إجازة العمل في لبنان والمكانة القانونية – السياسية للاجئين الفلسطينيين

فتحي كليب

(1/4)

لا يمكن مناقشة الأزمة التي إفتعلتها وزارة العمل اللبنانية بدءاً من منتصف شهر تموز (يوليو) 2019 بشأن العمال الفلسطينيين في لبنان، إلا في اطار الصراعات والإنقسامات السياسية والطائفية التي يعيشها لبنان منذ زمن، والتي ينتمي جزء كبير منها إلى مربع الصراعات الإقليمية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وما تتعرض له من محاولات أمريكية وإسرائيلية لتصفيتها..

وإن كانت المشكلة – الأزمة بين وزارة العمل واللاجئين الفلسطينيين في لبنان قد إنفجرت، شكليا، نتيجة إجراءات وزير أطلق خطة تحت عنوان «مكافحة العمالة الأجنبية غير الشرعية» وصفها كثيرون أنها إرتجالية، تفتقد للموضوعية، وتستهدف فئة بشرية بعينها، إلا أن جذور هذه الأزمة تعود إلى عقود مضت، وتتعلق بشكل مباشر بقصور القوانين اللبنانية عن التعاطي مع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وفق خصوصيتهم التاريخية والسياسية والقانونية باعتبارهم جزء من شعب هُجِّر عام 1948 من أرضه في سياق تاريخي معروف، حيث نال لبنان نصيبه من عملية التهجير هذه، أسوة بدول عربية أخرى إستضافت من إصطلح على تسميتهم باللاجئين الفلسطينيين، الذين يوحدهم النضال من أجل حق العودة إلى الديار والممتلكات:

أولاً- العمالة الفلسطينية في لبنان

(1)

واقع العمالة الفلسطينية في لبنان وخصوصيتها

■ تاريخيا، لعبت العمالة الفلسطينية في لبنان أدوارا هامة في بناء وتطوير الإقتصاد اللبناني. ولما كانت السمة العامة لهذه الفئة الإجتماعية هي الحرمان المتواصل من حقها في العمل بحرية، وإبعادها عن مجال عديد القطاعات الإقتصادية اللبنانية، فإن الإستنتاج العام هو أنها باتت تعيش حالة تناقض وصراع متعدد المستويات، فهي تنتج وتنفق في لبنان، ويفترض أن إنتاجها – وهو كذلك - يصب في تدعيم إقتصاده، لكنها لا تستفيد – بالمستوى الذي يعود إليها حقاً وعدلاً - من منافع العملية الإقتصادية في البلد، لانحكامها لبنية قانونية – سياسية مجحفة، سنأتي عليها في سياق البحث.

في معظم الأحوال، ساهم فلسطينيو لبنان في بناء عديد القطاعات الإقتصادية: المصرفية والخدماتية والإعلامية والصحفية والهندسية وفي حقلي الصناعة والنفط وغيرها، هذا دون أن ننسى قطاع الزراعة؛ ولمع في لبنان أسماء الكثير من الفلسطينيين الذين كان لهم شأن مهم في الإزدهار اللبناني.

من جانب آخر، يضخ التجمع الفلسطيني في لبنان، ومن مصادر خارجية متعددة، سيولة لا يُستهان بدورها في الإسهام بتنشيط الدورة الإقتصادية في البلد. في هذا الإطار نشير إلى ما تنفقه وكالة الغوث (الأونروا)، المعنية بتأمين الخدمات التعليمية والصحية والإغاثية للاجئين الفلسطينيين، من مبالغ لا يُستهان بها، سواء عبر رواتب موظفيها الذين يزيد عددهم عن ثلاثة آلاف موظف، أو من خلال الإنفاق على القطاعات المختلفة الصحية والتربوية والإجتماعية؛ ناهيك عن الأموال المحوّلة من الخارج التي تنفقها في لبنان المؤسسات الدولية ومؤسسات المجتمع المدني (أكثر من 60 مؤسسة)، وأموال مؤسسات منظمة التحرير والفصائل الأخرى في لبنان. (حوالي 15 ألف متلقي)، والتي تشكل جميعها رافداً مهماً إستفاد ويستفيد منه الإقتصاد اللبناني، مع عدم إغفال دور التحويلات التي ترسلها مجاميع الجاليات الفلسطينية في الخارج إلى أسرها في لبنان (راجع بهذا الخصوص الملحق بعنوان: «مصادر إنفاق الفلسطينيين في لبنان» في نهاية هذه الدراسة).

