بدوي الجبل

منير العكش

 الأسئلة التي لا جواب عنها

(حوار مع بدوي الجبل)

أجراه: منير العكش

"أجريت هذه المقابلة قبل ربع قرن تقريباً، وكانت قبل وفاة الشاعر الكبير بسنتين تقريباً، ونعيد نشرها الآن من كتاب: أسئلة الشعر للأستاذ العكش".

* هل كنت صادقاً حينما بكيت من أغلال الوزن، في قصيدتك (رثاء هنانو؟)

- الشاعر غير مقيد بكل ما يقوله، فقد تمر به خاطرة عابرة، وقد تمر به خاطرة يمليها جو القصيدة، وعندما تكلمت عن القيود في قصيدتي، مر هذا المعنى مروراً، وأنا في الواقع، وبحكم دراستي الأدبية لا أؤمن بأن الأوزان قيود، ولكنها نغم وعطر وجمال.

* وردت في قصائدك تعريفات كثيرة للقريض والأوزان، هل تعتقد أن باستطاعتك تعريف الشعر؟

- أما الشعر فلا تعريف له، وكل تعريف للشعر جرأة على تفرده وتميزه، كل ما يعرف يمكن أن يعاني، والشعر لا يعاني إلا من الشاعر، والشعر عندي نوع من النبوة. إنه خيال، ونغم، وضوء، وصور. ولكنه فوق ذلك شيء أشمل وأدق، ولا يمكن التعبير عن هذا الشيء مطلقاً، وعندما أشبهه بالنبوة، والنبوة إلهام وغيبية، أكاد أحس أنني عبرت –تعبيراً ناقصاً- عن هذا الشيء في الشعر.

وأنا لم أدرس العروض في حياتي، ولكنني، بحس مرهف، استطعت أن أجعل شعري منسجماً مع الأوزان، أعتقد أن الوزن في الشعر العربي قطعة لا تتجزأ منه، وكل عبث بالأوزان هو عبث بالشعر وعبقريته وإلهامه.

* أيهما يأتيك أولاً: الوزن أم الكلام؟

- النغم والمفردات والخيال والصورة، تأتي في وقت واحد، ولا تفريق بينها، فلا النغم يبدع المفردات، ولا المفردات تبدع النغم، إنها عندي وحدة لا تتجزأ، ولا يوحي أحدها الآخر، بل تأتي كلها إلهاماً لا يستطاع تفسيره.

وأنا لم أحاول –حياتي- أن أنظم شعراً، وإنما تمتلئ نفسي على مهل، وأعرف أن نفسي تمتلئ قليلاً قليلاً بصور أجهلها، ومعان أجهلها، وقد يطول هذا معي أسابيع، ثم يمر شطر بيت، قد يكون صدراً، وقد يكون عجزاً، فأثبته، ثم تتوالى عليّ الصور، والمعاني، والخيالات، والنغم، والمفردات، دون ترتيب، فأثبت كل ما يأتيني، وأكون في حال أقرب إلى الغيبوبة منها إلى الصحو.

في هذه الحال، لا أحس بجوع، ولا أنام ملء جفني، بل يسيطر علي الأرق، وتتجمع أمام عيني خيالات، لا تلبث أن تتحول إلى مفردات، ثم إلى أبيات.

وتستمر معي هذه الحال من ثلاثة أيام إلى أربعة تكون القصيدة فيها قد انتهت، فأعيد ترتيبها، ومن الغريب أنني أجدها مرتبة منظمة، كما أنني لا أؤمن بوحدة الشعر، فالمعاني هي التي تملي نفسها، والذي يريد وحدة الشعر، كأنه يصنعه صنعة، ولا يبدعه إبداعاً، والصنعة منهما تأنقت، لا تكون إلهاماً ، ولا ضوءاً، ولا عطراً.

* ومع ذلك يحس القارئ شعرك بالانبهار أمام الأناقة المفرطة والتزويق المترف. هل تتقصد ذلك؟

- لا صنعة عندي مطلقاً، وإنما الأناقة تكون في الشاعرية أولاً، وتكون بقراءة الأدب العربي القديم قراءة عميقة واسعة، وبوفرة المفردات، والتعود على ضم اللؤلؤة منها إلى اللؤلؤة، وأعيد القول: إن الأناقة لا تكون إلا بعد أن تكون الشاعرية إلهاماً أنيقاً.

