حوار مع الشاعرة الفرنسية كاترون ستول

هيام الفرشيشي

الصحراء أعادت تشكيل روحي

حاورتها : هيام الفرشيشي / تونس

[email protected]

لقد احتفظت الصحراء بطابعها الايحائي الذي يحيل إلى التشكيل الرمزي لمعان روحية سواء كانت دينية أو شعرية ، فهي تروض الجسد وتهذب الروح وتعيد نحت كيان الإنسان حين يدرك أنه استشعر إحساسا غامضا يبعث الحياة في تربة موات ، لن يفلت كاتب أو شاعر من أسر الصحراء . من ينزل بها تبعث فيه الشعور الملح بالعودة ومواصلة الرحيل والاكتشاف . ومن بين هؤلاء تتوق  الشاعرة الفرنسية كاترين ستول  للصحراء بحثا عن عالم خارجي هادئ  لا يحيل إلى كل مشتقات الضجيج . فقد بدا للصحراء "مذاق النور" للشاعرة التي تاقت لمعانقة صحراء افريقية وتحديدا صحراء دوز بتونس اكتشافا لمعنى عميق شبيه بالغوص في أعماق الكثبان الشاسعة .

وقد أفرز هذا اللقاء الحميمي بين الشاعرة الفرنسية كاترين ستول وصحراء دوز كتابا شعريا . قام الهادي خليل بترجمته للعربية وتكفل "بيت الشعر" في تونس باصداره باللغتين العربية والفرنسية ، وقد نشر بالشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسم ، و جاءت كلمة بيت الشعر بقلم مديرها المنصف المزغني : " انبثق الشعر دوما في اللحظة المواتية للإصغاء إلى الآخر صوتا وصمتا ، ومن يكون هذا الآخر غير " أنا - نحن " على حد تعبير رامبو ؟ لقد سبق لبيت الشعر أن قدم ترجمات شعرية من روسيا ومن العالم ، ومع كاترين ستول سيمون نحن إزاء شاعرة تنخرط في ترحال فعال وخلاق . إن كاترين تلتحم بالصحراء لمساءلة الحب والوجود والصمت بما يتجاوز المنظور ، والشعر هو هذه الرحلة المحفوفة باللذة والمخاطرة من أجل البحث عن الغيرية " .

وتبدو الصحراء في "مذاق النور" الجسد الظاهر للمعنى العميق الكامن ، وبذلك وقع التصدير للكتاب بعبارة لادومان جاباس "عندما نعرف الصحراء فإننا نبقى مدينين إليها ، إلى الأبد ، بامتحان مفيد ذلك الذي يعلمنا النسيان ، إن صمت الصحراء يجردك من كل شيء لتكون بذلك أنت نفسك يعني لا شيء ولكن لا شيء يجيد الاستماع " .الصمت هو الكفيل بترجمة لغة الذات في غياب الضجيج الخارجي ومصادره . فالصمت تيمة للغة شعرية تجد في الخارجي وهم الإحساس بالاطمئنان .

في هذه المحادثة الحميمية عبرت  كاترين ستول عن تجربتها الشعرية ببساطة قد تترجم جزءا من هذه التجربة ولكنه الجزء الأهم باعتباره النواة والنقطة المرجعية للإرهاصات الشعرية التي تجلت للشاعرة حين زارت صحراء دوز . صحراء دوز بدت أمام العين المجردة النافذة للشاعرة أشبه بإمرأة متحجبة واجدة فيها  موضوعا جاهزا لرحلة اكتشاف المعنى والتعري من الكلمات التي تحدد وجودها الاجتماعي ، لترسم ذاتها الغائبة بأشعة نور الصحراء ، إذذاك تطأ حالة اللاشيء المحدد لوجودها الذاتي . فالشعر يحدد وجودها على أنقاض فناء الذاكرة ويرسم الحياة معنى بكرا يحقق الإحساس بالبهجة عند خوض تجربة المحو وتدفق الإحساس بالنشوة . تخرج الشاعرة من عالم المدينة وترسم إحساسها انطلاقا من الصحراء التي أضحت متحركة لتشكل الصور الملتصقة بصحراء دوز كنواة لغموض المعنى . المعنى الغامض الذي لا يكشف عن أسراره كاملة ، إذ تلى حالة اكتشاف الصحراء شعور بمعاودة الرحيل  تحت تأثير الانجذاب الغامض المجسد حاجة  الشاعرة الدائمة للرحيل .