■ وبشكل عام، يمكن توزيع العمالة الفلسطينية في لبنان إلى ثلاث فئات:

1- فئة ميسورة قليلة العدد، وهذه الفئة حملت معها من فلسطين أموالها وخبرتها في مختلف المجالات والقطاعات الإقتصادية، وانخرطت في الإقتصاد اللبناني، بعضها لازال موجوداً، وبعضها الآخر هاجر لبنان نتيجة التضييق عليها؛

2- فئة متوسطة من أصحاب الخبرات المهنية والتعليمية، بعضها ترك لبنان باتجاه دول أخرى بحثا عن شروط عمل أفضل، بعد أن أُغلقت في وجهها فرص وإمكانات العمل؛ وبعضها الآخر بقي في لبنان يصارع الحياة من أجل تأمين معيشته ومعيشة أسرته؛

3- فئة ثالثة وهي الأكبر، تحوّلت إلى يد عاملة تكسب قوتها في سوق العمل. وهذه الفئة هي التي تتعرض بشكل دائم لتشدد القوانين وللإجراءات الوزارية التضييقية المختلفة، رغم إنتاجيتها العالية، وكلفتها الأقل من اليد العاملة اللبنانية؛

أما لجهة حجم وقوة العمالة الفلسطينية، فوفقا لنتائج التعداد السكاني الذي أنجزته لجنة الحوار اللبناني - الفلسطيني نهاية عام 2017، فإن حجم هذه العمالة ليس بالرقم الكبير الذي يجري تداوله من أطراف تنزع إلى تصخيمه عمداً، لتبرير سياسات التمييز والإقصاء والحرمان التي تُمارس بحق الفلسطينيين. وتتمركز قوة العمل الفلسطينية في مجالات عدة، منها ما يستدعي المهارة والخبرة ودرجة متقدمة من التأهيل، تُعظِم نسبة القيمة المضافة على مخرجات العمل المبذول؛ ومنها – أيضاً - المهن الصعبة والشاقة، التي لا يُقبل عليها اللبنانيون بشكل عام، وكانت المؤسسات اللبنانية المعنية تغض النظر عن التدقيق بأوضاع الأخيرة، بحكم حاجة السوق اللبناني إليها، وهي أعمال عادة ما تكون موسمية وتتدنى فيها الأجور، وتفتقد إلى الضمانات الصحية والإجتماعية■

(2)

مسار المعاناة

■ مَرَّ العمال الفلسطينيون في لبنان بمختلف قطاعاتهم الحرفية والمهنية بعدة مراحل تميّزت مرحلتها الأولى بالتعاطي الرسمي اللبناني غَلُبَ عليه الطابع الإنساني، حيث كان الإتجاه العام (المحلي والعربي والدولي) هو إغاثة اللاجئين وتوفير فرص عمل لهم. لكن ما هي إلا سنوات قليلة (بدءاً من منتصف خمسينيات ق.20) حتى بدأت السلطات اللبنانية بالتضييق على العمالة الفلسطينية، التي تمكنت من إيجاد فرص عمل لها في مشاريع خاصة في بعض المناطق اللبنانية. ومع بداية ستينيات ق.20 ستبدأ رحلة جدية من المعاناة عندما صدرت بعض المراسيم المتعلقة بتنظيم عمل الأجانب، مشترطة حصول الأجنبي على إجازة عمل، دون أي تمييز بين العمال الفلسطينيين وسائر الأجانب.

■ رغم التعديلين القانونيين (128 و 129) اللذين أقرهما البرلمان اللبناني عام 2010، فإن المراسيم السابقة، وقانوني العمل والضمان الإجتماعي يتعاطون مع الأجانب (ومنهم الفلسطينيون، إستنسابيا) الراغبين في العمل في لبنان وفقا لقاعدتين: الأولى هي المعاملة بالمثل، والثانية الحصول المسبق على إجازة عمل.. هاتان القاعدتان تشكلان عائقا كبيرا – لا بل معضلة - أمام عمل الأجراء الفلسطينيين في لبنان بشكل عام، وأمام أصحاب المهن الحرة بشكل خاص، وحل هاتين المعضلتين يشكل الأساس في أي معالجة قانونية مستقبلية لواقع العمالة الفلسطينية في لبنان:

1- مبدأ المعاملة بالمثل: تنص المادة 59 من قانون العمل اللبناني على التالي: «يتمتع الأجراء الأجانب عند صرفهم من الخدمة بالحقوق التي يتمتع بها العمال اللبنانيون، شرط المعاملة بالمثل والحصول على إجازة عمل». وقد تم إضافة التعديل التالي (على يد القانون رقم 129) من قبل البرلمان اللبناني عام 2010: «يُستثنى حصرا الأجراء الفلسطينيين اللاجئين المسجلين وفقا للأصول في سجلات وزارة الداخلية والبلديات - مديرية الشؤون السياسية واللاجئين - من شرط المعاملة بالمثل، ومن رسم إجازة العمل الصادر عن وزارة العمل». لكن رغم كل ذلك، فقد ظل هذا النص حبراً على ورق نتيجة رفض الوزراء المتعاقبين على وزارة العمل، إصدار المراسيم التطبيقية ليبقى واقع الإجحاف بالحقوق على حاله، وكأن التعديل القانوني لم يكن.

