حوار مع د. معاذ سعيد حوّى

لبنى شرف

حوار مع د. معاذ سعيد حوّى

حول التربية الإيمانية وأثرها في النفس والمجتمع(1)

د. معاذ سعيد حوّى

لبنى شرف / الأردن

[email protected]

إن المسلمين اليوم لأحوج ما يكونوا إلى تربية إيمانية صحيحة؛ إلى عقيدة صحيحة وراسخة، إلى عقل واعٍ وفكر صافٍ وفهم مستنير، إلى قلب تقي نقي، فبسبب ضعف التربية هذا وبعدهم عن المنهج الأصيل حل ما حل بهم من ضعف وهوان وتمزق، فتكالب عليهم الأعداء، وتداعت عليهم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، ولأجل أن نصل أو نقترب من تحقيق التربية الإيمانية الصحيحة، كان حوارنا هذا مع أستاذنا الكريم فضيلة د.معاذ سعيد حوّى، فجزاه الله خيراً أن لبى دعوتنا .

و د.معاذ حاصل على درجة الدكتوراة في الفقه وأصوله من الجامعة الأردنية، وهو إمام وخطيب مسجد الأوابين الكائن في منطقة صويلح في مدينة عمّان الأردنية، كما وأنه يدرس في عدد من المراكز العلمية والقرآنية وخاصة مادة التزكية، ويعقد سنوياً دورات في التزكية في إحدى الجامعات .

نرحب بكم بداية فضيلة د.معاذ سعيد حوّى...

س1: يفتقر كثير من المسلمين اليوم إلى تربية إيمانية صحيحة؛ إلى عقيدة صحيحة، وإيمان يقظ في القلب، فهل هذا هو سبب عدم استقامتهم على أمر الله، مع أنهم يصلون ويصومون؟!!

ج: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

نسأل الله تعالى أن يجعل هذا الحوار مباركاً ونافعاً وصادقاً في تبليغ كلمة الحق والخير.

إن استقامة المسلم على أمر الله لا تعني العبادات المفروضة كالصلاة والصيام والزكاة والحج، ولكنها تشمل فعل كل أمرِ أمرَ الله به، وترك كل نهي نهى الله عنه، كما تشمل اعتقاد كل اعتقاد وحق أوجب الله اعتقاده والتوصل إلى الحق فيه .

وهذه الأمور تشتمل فيما تشتمل عليه: الأحكام التي فرضها الله في المعاملات، والأخلاق والآداب التي أمر الله بها. كما تشمل كل سنة أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء في شأن الاعتقاد أم في شأن العبادات أم في شأن المعاملات أم في شأن الأخلاق .

ومن الواضح من واقع المسلمين أن الاهتمام بالعبادات أخذ حجماً جيداً، لكن الحرص على الأخلاق وأحكام المعاملات كان دون ذلك بكثير، مما أفقد المسلمين مزاياهم التي بها يظهر جمال تشريعاتهم التي أمروا بها، وظن كثير من الكافرين أن الإسلام سيء في أخلاقه ومعاملاته؛ نتيجة نظرهم إلى حال كثير من المسلمين، ومن الخطإ المنهجي عند الناس أن ينظروا إلى واقع التطبيق العملي ـ سواء كان منحرفاً أم مستقيماً ـ ويتركوا النظر إلى حقيقة المنهج الذي نزل من عند الله بالإسلام وتشريعاته وعقائده، والذي يجب أن يكون عليه كل مسلم .

كما أنه من الخطإ الكبير أن يظن المسلم أن الإسلام هو واقعه الذي يراه ويعيشه، دون أن يعرف حقيقة ما نزل من عند الله، ودون أن يحرص على تطبيقه بتمامه .

 والعبادة تشمل بمفهومها العام كل ما جاء به الإسلام، من عبادات ومعاملات وأخلاق وعقائد، ما دام يدين بها العبد لله ويخضع من خلالها ويرجع إلى حكم الله وأمره، ويحرص على مرضاته وجنته، وهذه العبادات لا تقتصر على مجرد حركات ومظاهر عملية، ولكنها أمور تعبدية يشارك فيها العقل والفكر، والقلب والخاطر والعاطفة والرغبة والإرادة، وعندئذ يكتمل معنى العبودية التي خُلِقْنا لها .