 فالشاعرة كاترين ستول هي واحدة من هؤلاء الذين ترجموا معاني الصحراء التي لا تنضب في انتظار معاودة اكتشاف معان أخرى في طرق الترحال الشاقة . لقد قصت علينا قصة "مذاق النور" التي قلبت حياتها وللأبد .

هل تعتبرين نفسك شاعرة النور ، ذلك النور الذي يضيء ظلال الروح ؟

شاعرة النور ، ربما ، في كل الحالات شاعرة تعنى بالطبيعة ، الكواكب ، عناصر الكون ، لقد أبعدتنا المدنية تماما عن الطبيعة . كم من طفل في أوروبا أو غيرها يريد التعرف على قناة تلفزية تعنى بأشجار البندق مثلا ، كم من مرة رأى دجاجة وهي  تبيض ؟ كم من مرة تأمل السماء والنجوم ؟ . أضيفي إلى ذلك أننا أصبحنا نمتلك معرفة علمية حول الطبيعة ، لقد فقدنا معانيها الغامضة والمقدسة ، وقد تناسينا أننا لا شيء بدونها وبدون عطاءاتها . في القديم كان الأفارقة يضعون القرابين أمام جذع الشجرة التي تعطي ثمارا ، إنها طريقة لشكر الطبيعة السخية ، لكن الإنسان الحديث حول الأرض إلى آداة كسب ومضاعفة الإنتاج ، إن تفكيره الاقتصادي يحتم عليه أن يستغل الأرض في حين أنه ينسى قواها العميقة . لقد نسينا أن نحبها وذلك أخطر مما نتصور .

تربة عاشقة

حوريات رملية

أجسادها هاربة

الأجساد الممتدة قريبا

من قلب الأرض

لماذا شدك سحر صحراء دوز في الجنوب التونسي تحديدا ، ألم تنجذبي بالأماكن التاريخية والأسطورية بتونس ؟ هل تمثل لك صحراء دوز الفضاء المطلق للكلمات العالقة في صمت الصحراء ؟

لقد أتيت إلى دوز منذ أربع سنوات تقريبا ، فقد عرفت مالي حين عملت لفائدة منظمة إنسانية ، لكنني لم أعرف الصحراء من قبل فأردت السير في ذلك الاتساع غير المحدود لمدة أيام عديدة تاركة الأشياء خلفي وذلك يفسر ما انتابني من تمرد . والصحراء تحيل إلى البساطة ، بساطة الأشكال فلا وجود لغير الرمال والكثبان والواحات أحيانا وبساطة العيش . لقد تخلصت من التعب الذي لازمني طويلا في مدن النور المكتظة والملوثة ، لقد أعادت لي الصحراء الحياة  !  إنه رأي غريب !

لقد غذت لدي الصحراء الحاجة للتلاقي مع الأرض إذ غير الإنسان كل شيء وحول كل الأشياء تقريبا . لم تبق إلا أماكن قليلة لم يمتد إليها هذا التحويل بعد ، كنت بحاجة إلى ذلك اللقاء مع طبيعة مطلقة وكنت بحاجة إلى ذلك السلام الذي أضحى نادرا .

هنا في وجه السماء المضيئة

مثل ظل شجرة صغير

أين يمكن الاحتماء

فهل تدرك مقدار غبطتهم

حين يهجعون تحت هذا الظل ؟

هل ما زالت صحراء دوز تغذي فيك روح الترحال والتنقل المستمر ؟

عندما رجعت إلى صحراء دوز ثانية ، كنت أشعر أنني عدت تحت تأثير نداء يدعوني نحو الاتساع والأفق . أضحى لدي حلم بالذهاب نحو أقصى الجنوب في يوم ما ، أن آخذ طريق القوافل الكبرى المتجهة نحو غدامس وليبيا . ما هو رائع في دوز هو معرفة النقطة النهائية ، المكان الأخير قبل البسيطة ، إنها ضفة العبور من المدنية إلى عالم إنساني .