2- إشتراط الحصول على إجازة العمل: وفقا للنصوص القانونية الحالية، يخضع  العامل الفلسطيني لـ«شرط» الحصول على إجازة العمل قبل ممارسته أي مهنة، وإلغاء هذا الشرط يعتبر المفصل الرئيسي في تحسين شروط عمل الفلسطينيين. وقد أصر النواب في تعديل عام 2010 على إبقاء إجازة العمل مع الإعفاء من رسومها، ما يعني إبقاء واقع التمييز على حاله.. والعدد القليل لإجازات العمل الممنوحة للعمال الفلسطينيين خلال السنوات الأخيرة تظهر أنه في الغالب لا يتقدم الفلسطينيون أو أرباب عملهم بطلب الإجازة لهم، وذلك لاعتبارات عملية. فإذا كان البعض يمارس العمل بالأمر الواقع دون إجازة عمل وبموافقة رب العمل، فإن العامل الفلسطيني لا يجد مصلحة بتحصيل إجازة العمل، لأنها تشكل عبء مالي إضافي لا تقابله مكاسب تذكر. إضافة إلى أن أرباب العمل لا يرغبون بها، لأنها تلزمهم بدفع رسوم الضمان الإجتماعي الذي لا ينال الفلسطيني من تقديماته شيئا، إلا بما له علاقة بتعويضات نهاية الخدمة■

 

 

 

(3)

المهن الحرة

■ أما بالنسبة لأصحاب المهن الحرة الفلسطينيين من حملة الشهادات الجامعية، فقد جاءت مجموعة من القوانين اللبنانية لتخرجهم من دائرة الحماية القانونية بعد تعريفهم بالتفسيرات الإستنسابية كأجانب، والأجنبي وفقا للقوانين اللبنانية هو« كل شخص حقيقي أو معنوي من غير التابعية اللبنانية». فيما يشير مرسوم آخر إلى أن «كل أجنبي يرغب الدخول إلى لبنان لتعاطي مهنة أو عمل، بأجر أو بدون أجر، عليه أن يحصل مسبقا على موافقة وزارة العمل والشؤون الإجتماعية قبل مجيئه إليه». وجاءت الممارسات التطبيقية لمرسوم تنظيم عمل الأجانب وتفسيراته من قبل الوزارات المعنية لتضع تعقيدات جديدة لا تميّز ما بين الأجنبي القادم إلى لبنان وبين الفلسطيني المقيم فيه، بل إن الإستنساب في تطبيق القانون قاد عمليا إلى إقفال باب سوق العمل اللبنانية أمام العمالة الفلسطينية بمختلف أنواعها، ومهاراتها.

لذلك، فإذا كان عمل الأجراء الفلسطينيين مرهونا بتحقيق بعض الشروط كإجازة العمل وغيرها، فإن المنع بالنسبة لأصحاب المهن الحرة كالأطباء والمهندسين والمحاسبين، الخ.. جاء بشكل مطلق، وذلك إستنادا لما ورد في قانون العمل الصادر في 23 أيلول (سبتمبر) 1946، خاصة في بند النقابات وحق الإنتساب اليها، إذ إشترط نصاً، في المادة 91 على من يريد الإنتساب إلى أي نقابة، «1- أن يكون من الجنسية اللبنانية ومتمتعا بحقوقه المدنية وأن يمارس المهنة وقت الطلب»؛ فيما أجازت المادة 92 من نفس القانون للأجانب «أن ينتسبوا إلى النقابة إذا توفرت فيهم بعض الشروط وكان مصرحا لهم بالعمل في لبنان(..) على أنه لا يجوز للأعضاء الأجانب أن يَنتخبوا أو يُنتخبوا وإنما يحق لهم أن ينتدبوا أحدهم لكي يمثلهم ويدافع عنهم لدى مجلس النقابة».

■ إنسجاما مع ما ورد في قانون العمل، جاءت نصوص الأنظمة الداخلية لجميع النقابات المهنية لتمنع الفلسطينيين من حق ممارسة جميع المهن الحرة تقريبا، بل أن القاسم المشترك بين جميع الأنظمة الداخلية لهذه النقابات هو إشتراطها لمن يريد ممارسة مهنة في لبنان أن يكون لبنانيا منذ أكثر من عشرة أعوام، أو أن تلتزم دولة طالب ممارسة المهنة بمبدأ المعاملة بالمثل. واعتادت وزارة العمل أن تعاقب الذي يستخدم أجنبيا بعقد عمل بدون موافقة مسبقة أو إجازة عمل بغرامة مالية مرهقة، الأمر الذي دفع بالعدد الأكبر من المؤسسات المهنية وأصحاب العمل اللبنانيين إلى العزوف عن تشغيل الفلسطينيين لديهم، فيما لجأ آخرون إلى تشغيل فلسطينيين دون تصريح، ما أبعد عنهم الحماية القانونية واستبعاد جميع الحقوق المتوجبة على صاحب العمل.

مسألة الإستحصال على إجازة العمل تعتبر القضية المحورية في كل ما له علاقة ليس فقط بحق العمل، بل وبحق الإنتساب إلى النقابات. واستنادا إلى قانون العمل، فإن للوزارة الحق في إعطاء التراخيص أو منعها وفقاً للمادتين 86 و87 من قانون العمل، ما يعني أن الفلسطيني بالتفسير الواقعي، لا يحق له لا إنشاء نقابة، ولا حتى الإنتساب إلى النقابات الموجودة لعدم تمتعه بأكثر من شرط، منها شرط الجنسية، وشرط المعاملة بالمثل، وشرط الحصول على إجازة العمل.

