نصبر على الجوع في الدنيا..

عبد الرحيم عبد الرحمن منصور

مسرحية من ثلاثة مشاهد

الأمانة

عبد الرحيم عبد الرحمن منصور

المشهد الأول :

الأشخاص : حمدان عامل فقير ... برّة زوجته ...والجار المجاور

المكان : مكة البلد الحرام

الزمان : في خلافة بني العباس

يستيقظ حمدان ويوقظ زوجته وبناته السبعة لصلاة الفجر أما هو فيغادر ليصلي في الحرم وبعد الصلاة يتوجه إلى السوق باحثا عن رزقه , إنه يعمل ( فاعلا) عامل يكسب رزقه كل يوم بيومه

حمدان : سأنتظر هنا لعل أحدا يريد عاملا فأذهب معه لعلي أكسب رزق بنياتي يا الله يارحيم يا رزاق يا كريم

آه لقد ارتفعت الشمس واشتدّ الحرّ ولم أحصل على فرصة عمل بعد سآوي إلى الظل يارب رزقك لهؤلاء البنات وأنت أعلم بالحال مـرّ الوقت واقترب النهار من منتصفه وحرارة الشمس لا تحتمل ولم أحصل بعد على فرصة سأذهب إلى البيت أرتاح من هذا الحرّ وفي الغد إنشاء الله ييسر لي ربي رزقا حسنا

الزوجة برّة : أراك عدت مبكرا ألم تجد عملا أيها الزوج الحبيب

حمدان : لقد اشتدّ الحرّ وأضرّ بي القيظ ولم أحظ بفرصة عمل حسبي الله ونعم الوكيل

الزوجة برّة وقد مهدت له مكانا يرتاح فيه : اجلس هنا يا حمدان ولا تيأس من رحمة الله استرح قليلا الصبر طيب الصبر جميل إن الله مع الصابرين

في اليوم التالي

الزوجة برّة : كان الله في عونك توكل على الله يا رجل واجتهد أن تجد عملا فقد نفذ الطعام من عندنا ولا شيء نطعم البنات ولكن ‘إياك إياك والحرام احذر يا رجل

حمدان يخرج وهو يقول :توكلت على الله .. اللهم اغننا بحلالك عن حرامك يارب ثم يلتفت إلى زوجته ويقول لها : إني نويت الصيام فأطعمي البنات ما تيسر لك ريثما أعود

يذهب إلى المكان المعتاد

سأقف هنا أنتظر رزقي يارب ياالله ... ها هي الشمس ارتفعت والحر يشتد ولم يتيسر لي الحصول على عمل ماذا أفعل لقد أنهكني الحرّ والعطش سأعود إلى البيت فلا أمل بعد الآن

الجار المجاور : مسكين حمدان هذا ها هو يعود للمرة الثانية خالي الوفاض إني أسمع حواره مع امرأته من مكاني هذا ما أشدّ فقره وحاجته والله لوددت لو أني أستطيع أن أقوم ببعض المساعدة ولكن الحال واحد

الزوجة برّة : اصبر يا رجل تحمل لابدّ من الفرج فإن الله خلقنا ولن ينسانا حاشاه علينا بالصبر لعل هذا البلاء يورثنا الكرامة عند الله يوم القيامة اصبر ولا تقنط من رحمة الله

حمدان : ونعم بالله رضيت بقضاء الله ورضيت بمشيئته ولكن هل أكل البنات شيئا ؟

الزوجة برّة : لقد أطعمتهم آخر لقيمات من الخبز عندي ونويت أنا الصيام مثلك

 الجارالمجاور : ها هو صباح اليوم التالي بزغت شمسه ولكن جارنا لم يذهب للبحث عن عمل , لعله منهك من الجوع فأنا على يقين أنه لم يطعم طعاما منذ صباح البارحة ولا زوجته

 ها أنا أسمع أصواتا ... لأنصت

الزوجة برّة : قم يا رجل توكل على الله لعل رزقا وافرا ينتظرك هذا اليوم قل يا الله قم واسع ولن ينساك الله من فضله

حمدان : اتركيني يا امرأة لقد سدّت في وجهي منافذ الرزق والقيظ شديد والجوع يعتصر أحشائي

الزوجة برّة : لا تدري يا رجل ما قدّر الله لك من رزق في هذا اليوم قم وابحث عن رزقك

الجار المجاور : يا لها من زوجة صابرة محتسبة قوية الإيمان وهي رغم كل هذا البلاء لم تستسلم للجوع و..