أنا طفلة النادر واللاشيء

المحظوظة

مدفوعة حتى الفراغ

مثل رحمة

فوق مطلق العنف اللامتناهي

مذاق النور في دوز ، هل هو الإحساس بمنابع العاطفة أو ذلك المعنى المغاير الذي يبدو كالمطلق ؟

الصحراء هي ينبوع العواطف في " مذاق النور " لأنها تجعلنا ندرك عمق الطبيعة ، كل شيء قاس ومتعب ، كل شيء شديد الأهمية سواء كان قطرة ماء أو حفنة ملح ، إنه سؤال البقاء ، الصحراء ترجعنا إلى الأشياء الأساسية : الأكل ، الشرب ، النوم ، الصلابة ، وإلى الفضاء الذي يسعنا لنحلم فيه ونتأمل ، لقد عشت تجربة المكوث بالصحراء عن بعد 150 كم من دوز برفقة المرشدين والجمال . لقد قال لي أحدهم : إن المرازيق يرسلون أطفالهم لقضاء ليلة في الصحراء حين يبلغون سن العاشرة تقريبا بعيدا عن الكبار لكي لا يشعروا بالخوف في مواجهة تلك الطبيعة المؤثرة . وفي خضم تلك المشاعر نعي أن الصحراء هي بامتياز مكان الذين يبحثون عن المطلق ، فأكبر الأديان مثل الإسلام ظهرت في الصحراء بعيدا عن الكائنات الإنسانية . فالصحراء مكان يلهم الصوفي والشاعر أيضا ، فقد ظهر الشعر الجاهلي في الصحراء مثل الشاعر امرئ القيس أما الآن فلم يعد الشعر بتلك الأهمية في الصحراء على وجود شعر شعبي جميل في دوز ولدى كل سكان الصحراء مثل الطوارق ، والغريب أن الكثير من الكتاب استلهموا عمق الصحراء وقلة من الشعراء ، لقد أردت أن أكون من بين تلك القلة من شاعرات هذا العصر فاهتممت في " مذاق النور " بالصحراء .

وامتدت صلواتي لامتداد أفقك

لقد أردتني خاشعة مسلمة لطلاسم حكمتك

جبيني يلامس ضفاف المطلق الصافية

وخدي يرنو إلى براءة أرضك

لم هذا الايقاع البطيء والذي بدا مملا أحيانا في " مذاق النور " ؟

هذا الايقاع البطيء يتماشى مع طبيعة العيش في الصحراء . لقد كنت أنتقل راجلة أو على ظهر الناقة ، لا يوجد شيء كبير نفعله في الصحراء عدا جمع الحطب لإشعال النار مساء أو الاهتمام بالجمال بإعطائها العلف وتقييد أرجلها ليلا لكي لا تبتعد ، أما طيلة النهار فالطقس حار وذلك ما يقرر الايقاع البطيء وكأن الزمن يلفظ أنفاسه وهو الذي يمر بسرعة في المدن ، ذلك هو الإحساس الذي أردت بلورته .

" لقد أصبحت الطريق الصحراوية الممتدة من قلبي نحو الجنوب مألوفة لدي حتى أن الطريق المكتظة بالنخيل المعدم بسبب الجفاف أضحت بمثابة أخ لي ، خيل إلي أن ذلك المقهى لم يغلق أبوابه منذ الفصل الماضي وأن نفس أطياف الشيوخ الغارقة في البرانس الصوفية  مازالت تتجمع هناك للتدخين ..."

هل " مذاق النور " هو ذلك المذاق المنتشي بالفراغ أم بالمعنى المجرد ؟

لقد عنونت كتابي الشعري بعبارة فرنسية " مذاق النور " لأسباب عديدة ، فهذه العبارة هي مصطلح يستعمله المختصون في الخمور ، وأنت تعرفين أن الخمر يجب أن يخزن ويحفظ في كهوف مظلمة ، نقول أن " للخمر مذاق النور" حين تتسلل إليه أشعة الشمس عرضا فيتغير طعمه تماما . لقد أحببت ذلك التعبير عندما أتيت إلى دوز أول مرة ، راودني الانطباع بأنني أصبحت خمرا أخذ مذاق النور فللصحراء مذاق النور لأنها أعادت تشكيل روحي بعمق وللأبد ، وأنت تعرفين بطبيعة الحال أن الخمر ترمز لدى الشعراء إلى ينبوع الحياة ومعرفة العالم الأرضي والحقائق الأكثر روحانية وعمقا .

" ولكن كيف لي أن أفسر لهم أن ما يشدني إلى دوز هو شيء أكثر عمقا ودقة وأن تلك  البلدان البسيطة كانت تمسني في العمق لأنها كانت تعبق بشيء مبهم دون أن يكون غريبا أو عظيما . يبدو أن لدوز حنان الأم الذي يبرز على السليقة فتعد موطنا للذات وسرا غامضا يعجز البعض عن فك أسراره وطلاسمه".