* هل هناك مفردات تتعشقها، وتفتح لك أثناء كتابة قصيدتك تياراً من المعاني لم تكن تتوقعه؟

- لكل شاعر أسلوبه، ولابد من أن يبقى في الوعي الباطن نغم هذا الأسلوب وبعض المفردات الأنيقة التي يتكئ عليها النغم، ووعي الباطن يحتفظ بمفردات أنيقة رشيقة. وهي تمر في شعري دون أن أتعب في انتقائها، أو ألجأ إلى المعاجم، للتفتيش عنها. إنها في سريرتي كامنة مع الشعر ومع نغمه.

كل مفردة، إذا نزلت منزلها، فهي جميلة، وكل مفردة جميلة إذا نزلت غير منزلها فقد تخلت عن جمالها. إنني عندما يمر بي بيت رائع، وأثبته، أقرؤه، وكأنني غريب عنه، ولا صلة لي به، وأدهش من هذا المعنى، كيف نزل عليّ دون جهد ولا تفكير، ويترك في نفسي نشوة الاكتشاف لجمال رائع.

الشاعر لا يستطيع تفسير شاعريته، ولا تعريفها، ولا يعرف حدودها، ولا أضواءها ولا ظلالها. إنها في السريرة كالعتمة تتحول إلى قليل من الضوء، ثم يزداد هذا الضوء حتى يتحول إشراقاً، ولكن لابد من أن يبقى، في رأيي، ظل للعتمة في هذا النور المشرق.

* لماذا لا يكون هناك شعر بدون جمال؟

- أنا أعتقد أن الجمال والشعر أخوان لا يفترقان، فالشعر تعبير عن الجمال والجمال ملهم للشعر، وكلاهما جزء من الآخر، وما قلته عن الشعر ينطبق كذلك على الجمال. فكلاهما، لا يعبّر عنه، ولا تفسر معانيه، ولا تدل مفرداته عليه، فهو على وضوحه خفاء، وهو على حزنه نعمة ورجاء.

* هل هناك جمال واحد تستلهمه؟

- أنا لا أرى هذا، ففهمي للجمال أو تعبيري عن الجمال يختلف عن غيري، الجمال الذي أصفه في شعري كما في قصائد (خالقة) و(اللهب القدسي) و(سراب) هو مثل أعلى جديد للجمال، ولا صلة له بمثل أعلى آخر للجمال، قديماً كان أو جديداً.

* إذن لماذا تصر على ما تسميه بالديباجة العربية الصافية؟

- الديباجة العربية الصافية يشترك فيها الشعراء، أو هي شرط واجب على الشعراء لا غنى عنه. وفيما عدا الديباجة لا صلة بين إلهامي الشعري، وبين القديم، حتى رونق الديباجة –على صفائه وعذوبته- يختلف بين شاعر وآخر.

* ولماذا تجعل الديباجة شرطاً واجباً؟

- إذا فقد الشعر ديباجته الصافية، لم يبق شعراً. إن الديباجة الصافية وطن الشعر، إذا صح التعبير، وبدونها يكون الشعر غريباً، أو بالأحرى، لا يكون شعراً على الإطلاق.

* ألا يكون هذا الوطن غلاً في بعض الأحيان؟

- أنا لا أتقيد بالقصيدة، بل أترك نفسي على هواها، والجو النفسي هو الذي يؤلف وحدة القصيدة عندي. أما أن أتعمد ديباجة واحدة أو موضوعاً واحداً، أو فكرة واحدة، أبني عليها قصيدتي، فهذا لا يخطر لي في بال، وأراه نوعاً من الالتزام، وأنا لا أقر الالتزام في الشعر بأية حالة من حالاته.

