة الحديثة في بيوت بعضنا يشفع للحكومة فيما أقدمت عليه لحفظ كيان الدولة.

المعترض: ولكنا لا نرضى أبداً أن نوصم بالخيانة وينسى كل ما قدمناه من الجهاد الطويل في سبيل حرية سوريا ومجد العروبة أجمع!

جابر: كلا إن أحداً لم ينكر علينا ذلك الجهاد ولن يستطيع. لقد أصبحت مواقفنا تلك أغاني في ديوان الكفاح القومي يترنم بها كل عربي من جنوب الجزيرة العربية إلى الدار البيضاء في مراكش.

المعترض: ويكون جزاؤنا على ذلك هذا الجزاء المهين؟

جابر: هذه ليست إلا تدابير استثنائية أما الجزاء فسيحل على من تثبت خيانته سواء كان منا أو من غيرنا وعلينا أن نعين الحكومة على ذلك.

أصوات: أجل.. أجل.. يجب أن يعاقب الخونة. الموت للخونة!

جابر: يا أبناء الجبل الأشم علينا أن نشرح الحقائق للحكومة فإني واثق أن الرئيس الشيشكلي سيسره أن يعرف هذه الحقائق وسيقوم بواجبه من رد اعتبارنا ورفع الأحكام العرفية عن لوائنا. إننا سوريون قبل أن نكون دروزاً وعرب قبل أن نكون سوريين. وهاأنتم سمعتم صوت محمد نجيب بطل العروبة في مصر كيف يدعونا إلى الاتحاد ويحذرنا من مكايد الاستعمار.

أصوات: لبيك يا محمد نجيب. يعيش محمد نجيب. يسقط الاستعمار.

جابر: إن عيباً على الجبل وأبناء الجبل أن يكونوا- ولو بحسن نية- شوكة في جنب العروبة المكافحة ضد الصهيونية والاستعمار!

أصوات: كلا لن نكون شوكة في جنب العروبة! نحن جنود العروبة! نحن فداء العروبة!

جابر: مرحى مرحى يا أبناء السويداء! الآن أستطيع أن أطمئن على أن العروبة ستظل تضرب بجهادكم الأمثال وأن أبناءها من كل جيل وفي كل مكان سيظلون إلى الأبد يرددون ذلك المثل السائر في دنيا العروبة كلها: في السويداء رجال! أجل.. في السويداء رجال!!

(ستار)

             

*مجلة الدعوة في 19 جمادى الثاني 1373