نظام الحكم في الإسلام

حسن الحسن

مع هبوب رياح التغيير في العالم العربي، كثر الحديث عن نظام الحكم الذي يجب اعتماده لتحقيق الاستقرار السياسي في المنطقة ولتحقيق التقدم المطلوب لإقامة نهضة حضارية وعمرانية تحقق تطلعات وآمال شعوبنا بالوحدة والعزة والاستقرار. وبما أن الشريحة الواسعة من سكان هذه المنطقة مسلمون، فإن نجاح عملية التغيير فيها منوطة بإقامة نظام سياسي مستمد من معتقدات الأمة وتصوراتها حول نظام الحكم بشكل خاص وحول الحياة السياسية في الدولة الإسلامية. وهنا ترد عدة أسئلة نجيب عن اثنين منها لبلورة الجزء المتعلق بماهية نظام الحكم المطلوب. السؤال الأول: هل هناك نظام حكم في الإسلام؟ والسؤال الثاني: ما هو شكل نظام الحكم في الإسلام؟

أولاً: وجود نظام للحكم ضرورة بشرية

لا بد أن نتنبه ابتداء إلى أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، وهو عاجز بمفرده عن توفير أكثر حاجياته الضرورية فضلاً عن الكمالية، لذلك كان لا بد له من الاجتماع مع غيره للتعاون على تأمين سبل الحياة. من هنا تنشأ العلاقات بين الناس وتولد الحياة المشتركة بينهم ضمن إطار مجتمع تحكمه سلطة، يفترض بها، أن تقوم بتنظيم علاقاته ورعاية شؤونه فيما يحقق إشباع الحاجات الأساسية لأفراد المجتمع، وضمان التكامل فيما بينهم على نحو يسوده العدل ويبغي الرخاء للجميع، فتقل المنازعات وتذوب حدة الخصومات، بعكس أنظمة الحكم الفاسدة التي تظلم رعاياها وتقهرهم وتتسبب في إفسادهم، فتفخخ المجتمع وتجعله هشاً قابلاً للاختراق، وجاهزاً للانفجار في أية لحظة، مهما بدا هادئاً أو مستقراً في وقت من الأوقات.

من هنا كان نظام الحكم هو حجر الزاوية في أية دولة، لأنه يحدد دور السُّلطة السياسية وصلاحياتها وعلاقتها بالمجتمع إضافة إلى ضبط علاقة الدولة نفسها بالدول والكيانات الأخرى بمختلف أشكالها السياسية والاقتصادية والأمنية. كما يشكل نظام الحكم بدوره إطاراً للحياة السياسية في المجتمع كدور الأحزاب والهيئات السياسية والاجتماعية والمدنية الخ، فضلاً عن كون نظام الحكم مظلة لكافة الأنظمة الأخرى المتعلقة بالاقتصاد والتعليم والإعلام والأخلاق والعقوبات ...التي يتم عادة صياغتها تبعاً لهذا النظام الذي يتحكم في الحياة العامة، فتشكل سوية حصانة للنظام السياسي الذي يفترض به الإحسان في رعاية شؤون الناس والعمل على صيانة ثقافة الأمة وقيمها وهويتها التي تعتز بها وتحبذ العيش في أجوائها وحسب مقتضياتها.

هكذا نخلص إلى أن الوضع الطبيعي للإنسان هو أنه جزء لا يتجزأ من مجتمع تنظم شؤونه سلطة سياسية يحدد دورها وصلاحياتها ومسؤولياتها نظام الحكم السائد فيها.