* ألا ترى للشعر قضية ما؟

- أريد أن أسألك بدوري: ما هي قضية الجمال إذن؟ وما هي قضية المثل الأعلى؟ وما هي قضية السريرة النفسية؟ وما هي قضية العبقرية؟

- تلك أسئلة لا جواب عنها.

* تجديدك كسب أو وهب؟

- فكرة التجديد من الوهب، أما الديباجة فلا يمكن أن تستقيم إلا بقراءة الأدب العربي القديم، قراءة عميقة شاملة. والذي لا شاعرية عنده، يستطيع أن ينظم الشعر بفضل الكسب، ولكن النظم غير الشعر. إن قراءة الأدب العربي القديم تزين الديباجة وتعطرها، ولكنها لا تخلقها ولا تبدعها.

* وما الذي يخلقها ويبدعها؟

- هذا مما لا أعلمه أنا كذلك. سر من أسرار الشاعرية، يخفى حتى عن الشاعر، بحسه، ولا يستطيع تفسيره.

* هل تحب الحركة الجديدة في الشعر؟

- قرأت الشعر الحديث مرات عديدة، فلم تهنأ نفسي، ولا نعم به ذوقي الشعري. وأنا الآن، لا أقرأه، إلا إذا كان لمن أحبه، وأعتقد فيه الشاعرية، كأدونيس ونازك الملائكة.

أقرأ شعرهما الحديث بلوعة وحسرة، لأن كليهما شاعر رائع أضاع نفسه، ويسعدني أن نازك الملائكة رجعت إلى طابعها الأصيل، وسأكون مغموراً بالسعادة، أنا والشعر، عندما يعود أدونيس إلى طابعه الأصيل.

* ما هو الحد الفاصل بين الشعر والنثر؟

- الوزن والقافية أولاً، والإبداع والإلهام والنغم.

* ألا تحس أحياناً بثقلهما على الشعر، وتقييدهما لحريته وعفويته؟

- إنني لا أرى الأوزان تقيد من حريتي الشاعرية وانطلاقها البعيد. الأوزان أساور وعقود، لا سلاسل وقيود، والشعر في أوزانه أقرب إلى العفوية من هذا الذي يسمونه شعراً جديداً.

الأوزان لا يمكن أن تكون غريبة عن الشعر، أو بالأحرى: الشعر لا يمكن أن يكون غريباً عن الأوزان، والذين يريدون أن يسموا النثر شعراً يظلمون الشعر، ويظلمون أنفسهم، ويفرضون الغربة والضياع عليهم وعلى الشعر.

* كيف جاءك التصوف مؤخراً وأنت في فيينا؟

- جذور التصوف قديمة عندي، ولي قصائد في التصوف قبل العشرين من عمري، وربما كان لنشأتي في حضن أب مؤمن متصوف عالم، أثر في ذلك. فسريرتي –وشعري ينسكب من سريرتي- مغمورة بنور التصوف، وعطر التصوف، والتصوف عندي إيمان بالله، وفناء فيه، وحنان على كل محروم، ولعلي أعبر عن هذه الحالة بقولي في قصيدة لي:

أعطي بذلة محروم فوالهفي    لسائل يغدق النعماء منهور

* والشك القديم.

- الشك قد يمر بالمؤمن، حتى في أعرق المتصوفين، ولكنه شك عابر، لا يلبث الإيمان أن يجلله بالنور واليقين والاطمئنان.

فلمّات الشك لا تتخذ دليلاً على الكفر، إنها حلم لا يلبث أن ينتهي بصحو مشرق لماح.

* ما دور أبيك في إيمانك وشاعريتك؟

- بدأت القراءة بالقرآن الكريم، ثم قرأت على أبي رضي الله عنه، برغبة منه، الحديث الشريف، ونهج البلاغة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهو غاية الغايات في البيان، والإيمان، والفناء في الله.

ثم قرأت على أبي بعد ذلك اللزوميات لأبي العلاء المعري، وكان معجباً بها، وله شرح على اللزوميات لم يكتب في اللغة العربية من طرازه عن أبي العلاء. ثم قرأت عليه رضي الله عنه المتنبي وأبا تمام، والبحتري، والشريف الرضي، ومهيار الديلمي، والحماسة لأبي تمام.