حمدان : حسبي الله ونعم الوكيل سأذهب وأرى ماذا سيحدث معي لعل هناك نافذة رزق قد فتحت

سأنتظر في هذا المكان ولا بدّ أن يسوق الله لي رزقا وهو الرزاق ذو القوة المتين .... ارتفعت الشمس سآوي إلى الظل فحرارة الصيف لاتحتمل

جلس ينتظر الفرج أخذ يعبث بأصابع يده بالرمل أحس بشيءبين الرمال

حمدان : ما هذا قطعة جلد فلأسحبها الله أكبر ما هذا إنه حزام من جلد ماذا بداخله يا الله إنه مليء بالدنانير الذهبية يا فرحتي  يا فرحتي سأذهب إلى البيت وأبشر زوجتي وبناتي

يدخل حمدان إلى البيت مسرعا

الزوجة برّة : مالك يا حمدان ؟ ماذا معك ؟

حمدان : قولي الحمد لله يازوجتي الصابرة إنه حزام من الجلد مليء بالدنانير الذهبية وجدته بين الرمال قريبا من الحرم لقد فرجت لقد فرجت الحمد لله الحمد لله أين أنتم يا بناتي الحبيبات تعالين وانظرن

الزوجة برّة : تصرخ بزوجها بقوة ـــ حمدان ما هذا ؟ ألا تعلم أن لقطة الحرم حرام !!

أتريد بعد كل هذا العناء والجوع أن تدخل إلى جوفنا الحرام !!؟ إتق الله يا رجل.. إتق الله يا رجل

عليك أن تنتظر لعلك تعثر على صاحبها في موسم الحج هذا

الجار المجاور : والله إنه لأمر عجيب غريب مثير للإهتمام سانصت وارى ماذا يفعل حمدان

حمدان : صدقت يا امرأة لقطة الحرم حرام لا بدّ لنا من انتظار الموسم لعلنا نعثر بين الحجيج على صاحب هذا الحزام ولعله يكرمنا بشيء نستعين به على الجوع والفاقة

الزوجة برّة : إياك أن تمتد يدك إلى ما في هذا الحزام يا حمدان إياك إياك

حمدان : ينظر إلى بناته الجياع ويقول لامرأته : ماذا لو أخذنا دينارا واحدا واشترينا به طعاما لهؤلاء البنات وأظن أن صاحب الحزام سوف يسامحنا

الزوجة برّة: وإذا لم يسامح ما العمل عندئذ !!؟ إحذر ولا قرشا واحدا إننا نصبر على الجوع في الدنيا ولكن لا نقوى على تحمل نار جهنم في الآخرة لا نقوى على الصبر على نار الآخرة

حمدان : ولكن يا امرأة ...

الزوجة برّة : بقوة وإصرار إحذر يا حمدان .. إحذر يا حمدان لا نريد أن يدخل إلى جوفنا الحرام بعد كل هذا التعب والجوع

حمدان : لا حول ولا قوة إلا بالله

الجار المجاور : ما أعجب إيمان هذه الأسرة المسكينة وما أعجب صبرها ومع أني أعاني الجوع والفاقة مثلهم ولكني لا أظن أنني أستطيع الصبر كما يصبرون لا والله لا أستطيع ... لا أستطيع

تسدل الستارة مع صوت عزف على الناي بلحن حنون

الفصل الثاني:

في موسم الحج

 حمدان : يا برّة .. يا برّة يا زوجتي الحبيبة هل تسمعين ما أسمع أنصتي لصوت المنادي ماذا يقول !!؟

 المنادي : يا أهل الحرم يا حجاج بيت الله الحرام من عثر منكم على حزام فيه دنانير فقده صاحبه في الموسم الفائت فليرده إلى صاحبه وله الأجر والثواب

الزوجة برّة : الحمد لله الحمد لله لقد ظهر صاحب الحزام ولسوف نرتاح من هذا العبء الثقيل

هلم يا رجل سلم الحزام لصاحبه

حمدان : انتظري يا امرأة دعينا نتأكد ربما ينادي المنادي على حزام آخر ثم علينا أن نساومه لعلنا نحصل على ما يسدّ جوعتنا هذه

الزوجة برّة : أسرع يا رجل أسرع وتعرف على صاحب الحزام قبل أن يبتعد المنادي ويضيع بين الزحام