ثانيا: مصدر نظام الحكم مرتبط بمرجعية الأمة

بما أن لكل أمة مرجعيتها الخاصة التي تبين لها الصحيح من الفاسد والحق من الباطل والخير من الشر، فإن الإسلام بدوره يشكل مرجعية الأمة الإسلامية في تمييز كل هذا.  فالإسلام دين شامل يعتبر الالتزام بما شرعه الله تبارك وتعالى سبيل النجاة في الدنيا والآخرة، ولذلك شرع أحكاماً تفصيلية تبين الخطأ من الصواب والحق من الباطل في كل ما يقدم على فعله ويتخذه المسلم من إجراءات استناداً إلى ميزان الحلال والحرام، يقول الله تعالى (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ)[1]، كما يقول أيضا (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا)[2]. ويعتبر الخضوع للأحكام الشرعية المتعلقة بتنظيم الحياة المشتركة للناس- التي تقوم على تنفيذها السلطة السياسية صاحبة الصلاحية - جزءاً لا يتجزأ من الإيمان بالإسلام ذاته، يقول الله تعالى (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [3] وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)[4]. وهكذا نجد أن الإسلام يتجاوز في تشريعاته ومعالجاته الأحكام المتعلقة بالأفراد إلى المشاكل العامة المتعلقة بالمنازعات سواء فيما بين الأفراد أنفسهم أو فيما بينهم وبين حكامهم، طالباً منهم التحاكم إلى ما أنزل الله سبحانه.

على صعيد متصل، فقد أقام الرسول صلى الله عليه وسلم دولة مكتملة الأركان في المدينة المنورة، كان الحاكم فيها، وكانت سيرته العملية إضافة إلى النصوص الشرعية المتعلقة بالرعاية والحكم أو في الحرب والسلم نموذجاً تفصيلياً لما ينبغي أن يكون عليه نظام الحكم في الإسلام، ينبغي التوقف عنده، والعمل على فهمه بشكل دقيق ومتأن للتأسي به. فالدولة في الإسلام نموذج خاص ومميز في الحكم، تنأى بنفسها عن العصبيات القبلية أو الجهوية أو القومية، وتشتمل على تشريعات تفصيلية متكاملة تنظم الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقضائية.

وقد كانت الأمة الإسلامية على مدار ١٣ قرناً من الزمان (كان للمسلمين فيها دولة) بخير بقدر التزامها بالمعايير الصحيحة التي شرعها الإسلام، لا سيما فيما يتعلق بنظام الحكم، لما له من تأثير وتداعيات على كافة أشكال حياة الناس. وكانت أحوال الأمة تسوء وتنحدر بقدر ابتعادها عن معايير الإسلام وأحكامه أو انحرافها عنه وابتداعها ما يتناقض معه. وهذه حقيقة يقينية نص عليها القرآن في العديد من الآيات كقوله تعالى (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا)[5] . وقد فهم المسلمون هذه الحقيقة وترسخت في أعماقهم على مدار الأزمان، فصاغوها بعبارات واضحة مؤثرة منذ فجر الإسلام، على نحو قول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه (إنا كنا أذل قوم، فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله).

فحياة أمة الإسلام قائمة على أنها أمة رسالة، بزغ نورها على العرب ابتداء وهم من أضعف شعوب الأرض وأكثرها تخلفاً وتفرقاً وجهلاً، فوحدهم الإسلام وجمعهم وارتقى بهم، وأقام لهم حضارة زاهرة على أنقاض الحضارة الجاهلية حتى أصبحوا قادة الدنيا وسادتها، وتحقق لهم وعد الله سبحانه: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[6].

بناء على ما سبق، يصبح وجود نظام حكم في الإسلام تحصيل حاصل، وبدونه يتحول إلى مجرد دين فردي لا علاقة له بالمجتمع والدولة والأنظمة الحاكمة لهما، الأمر الذي ينسف أحكاماً شرعية كثيرة ويلغي شمولية الإسلام وصلاحيته لمعالجة شؤون البشر في مختلف الأزمنة والأمكنة.

ثالثاً: ماهية نظام الحكم في الإسلام

إن المقصود بنظام الحكم هو مجموعة الأحكام والقواعد المنظمة لشؤون الحكم في الدولة، ونظام الحكم هو كغيره من الأنظمة التي يجب أن تدرس وتؤخذ من كتاب الله وسنة رسوله، يقول تعالى (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ)[7] وكذلك يقول تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)[8].