وكان أثناء قراءتي، يفسر لي المفردات والمعاني، ويلفت نظري إلى جمال الصور، ويصحح لي كل خطأ أخطئه عند التلاوة، لاسيما عين المضارع.

فلوالدي رضي الله عنه الفضل الأكبر في متانة لغتي العربية، وتفهمي ألوان البلاغة العربية، وغناي بالمفردات، ومعرفتي بالموقع الذي تحلو فيه المفردة.

كما نشأني على الإيمان بالله، وعلى الحب، أغمر به، حتى من آذاني، وعلى قول الحق، مهما كان الموقف دقيقاً وحرجاً.

ولقد سببت لي هذه الأخلاق الكثير الكثير من الحرمان والاضطهاد والشجون والتشريد، ولكنها، في الوقت نفسه، سببت لي راحة ضميري، واطمئنان سريرتي.

وقد قدرت لي الأمة هذا الخلق، فكنت أنتقل من السجن إلى النيابة، ومن التشريد إلى الوزارة، وأنا لا أقول ذلك تباهياً، بل اعتزازاً بفضل الله وفضل الأمة التي أخلصت لها، وجزتني على إخلاصي، وكان ذلك بصورة عفوية مني ومنها.

* ألم تتأثر بشعراء الطائفة العلوية؟

- الطائفة العلوية طائفة جعفرية مسلمة، وشاعرها الأكبر الأمير العالم المؤمن المتصوف حسن بن مكزون السنجاري، يمتاز شعره بديباجة رائعة، وبعلم زاخر يتناول الفلسفة، والتصوف، والإيمان، والمنطق، وعلوم اللغة العربية.

وقد عارض المكزون –وهو جدي الأكبر- ابن الفارض فتفوق عليه، وكان أدق منه وأعمق، وأنفذ إلى حقيقة التصوف، وإشراقه، وصفائه، ومباهجه، وأحزانه، وقد قرأت ديوانه على والدي عشرات المرات، ولا ريب أنني تأثرت به، وإن كنت أعتقد أن في ديوان الأمير شعراً مدسوساً عليه.

* ألم تظلم ابن الفارض بهذه المقارنة؟

- أنا قرأت القصيدتين: المكزون في قصيدته متصوف وعالم وهاد، وابن الفارض في قصيدته متصوف فحسب، والعمق والعلم عند ابن الفارض لا يقابلان العمق والعلم عند المكزون.

أما الشاعرية، فلا يمكن الحكم على القصيدتين بجملتهما، لكن أفضل ما في قصيدة المكزون أروع بعشرات المرات من أفضل ما في قصيدة ابن الفارض.

المقارنة هنا ليست بين القصيدتين، بل بين أجمل ما في قصيدة ابن الفارض، وأجمل ما في قصيدة المكزون.

* والمنتجب؟

- قرأته، لكنني لم أتأثر به.

* لماذا الدين؟

- أعتقد أن الدين، والإسلام الصحيح وحده، يمكن أن يعيد لهذه الأمة كرامتها وعزتها وصفاءها وكبرياءها، كبرياء الحق، لا كبرياء الباطل، إن إسرائيل متمسكة بتقاليدها الدينية تمسكاً أعمى، وهذا التمسك حقاً كان أو باطلاً، من أسباب قوتها، بل لعله السبب الأول في هذه القوة.

 إن الإلحاد لا يستطيع أن يقف في وجه الدين، فعلى العرب أن يعودوا إلى إيمانهم كما كانوا في القديم، وهم واصلون إلى النصر بإذن الله.

* كيف توازن بين نضالك وتصوفك؟

- إن تصوفي مزيج من الإيمان والحب، والولوع بالجمال، على اختلاف ألوانه، وأنواعه، والرسول صلوات الله عليه يقول: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً" وقال أيضاً: "اعقل وتوكّل" وفي القرآن الكريم "وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا" والتصوف لا ينفي شؤون الحياة. وبين المتصوفين من انقطعوا لعبادة الله, وبينهم من أضاف إلى عبادة الله العلم والأدب، وما حلّ من مباهج الحياة.