■ ورغم رأي البعض أن مسألة عمل أصحاب المهن الحرة الفلسطيني قضية تتعلق فقط بالنقابات المهنية وتخرج عن صلاحيات البرلمان اللبناني، إلا أن التعاطي القانوني يشير إلى عكس ذلك؛ فهذه النقابات، خاصة تلك المنظمة بقوانين، تعمل وفق قوانين تنظم عملها، ومن أعطاها الحق بالإشراف على هذا التنظيم هو المُشرِّع، أي البرلمان الذي يبقى له الحق في إقتراح أي تعديل يراه مناسبا باعتباره مجلسا للتشريع في كل ما له علاقة بالإقليم المخوَّل بسن قوانينه ضمن حدوده.

صحيح أن هذه النقابات المهنية لا تخضع لأحكام قانون العمل أو لغيره من القوانين، بل لقوانينها وأنظمتها الخاصة، سواء لجهة تحديد شروط الإنتساب الذي يعتبر النقطة الأساسية في تحديد من له حق مزاولة المهنة فوق الأراضي اللبنانية، أو لجهة وضع أنظمتها الداخلية، إلا أن البرلمان صاحب الحق في إنشائها يبقى له صلاحية التعديل على أي من قوانين تنظيمها، سواء بمفرده، أو بالتشاور والتعاون مع مجالسها المنتخبة■

(4)

المهن المحظورة على الفلسطيني

■ تتوزع المهن المحظورة على الفلسطيني ممارستها على نحو 36 مهنة، هي: الطب العام، طب الأسنان، الطب البيطري، العلاج الفيزيائي، صنع وبيع النظارات، فتح واستثمار دور الحضانة، الصيدلة، التمريض، القبالة، إدارة المختبرات الطبية، ملكية المختبر الطبي، فني مخبري مجاز، خاتن، تحضير وتركيب الأطراف الإصطناعية والأجهزة التقويمية، إدارة مركز نقل الدم، معالج إنشغالي، مراقب صحي مجاز، عامل صحي، مجاز في علم التغذية، ملكية المستشفيات الخاصة، المحاماة، الهندسة، الهندسة الزراعية، الطوبوغرافيا، الملاحة الساحلية، بيع التبغ بالجملة، خبير محاسبة، صاحب أو مندوب مكتب إستقدام عاملات الخدمة المنزلية، دليل سياحي، صاحب لوحة سيارة عمومية، تعليم قيادة المركبات، تعقيب المعاملات لدى مصلحة تسجيل السيارات، رخصة قيادة عمومية، العمل ضمن القطاع العام بكافة أسلاكه، والمؤسسات العامة..

■ تتوزع المهن السابقة على شكلين من التنظيم، فجميعها منظمة بقانون، لكن عدد منها غير مرتبط بنقابة، وبعض النقابات جعل من الإنتساب إليها شرطا لممارسة المهنة، وقد خصص المشرع اللبناني 4 مهن حصر حق ممارستها باللبناني دون غيره، وهي مهن: المحاماة، الطب البيطري، القبالة، ومهنة التمريض قبل ان يطرأ تغيير في موقف النقابة من الأخيرة، لجهة الطلب من الوزارات المعنية السماح للممرضين الفلسطينيين بالعمل نظرا لحاجة السوق اللبناني إليهم. أما بالنسبة للنقابات التي تسمح للاجيء بممارسة المهنة فهناك شرطان يعتبران تعجيزيان بالنسبة للفلسطيني، ويقفان حائلاً أمام إمكانية الإنتساب إلى النقابات المهنية، وتاليا ممارسة المهنة وهما: المعاملة بالمثل، وأن يكون طالب المهنة مسموح له بممارستها في بلده؛ وهما الشرطان اللذان أشار إليهما قانون العمل، وتبيَّن بالتجربة وبالتفسيرات الإستنسابية إستحالة تطبيقهما على الحالة الفلسطينية.

■ ما العمل وكيف يمكن تجاوز هاتين المعضلتين لفتح الطريق أمام المهنيين الفلسطينيين، أو أقله البعض منهم، لممارسة المهنة دون أية ملاحقات قانونية؟

يجيب المحامي كريم نمّور من «منظمة المفكرة القانونية»، على هذا السؤال بقوله: «إن الجدل حول ما إذا كان الفلسطينيون رعايا دولة عربية أو عديمي الجنسية أمر محسوم لمصلحة الخيار الثاني. وإن الفلسطينيين، بالمعطى القانوني، هم عديمو جنسية أو أنهم على الأقل رعايا دولة غير مكتملة العناصر». وإن الخرق يمكن أن يكون على الصعيد القضائي، فالمادة 7 من إتفاقية 1954 بشأن وضع الأشخاص عديمي الجنسية تنص في الفقرة 2 منها على: «يتمتع جميع عديمي الجنسية، بعد مرور 3 سنوات على إقامتهم، بالإعفاء، على أرض الدول المتعاقدة، من شرط المعاملة بالمثل.. صحيح أن لبنان لم يوقع الإتفاقية، لكن لها مكانة معنوية ويحق للقاضي اللبناني الإسترشاد بها..».