والغالب في تقصير المسلمين في جوانب دينهم يرجع إلى أحد أمرين:

 الأول: إما إلى جهل أو نسيان لحقيقة الدين والعقيدة، وأن الله تعالى موجود، وأنه خالقنا ومالكنا، ولأنه مالكنا فله حق علينا أن نطيعه في كل شيء، وقد أرسل إلينا النبي محمداً صلى الله عليه وسلم ليُعلِّمنا أحكام الله في كل شيء من نواحي الحياة. فالمسلم الذي لم يفهم هذه الحقائق نجده يعطي الحكم لنفسه وهواه أو لغير الله في كثير من الشؤون، ويظن نفسه أنه لم يقصر في حق الله، وقد سلب الله حقه في الحكم، وأعطاه لخلقه وعبيده من غير أن يشعر .

الثاني: التهاون في ترك أحكام الله بترك الطاعة أو فعل المعصية، نتيجة ضعف الإيمان، أو نتيجة الغفلة، أو نتيجة حب الدنيا والتعلق بها أو الانشغال بها، أو نتيجة تقليد المجتمع دون التفكير والرجوع إلى ما يجب أن يكون عليه، من شرع وظفه الله فيه، لينجو به يوم القيامة عند ربه .

فإذا تدارك المسلمون أسباب التقصير هذه تحول حالهم إلى أحسن حال بإذن الله .

س2: هل توافق حضرتك على أن حياة المسلمين اليوم لا تعدو عن كونها ترقيعات ليس إلا؛ تعديل طفيف هنا وتعديل آخر هناك، واعتناء بالفروع دون الاهتمام بالأساس؟

ج: حياة المسلمين لا تعبر تعبيراً صحيحاً عن حقيقة الإسلام ومجتمعه وجماله، وبعضهم يرقِّع، وبعضهم يُظهر الإصلاح وهدفه رفع الملامة عنه، وبعضهم يحاول أن يُصلِح، وقد يفلح في جانب دون جانب، وكثير منهم يهتمون بجانب من الدين دون جانب، فقد يهتم بالعلم دون التزكية، وقد يهتم بالعقيدة والفكر دون الفقه، ويقد يهتم بالدعوة دون التعليم، وقد يهتم بالعمل التنظيمي دون نوعية أفراد هذا التنظيم، وبعضهم يهتم بفروع الفقه دون إصلاح العقيدة والفكر والخُلُق، وغير ذلك، وبعضهم يعتنون بالفروع وربما يتصارعون عليها مع غيرهم، وغيرها أهم منها .

  ومع كل هذه الملاحظات على واقع المسلمين، فلا ننسى أن كثيراً منهم من أهل الوعي والفهم والعمل والاتزان والشمول؛ يحرصون على الدين كله، لكن الواقع لا يسمح لهم بإصلاح كل شيء، ولا بإبداء الرأي في كل شيء، فيبدو أثرهم في الواقع ضعيفاً أو محدوداً أو كأنه مرقع أو كأنه مقتصر على الفروع دون الأساس، فلا ينبغي أن نتهم سائر المسلمين بتقصيرهم في حمل الدين بجملته، بل طبيعة الواقع، وما فيه من ضغوط هائلة على المسلين، وما فيه من تسلط على خيراتهم، وما فيه من منع طاقاتهم وعقولهم من النمو والإبداع والدعم لشؤون دينهم ونصرة إخوانهم، بل تُستخدم لفائدة غيرهم، وما فيه من استعمار بألوانه، وما فيه من إفساد يهدم البيئة النظيفة ويخرب مشاريع الإصلاح، وما فيه من نفاق يجعل البعض يحجم ويخاف، إلى غير ذلك، كلها أمور تجعل واقعنا كما نراه، رغم وجود عقول وطاقات لو فُتِح لها المجال السليم الحر لاستطاعت أن تقيم الإسلام بكماله وجماله وخيره في المجتمعات والأمم .

و واجبنا تجاه هذا الواقع أن يجتهد العلماء والدعاة والعاملون للإسلام في التعرف على كل ما تحتاجه الأمة، ثم تمييز المهم من غيره، والبدء بالمهم، والمهم الذي لا يستطيعون إقامته يبحثون أن الأسباب المشروعة التي تكون وسيلة لإقامته، والوسائل التي لا تكون متاحة يبحثون عن مباديها التي توصل إلى إتاحتها، وهكذا حتى يسير العمل الإسلامي ـ علما وتخطيطاً ودعوة وعملاً ـ في إطاره الصحيح الذي يسرع بالنتائج المرجوة التي ترضي الله وتقيم شريعته .

س3: أستاذنا الكريم، نحن نقرأ الكتب الدينية، ونستمع للخطب والندوات والمحاضرات، إلا أننا أحياناً لا نتأثر بها، فما هو السبب؟ وهل للقلب علاقة بهذا؟ هل قلوبنا ميتة؟!