يذهب حمدان ويتعرف على صاحب الحزام

حمدان : أنت صاحب الحزام الضائع سيدي ؟

الرجل: نعم وهل هو معك ؟

حمدان : كم يوجد في داخله يا سيدي ؟

الرجل : يوجد في داخله ألف دينار ذهبي بالتمام والكمال

حمدان : لو أن الذي وجده أعاده إليك هل تعطيه مئة دينار جائزة ؟

الرجل : لا ... لا أعطيه شيئا

حمدان : كان الله في عونك

في اليوم الثاني ما زال المنادي ينادي , يذهب حمدان للرجل ثانية

حمدان: لو أن الذي وجده ورده إليك هل تعطيه عشرة دنانير جائزة ؟

الرجل : لا .. لا أعطيه شيئا

حمدان : كان الله في عونك

في اليوم الثالث وما زال المنادي ينادي يذهب حمدان إلى الرجل أيضا

حمدان يسأل : لو أن الذي وجده ورده إليك هل تعطيه دينارا واحدا جائزة ؟

الرجل بإصرار: لا... لا أعطيه شيئا !!

حمدان : لا حول ولا قوة إلا بالله تعال يا رجل إن الحزام عندي هلم أسلمك إياه

يذهب الرجل مع حمدان ويأخذ الحزام بما فيه ويشكر حمدان ويمضي

حمدان لزوجته : أرأيت يا امرأة لقد خاب أملنا في الرجل لم تسمح نفسه بشيء لنا من هذه الألف دينار

الزوجة برّة : ولكن أملنا في الله لم يخب والحمد لله سلمنا من الحرام والوقوع فيه والله لا ينسانا

حمدان : ونعم بالله ... ونعم بالله

تسدل الستارة مع موسيقا ناعمة

المشهد الثالث :

حمدان : طرقات على بابنا ؟ من عساه يزورنا في هذه الأوقات ؟ وعهدي بالباب لم يطرق منذ أكثر من سنة

الجار المجاور : طارق علي باب جارنا ؟ لا بدّ أن شيئا قد حدث عساه خيرا

حمدان : من بالباب ؟

الرجل: أنا صاحب الحزام

الجار المجاور: عاد صاحب الحزام لعله وجد الدنانير نا قصة كان الله في عونك يا جارنا المسكين

حمدان : صاحب الحزام بالباب !! ماذا يريد ؟ ألم يتأكد من دنانيره ومن حزامه !! اللهم استر يا رب يفتح حمدان الباب

الرجل : السلام عليكم ايها الرجل العزيز

حمدان : وعليكم السلام ماذا حدث ؟ ألم تكن الدنانير كاملة العدد ؟

الرجل : اطمئن .. بارك الله فيك بل هي ألف دينار بالتمام والكمال

حمدان : إذن لماذا عدت ؟

الرجل: ألا تدعوني للدخول أم ابقى على الباب !؟

حمدان : تفضل... تفضل

الرجل وهو داخل : لا تقلق ولاتهتم لن ينالك أذى بإذن الله ولكني أردت أن أقص عليك حكاية هذا الحزام وأخبرك بأمره

حمدان : تفضل

الجار المجاور : لقد بدأت المفاجآت ولعلها الكرامات لأستمع

الرجل : يا سيدي أنا ثالث ثلاثة أولاد لأبي وكان تاجرا غنيا ومحبوبا وقد توفي وترك لنا ثروة تكفينا نحن الثلاثة وترك لنا أيضا وصية يأمرنا فيها بأن نقتطع من التركة ثلاثة آلاف دينار وننفقها على الشكل التالي :

ألف نوزعها على فقراء مدينتنا

وألف ننفقهافي عمارة المسجد لتكون صدقة جارية عن روحه

 حمدان : والألف الثالثة ؟

الرجل : الألف الثالثة أمرنا ان ننفقها على فقراء الحرم في موسم الحج

حمدان : رحمة الله على روحه وبارك الله فيكم من أبناء يررة

الرجل : يا سيدي وقد نظرت في الحرم وتأملت أهله فلم أجد أحدا أحق بهذه الألف دينار منكم

فتفضل بارك الله لك فيها

رمى الرجل الحزام بما فيه في حضن حمدان ومضى مسرعا

الجار المجاور : مبارك عليك يا جارنا مبارك عليك الحمد لله فرجت وكانت عاقبة الصبر خيرا الحمد لله

حمدان : أما وقد اطلعت ايها الجار على حالنا وعلمت بأمرنا فلاأقل من أن نشركك معنا بهذا المال

هذه مئة دينار لك كما أن لكل فرد منا مئة دينار

يقف الجميع وقفة شكر وتذلل لله وبصوت واحد يقولون : الحمد لله الحمد لله مستوجب الحمد والشكر

تسدل الستارة وتخفت الأضواء انتهى