«أما بالنسبة إلى القانون الوضعي اللبناني.. فإن مجالس العمل التحكيمية قد طوّرت إجتهادها لجهة إلغاء شرط المعاملة بالمثل، لعدم إمكان إخضاع إجير لشرط مستحيل، والشرط المستحيل هو شرط باطل. كذلك هناك إستقرار في رأي هيئة التشريع والإستشارات في وزارة العدل منذ الخمسينيات بشأن أن المعاملة بالمثل لا تنطبق على اللاجئين الفلسطينيين»

*****************

إجازة العمل في لبنان والمكانة القانونية – السياسية للاجئين الفلسطينيين (2/4)

لا يمكن مناقشة الأزمة التي إفتعلتها وزارة العمل اللبنانية بدءاً من منتصف شهر تموز (يوليو) 2019 بشأن العمال الفلسطينيين في لبنان، إلا في اطار الصراعات والإنقسامات السياسية والطائفية التي يعيشها لبنان منذ زمن، والتي ينتمي جزء كبير منها إلى مربع الصراعات الإقليمية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وما تتعرض له من محاولات أمريكية وإسرائيلية لتصفيتها..

وإن كانت المشكلة – الأزمة بين وزارة العمل واللاجئين الفلسطينيين في لبنان قد إنفجرت، شكليا، نتيجة إجراءات وزير أطلق خطة تحت عنوان «مكافحة العمالة الأجنبية غير الشرعية» وصفها كثيرون أنها إرتجالية، تفتقد للموضوعية، وتستهدف فئة بشرية بعينها، إلا أن جذور هذه الأزمة تعود إلى عقود مضت، وتتعلق بشكل مباشر بقصور القوانين اللبنانية عن التعاطي مع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وفق خصوصيتهم التاريخية والسياسية والقانونية باعتبارهم جزء من شعب هُجِّر عام 1948 من أرضه في سياق تاريخي معروف:

ثانياً- العمالة الفلسطينية ومنظومة القوانين اللبنانية

 (1)

غياب التشريعات الداخلية وقصور بعضها

■ بإلقاء نظرة سريعة على القوانين اللبنانية، يتضح أنه ليس هناك من قانون واحد يتعاطى مع اللاجئين الفلسطينيين إنطلاقاً مما يميّزهم عن بقية المقيمين في لبنان من غير المواطنين اللبنانين. وباستثناء ما أصدرته المؤسسات اللبنانية من قوانين تُعنى بإنشاء هيئات ومديريات تتابع أوضاع اللاجئين الفلسطينيين القادمين إلى لبنان في تهجير جماعي عام 1948 وبعده، فلا يمكن القول إن هناك قوانين تتعاطى مع هذه الجموع كفئة خاصة لها وضعيتها التاريخية والقانونية، بل تميَّز لبنان عن غيره من الدول العربية المضيفة للاجئين، بأن ليس لديه تعريف خاص للاجيء الفلسطيني، وعلى هذه المعضلة تتأسس الممارسات الإقصائية والتمييزية ضد اللاجئين الفلسطينيين..

فمنذ عام 1948 وحتى اليوم، لم يُلمس أن المؤسسات الرسمية اللبنانية أعطت موضوع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان الأهمية الذي يستحق لجهة تنظيم أوضاعهم القانونية. وكل ما حصل كان عبارة عن مرسوم هنا، وإجراء هناك، هدفت جميعها إلى تطوير أسلوب الإمساك بالأعداد الكبيرة من اللاجئين. ولهذه الغاية صدر بداية المرسوم رقم 11657 بتاريخ 26/4/1948 الذي إنحصرت أهدافه بتشكيل لجان مركزية وإقليمية يناط بها الإهتمام بجميع شؤون القادمين من فلسطين إلى لبنان، لجهة إحصائهم وتأمين إيوائهم وإعاشتهم والعناية بأحوالهم الصحية.

■ بتاريخ 31/3/1959 صدر المرسوم رقم 42 الذي أنشأ «إدارة شؤون اللاجئين الفلسطينيين» في إطار وزارة الداخلية والبلديات، وهي إدارة وظيفتها الإهتمام باللاجئين الفلسطينيين لجهة عمليات القيد والإحصاء ومنح بطاقات التعريف وغير ذلك من أمور.. وفي التاريخ نفسه صدر المرسوم رقم 927 الذي حدد مهام هذه الإدارة حاصراً إياها بالقضايا التالية: إعانة اللاجئين الفلسطينيين وإيوائهم والعناية بشؤونهم الصحية والإجتماعية بالتنسيق مع الأونروا، وتنظيم طلبات الحصول على جوازات سفر وقضايا تنظيمية أخرى..

أما حديثا، فقد صدر المرسوم رقم 4082 تاريخ 4/10/2000 المتعلق بتنظيم وزارة الداخلية والبلديات والذي تعدلت بموجبه تسمية «إدارة شؤون اللاجئين» لتصبح «مديرية الشؤون السياسية واللاجئين»، ومصطلح اللاجئين لا يقتصر على اللاجئين الفلسطينيين، بل يشمل جميع حالات اللجوء في لبنان، مما وضع قضية اللاجئين الفلسطينيين، بنظر التشريع اللبناني، على سوية قضايا اللجوء واللاجئين الأخرى.