وقد ثبت بالأدلة القطعية -كما سبق ذكره - أن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم أقام دولة إسلامية، تم إطلاق مصطلح الخلافة عليها، جسدت نظام الحكم في الإسلام على مدار قرون طويلة. وقد أرشدنا ﷺ لضرورة المتابعة على نفس نظام الحكم الذي أقامه بقوله: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ). كذلك قول رَسُول اللَّه ﷺ: (كَانَت بَنُو إسرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبياءُ، كُلَّما هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبيٌّ، وَإنَّهُ لا نَبِيَّ بَعدي، وسَيَكُونُ بَعدي خُلَفَاءُ فَيَكثُرُونَ، قالوا: يَا رسول اللَّه، فَما تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: أَوفُوا بِبَيعَةِ الأَوَّلِ فالأَوَّلِ، ثُمَّ أَعطُوهُم حَقَّهُم، وَاسأَلُوا اللَّه الَّذِي لَكُم، فَإنَّ اللَّه سائِلُهم عمَّا استَرعاهُم)[9].

من هنا يتبين أن نظام الحكم في الإسلام هو نظام الخلافة، ويكون الإمام أو الخليفة على رأس هرم السلطة السياسية، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)[10] كما يقول (إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به)[11]. فنجد هنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الإمام، هو المسؤول العام عن الأمة، سواء من حيث رعايتها أو من حيث حمايتها، بالتالي فإنه يكون صاحب الصلاحية في كل ما يؤمن له القيام بهاتين الوظيفتين، لأنه المسؤول عنهما.

في السياق ذاته نجد أن نظام الخلافة يقوم على أساس وحدة الدولة ووحدة الأمة وعلى سيادة أحكام الشرع في الدولة وفي الأمة. حيث لا يجوز أن يكون للأمة أكثر من خليفة واحد يحكمهم في الزمان الواحد، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)[12] وقوله صلى الله عليه وسلم (من أتاكم وأمرُكُم جَمِيْعٌ على رجل واحد، يُريد أن يَشُقَّ عَصَاكُم، أو يُفَرِّقَ جَمَاَعَتَكُم، فاقتُلُوهُ)[13] وهذا يقتضي حتما وحدة الأمة، لأنه لا يجوز أن يكون رئيسا عاما عليها سوى خليفة واحد، كما يقول الله تعالى في محكم كتابه (إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)[14] . وأما سيادة الإسلام كنظام شامل للدولة والمجتمع واتخاذه مرجعاً يحتكم إليه الناس فقد دلت عليه الكثير من النصوص كقوله تعالى (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)[15] وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)[16].

خلاصة القول

باختصار، إن نظام الحكم في الإسلام هو النظام المتعارف عليه اصطلاحاً بنظام الخلافة، التي أسس الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم قواعدها ابتداء في المدينة المنورة، وجسدته الخلافة الراشدة على امتداد رقعة الدولة الإسلامية. وهو ا المرجع الشرعي الفصل في شكل نظام الحكم في الإسلام وقواعده ومقوماته. وهو الذي يجب اعتماده لتلبية تطلعات الأمة في إنجاز وحدتها وفي إبراز هويتها الخاصة بها وفي استعادة حقوقها المسلوبة منها، إضافة إلى تحقيق العدل المفقود من ربوعها، والتحرر من الظلم والقهر والاستبداد والفساد والاستئثار بالسلطة من قبل القائمين عليها، ناهيك عن الخلاص من تبعية الأنظمة الحاكمة في بلادنا للقوى الاستعمارية التي تتحكم في أدق تفاصيل حياتنا. 

[1] سورة النحل ٨٩

[2]  سورة طه الآيات ١٢٣-١٢٤

[3]  سورة النساء الآية ٦٥

[4]  سورة النساء الآية ٥٩

[5]  سورة طه الآيات ١٢٣-١٢٤

[6] سورة النور الآية 55

[7]  سورة النساء الآية ١٠٥

[8]  سورة الحشر الآية ٧

[9] متفقٌ عليه

[10]  أخرجه البخاري ومسلم (متفق عليه)

[11]  رواه مسلم

[12] رواه مسلم

[13]  رواه مسلم

[14]  سورة الأنبياء الآية ٩٢

[15]  سورة يوسف الآية ٤٠

[16]  سورة النساء الآية ٥٩

وسوم: العدد 818