ج: القلوب الميتة التي لا تحس الإحساس الإيماني ولا تميز الحق من الباطل، والقلوب المريضة التي قد تحس ولكنها تدير وجهها عن الحق، فلا تتجاوب مع الحق المطلوب منها، هذه القلوب الميتة والمريضة طبيعي أن لا تتأثر، فواجب المسلم أن يبحث عن طريق حياة قلبه، وأن يتجنب ما يميته .

ومما يحيي القلب: ذكر الله، قال صلى الله عليه وسلم:" مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره كمثل الحي والميت " رواه البخاري .

ومما يحيي القلب ويمنع عنه الموت والظُلْمة إنكاره للمنكر، وإنكاره للخاطر الذي يأمره بالشر والسوء والمعصية والشهوة المحرمة، قال صلى الله عليه وسلم:" تعرض الفتن [أي الخواطر الداعية إلى الباطل] على القلوب عوداً عوداً كالحصير، فأي قلب أُشْرِبَها [أي تقبلها] نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء..." رواه مسلم .

 ومما يميت القلب: الذنوب، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من أذنب ذنباً نكتت في قلبه نكتة سوداء حتى يعلوه الران، ثم قرأ﴿ كلا بل رانَ على قلوبِهم مّا كانوا يَكسِبونَ﴾..{المطففين:14} .

ومن أعظم الأسباب التي تميت القلب وتمنع وعيه وفهمه وإدراكه وقبوله للحق الغفلة قال تعالى:﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾..{الأعراف:179} .

والغفلة غفلتان: منها غفلة عقلية: وهي غفلة عن استعمال العقل أصلاً فلا يعرف الحق، ومنها غفلة قلبية: وهي الغفلة عما عرف من الحق، فهو يعرف الحق لكنه لا يتذكره، ويتناساه ويتشاغل عنه .

وحتى يخرج الإنسان من الغفلة لا بد أن يذكِّر نفسه بالحق، وأن يكون طالباً للحق، وأن يكون راجعاً إلى الله والحق الذي جاء من عنده، فمِن دون إنابة لا يكون فهم وتذكر ونفع للذكرى لقوله تعالى:﴿.. وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ﴾..{غاف:13} .

والغفلة هذه لها أسباب، أهمها: حب الدنيا والجهل بحقيقتها وهوانها، والجهل بأن على الإنسان أن يأخذ حاجته منها دون تعلق بها، بل يكون تعلقه بالله وبأمر الله وجنته .

والله تعالى أخبرنا أن من يستحب الدنيا على الآخرة يكون غافلاً ولا يهتدي ولا يفكر ولا يتذكر، قال تعالى عن الذين وصل بهم حبهم للدنيا إلى حد الكف:﴿...ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ۝أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ و َأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾..{النحل:106،108} .

والله تعالى أخبرنا أن هناك علاقة بين الغفلة عن المقصد من الحياة، وبين الرضا بالدنيا والسكون إليها، فقال:﴿ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ۝أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾..{يونس:7،8}. فواجب المؤمن أن يكون مقصده آخرته ولقاء الله لقاءً حسناً، وبهذا لا يطمئن للدنيا ولا يغفل، فمعرفة الإنسان بربه وبآخرته وتذكره لحق الله ولعظم شأن الجنة يخرجه من غفلته في دنياه، قال تعالى:﴿ إنّا أخْلَصْنـٰهُم بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾..{ص:46} .

والله تعالى لم يأمر بالإعراض عن شهوات الدنيا فحسب، بل أمرنا أن نعرض عمن يتعلق بها بحيث يجعلها مراده ومقصده بدلاً من أن يجعل الله مراده ومقصده، فقال سبحانه:﴿ فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَّوَلَّى عَن ذِكْرِنا و لَمْ يُرِدْ إلا الحيـٰوةَ الدنيا۝ذلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ العِلْمِ..﴾..{النجم:30،29 } .

وعلاج التعلق بالدنيا: أن يتذكر الإنسان قيمة الدنيا وما فيها من شهوات، ويفكر في حقيقتها، فينتبه إلى أنها إلى فناء وانتهاء، وأنها محل عمل واختبار وبلاء، توصل إلى محل الجزاء والحساب والبقاء .

 ومن أسباب التذكر والانتباه رجوع الإنسان إلى عقله، قال تعالى:أسباقال تعالى:قال ﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾..{البقرة:269} ، فالذي يُغَيِّب عقلَه وينطلق من شهواته لا تنفعه الذكرى .

...يتبع إن شاء الله في الجزء الثاني .