■ في العام 2005 أصدر مجلس الوزراء القرار رقم 89/2005 الذي أنشأ لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني، وهي لجنة تعمل بمرجعية رئيس الحكومة ومهمتها التنسيق بين الوزارات المختلفة، خاصة تلك التي تقع على تماس مباشر مع موضوع الفلسطينيين المقيمين في لبنان، وهي تهدف إلى تحسين ظروف حياة اللاجئين الفلسطينيين وتأمين حياة كريمة لهم. غير أن صلاحيات وقرارات هذه اللجنة تبقى قرارات إستشارية وليست ملزمة، وتتشكل من مندوبين عن الوزارات التالية: العمل، الداخلية، الشؤون الإجتماعية، الدفاع الوطني، الخارجية، العدل، الصحة، الطاقة، والمياه.

لذلك، فإن وجود جميع اللاجئين الفلسطينيين على الأراضي اللبنانية هو وجود قانوني ومُشَرَّع بموجب بطاقة صادرة عن «مديرية الشؤون السياسية واللاجئين»، وهي تتشابه من حيث التعريف والتسجيل مع بطاقة المواطنين اللبنانيين، غير أنها تختلف عن بطاقات الإقامة الممنوحة للأجانب لكونها بطاقة دائمة تمنح للاجيء تلقائيا بمجرد ولادته من أب لاجيء مقيم في لبنان.. وبهذا المعنى فإن قيود اللاجئين الفلسطينيين هي مسألة منظمة من قبل المؤسسات اللبنانية، رغم أن هناك أكثر من حالة فلسطينية تقيم في لبنان، ولكل منها وضع قانوني مختلف عن الأخرى.

■ يلاحظ من خلال التشريعات السابقة أن جميعها لا تتطرق إلى تنظيم الأوضاع القانونية للاجئين، كما لا تتطرق إلى أوضاعهم الإقتصادية والإجتماعية، وأن جميع ما صدر كان عبارة عن مراسيم وليس قوانين، وثمة فارق بين الإثنين: فالقانون يصدر عن البرلمان الممثل لكل الشعب ويحدد المباديء العامة لكيفية تعاطي مؤسسات الدولة مع قضية أو قضايا ما؛ أما المرسوم فهو يصدر عن رئيس السلطة التنفيذية، رئيس جمهورية أو حكومة، ويتعلق بمسائل تنظيمية فحسب، ليس بالضرورة أن تتسم بصفة الشمولية، بل هي تتعلق بقضية أو قضايا مباشرة كالتعيينات مثلاً، أو تشكيل هيئات ولجان وغير ذلك.

وليس صدفة أن لبنان الرسمي لم يتعاطَ مع الوجود الفلسطيني في لبنان إستنادا إلى قوانين تحدد حقوق وواجبات هذا التجمع البشري تجاه الدولة ومؤسساتها، وتحدد أيضا واجبات الدولة تجاه فئة كبيرة تقيم على أرضها.. بل إن كان اللاجئون الفلسطينيون ملتزمون باحترام قوانين الدولة ومؤسساتها، خاصة تلك التي تتصف بالشمولية، كقوانين السير مثلاً والقوانين العامة، التي تحفظ المجتمع وتطبق عليهم جميع القوانين كقوانين الضرائب مثلاً، والعقوبات، وغير ذلك من قوانين تسري عادة على كل من يقيم فوق الأرض اللبنانية، والتي تمارسها الدولة عادة إنطلاقا من صلاحياتها السيادية. وفي هذا الإطار نلاحظ أن كثيراً من القوانين، نظراً لغياب القوانين الخاصة باللاجئين، فإنها تطبق بالتفسير الإستنسابي السلبي، ما يجعل حقوق الفلسطيني عُرضة للإنتهاك الدائم، وهذا ما يطلق عليه الفلسطيني عادة ظلم وتشدد القوانين اللبنانية حياله، رغم أن فلسفة القانون تقول أن القاضي حين تعرض عليه قضية لا قانون تفسيري لها، يؤخذ بالتفسير الإيجابي للقانون ولصالح المواطن، وليس العكس. وهذا ما لم يحصل بالنسبة للاجيء الفلسطيني■

(2)

الواقع القانوني لعمل الفلسطينيين في لبنان

■ صرَّحت وزارة العمل اللبنانية في أكثر من مناسبة أن الإجراءات التي تطبقها الوزارة ليست موجهة ضد الفلسطينيين، وهي إجراءات لا تستثني أي جنسية، بل أن الوزارة والوزير يطبقون القانون لا أكثر ولا أقل. وقد تكرر مثل هذا الكلام أكثر من مرة، فيما إعتبرت قوى سياسية لبنانية والبعض من وسائل الأعلام، بأن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان في تحركاتهم الشعبية الرافضة لإجراءات وزارة العمل، إنما يرفضون تطبيق القانون اللبناني. فعن أية قوانين يتحدث وزير ووزارة العمل وبعض هذه القوى، وما هي نصوصها؟

الإجابة تتضح من خلال ما يلي: رغم أنه ليس هناك من قوانين تتعلق باللاجئين الفلسطينيين حصراً، كما سبقت الإشارة، إلا أن هناك الكثير من القوانين، وبالتفسيرات الإستنسابية، تنطلق في تعاطيها مع اللاجئين الفلسطينيين المقيمين باعتبارهم أجانب.. ومن هذه القوانين:

1- قانون تنظيم الدخول إلى لبنان والإقامة فيه والخروج منه، وتعديلاته، الصادر في 10 تموز(يوليو) 1962، الذي يقول في مادته الأولى: «يعتبر أجنبيا كل شخص حقيقي من غير التابعية اللبنانية»؛ كما تحظر المادة 25 منه على «الأجنبي غير الفنان أن يتعاطى عملاً أو مهنة في لبنان ما لم يكن مرخصا له بذلك من وزارة العمل وفقا للقوانين والأنظمة النافذة».

2- مرسوم تنظيم عمل الأجانب رقم 17561 الصادر في 18 أيلول(سبتمبر) 1964 وتعديلاته، الذي نص في مادته الثانية: «على كل أجنبي يرغب في الدخول إلى لبنان لتعاطي مهنة أو عمل، بأجر أو بدون أجر، أن يحصل مسبقا على موافقة وزارة العمل قبل مجيئه إليه».

3- قانون العمل اللبناني في 23/9/1964 وتعديلاته المختلفة، ينص في مادته رقم 59 على أن «يتمتع الأجراء الأجانب عند صرفهم من الخدمة بالحقوق التي يتمتع بها العمال اللبنانيون شرط المعاملة بالمثل ويترتب عليهم الحصول من وزارة العمل على إجازة عمل».

4- قانون الضمان الإجتماعي بتاريخ 14 أيار(مايو) 1969، ينص على أن «لا يستفيد الأجراء الأجانب الذين يعملون على أراضي الجمهورية اللبنانية من أحكام هذا القانون في بعض أو جميع فروع الضمان الإجتماعي إلا بشرط أن تكون الدولة التي ينتسبون إليها تقر للبنانيين مبدأ المساواة في المعاملة مع رعاياها فيما يتعلق بالضمان الإجتماعي. على الأجراء الأجانب أن يكونوا حائزين مبدئيا على رخصة عمل ليخضعوا لأحكام هذا القانون».

■ من خلال التدقيق في مصطلح «أجنبي» كما هو وارد بأكثر من مكان في النصوص القانونية الوارد ذكرها، يتأكد، بلا أدنى عناء، أن هذا المصطلح لا ينطبق على اللاجيء الفلسطيني، ولم يكن قصد المشرِّع اللبناني تطبيقه على الفلسطيني بدليل قانون تنظيم دخول الأجانب الذي يكثر من مصطلحات: الدخول إلى لبنان، مراكز الأمن العام، وثائق السفر، سمة المرور، الإقامة، وغير ذلك من مصطلحات لا يمكن تطبيقها إلا على أشخاص يقيمون خارج لبنان ويودون الدخول إليه بقصد العمل أو السياحة أو لأسباب سياسية ودبلوماسية؛ ولو كانت نية المشترع غير ذلك لأشار صراحة إلى الفلسطينيين، كما فعلت التعديلات القانونية عام 2010 بذكر الفلسطيني صراحة في النص.

■ ونظراً لقصور هذه النصوص القانونية وصعوبة تطبيقها على العمال الفلسطينيين بشكل خاص، وعلى اللاجئين بشكل عام، إضافة إلى تلمس تيارات وقطاعات سياسية وشعبية واسعة من الشعب اللبناني حجم المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون في لبنان، فقد بادرت بعض الكتل النيابية في العام 2010 إلى اقتراح تعديلات قانونية لتصحيح هذا الواقع القانوني الذي أثبت قصوره المجحف في التعاطي مع اللاجئين الفلسطينيين وأوضاعهم القانونية والإقتصادية والإجتماعية، وبات هذا الواقع سببا مباشراً لممارسة أشكال من القهر والتمييز ضد جماعة بشرية مشكلتها أن ليس هناك من نصوص واضحة تحمي حقوقها في دولة يقيمون على أرضها إقامة دائمة بشكل قانوني.

■ قد يكون هذا الواقع المرير وغيره من أسباب قانونية وسياسية، محلية وخارجية دفعت بعض القوى لاقتراح التعديلات على القوانين الموجودة، فعقد مجلس النواب جلسة بهيئته العامة بتاريخ 15/6/2010 لمناقشة أربعة مشاريع قوانين تقدمت بها كتلة اللقاء الديمقراطي حول «حق العمل والتملك وإلغاء مبدأ المعاملة بالمثل واستفادة العمال الفلسطينيين من تقديمات صندوق الضمان الإجتماعي»، إضافة إلى مشروع قانون من كتلة الحزب السوري القومي الإجتماعي لإقرار الحقوق الإنسانية كسلة متكاملة في قانون واحد (راجع مشاريع القوانين المقدمة في الملحقين II و III في نهاية هذا الفصل).

وقد شكلت تلك الجلسة مرآة لنظرة المجتمع اللبناني، في ظل الإنقسامات السياسية والإصطفافات الطائفية التي يعيشها، إلى الفلسطينيين وإلى حقوقهم الإنسانية، وترجمة هذه النظرة بـ «هواجس» تشكل اللبنة الرئيسية لكل الحملات التي توصف من قبل الفلسطينيين بأنها حملات تحريض مقصودة، سرعان ما تتحول إلى مادة سجالية في مختلف الأوساط المحلية اللبنانية والفلسطينية، وسرعان ما تنتقل إلى الشارع لتأخذ أبعاداً أكثر خطورة، سواء في فهم بعض اللبنانيين ونظرتهم إلى الملف الفلسطيني في لبنان، أو في التعاطي اليومي بين اللبنانيين والفلسطينيين■

 

 

 

 

(3)

نتائج أعمال لجنة الإدارة والعدل النيابية

■ على مدى إجتماعات ماراثونية إمتدت لسنة، ناقشت لجنة الإدارة والعدل النيابية مشاريع القانونين 128 و129، أضافت وحذفت وعَدَّلت، إلى أن أقرت تعديلات قانونية بصيغتها المعروفة. وبغض النظر عما أثارته تلك التعديلات من ردود فعل وتعليقات ومواقف متباينة، على نسق الخارطة السياسية اللبنانية، بتضاريسها المعروفة، سياسياً، وطائفياً، فإن لجنة الإدارة والعدل والمجلس النيابي، لم يستطيعا تجاهل واجبات لبنان نحو اللاجئين الفلسطينيين، فأقرت الجلسة العامة للبرلمان اللبناني التالي:

1- تأجيل مشروع القانون المتعلق باكتساب الفلسطينيين الحقوق العينية العقارية بذريعة أن منح الفلسطينيين حق التملك يتناقض مع مقدمة الدستور لناحية رفض التوطين على ما جاء على لسان أكثر من نائب لبناني، خاصة المسيحيين منهم، وكأن التوطين أمر يتعلق فيما إذا تملك اللاجيء الفلسطيني شقة السكن أم لا (!).

2- أما بشأن تعديل المادة 9 من قانون الضمان الإجتماعي فقد رفض النواب المشاركون في لجنة الإدارة والعدل الإقتراح المقدم باستفادة العمال الفلسطينيين من تقديمات الصندوق، وجاء نص التعديل على الشكل التالي: «تعدَّل الفقرة الثالثة من المادة التاسعة من قانون الضمان الإجتماعي، بحيث تصبح كما يلي: «يخضع اللاجيء الفلسطيني العامل المقيم في لبنان والمسجل في مديرية الشؤون السياسية واللاجئين - وزارة الداخلية والبلديات – إلى أحكام قانون العمل دون سواه لجهة تعويض نهاية الخدمة وطواريء العمل» و«لا يستفيد المشمول بأحكام هذا القانون من تقديمات صندوق ضمان المرض والأمومة والتقديمات العائلية»، أي أن الجديد هو إضافة تعبير العامل الفلسطيني، ولكن، (الفلسطيني) لن يُسجَّل في صندوق الضمان، بل يُفرد له حساب خاص، ولن يستفيد من تعويضاته إلا من خلال ما يساهم به هو ورب العمل عبر صندوق تعويضات نهاية الخدمة.

3- وفيما يتعلق بالمادة 59 من قانون العمل، فقد أصبحت على الشكل الآتي: «يتمتع الأجراء الأجانب عند صرفهم من الخدمة بالحقوق التي يتمتع بها العمال اللبنانيون شرط المعاملة بالمثل، ويترتب عليهم الحصول من وزارة العمل على إجازة عمل. يُستثنى حصراً الأجراء الفلسطينيون اللاجئون المسجلون وفقا للأصول في سجلات وزارة الداخلية والبلديات - مديرية الشؤون السياسية واللاجئين - من شروط المعاملة بالمثل، ومن رسم إجازة العمل الصادرة عن وزارة العمل».

■ وهكذا تكون لجنة الإدارة والعدل النيابية قد أقرت التالي:

1- إلغاء مبدأ المعاملة بالمثل بما خص حق العمل للأجراء.

2- الإبقاء على إجازة العمل، وإلغاء الرسوم التي كانت مفروضة على العامل الفلسطيني.

3- إبقاء العامل الفلسطيني خاضعا كليا لقانون العمل، وإعفاء صندوق الضمان الإجتماعي من أية تقديمات تجاه العمال الفلسطينيين وإحالة الأمر إلى وكالة الغوث باعتبارها المسؤولة عن رعاية اللاجئين الفلسطينيين في شتَّى المجالات الطبية والصحية والتربوية والتقديمات الإجتماعية.

4- تبقى أحكام قانون العمل سارية المفعول تجاه الفلسطيني بالنسبة لتعويض نهاية الخدمة الذي يبقى على مسؤولية العامل اللاجيء ورب العمل■

(4)

تعديلات البرلمان اللبناني

■ إنطلاقا من ذلك، فإن ما خَلُصَ اليه البرلمان اللبناني يبقى منقوصا في كثير من الأمور، ولم يصل المجلس في مقرراته إلى الحد الأدنى من الحقوق التي كان اللاجئون الفلسطينيون وغيرهم يطالبون الدولة اللبنانية بإقرارها. وما عبَّر عنه اللاجئون في حينه من تحفظ ورفض لما جاء في التعديلات القانونية أتت الأيام لتثبت صحته، وليتأكد أن تلك التعديلات، رغم نواقصها، إلا أنها وضعت كي لا تنفذ، بدليل وجودها في أدراج وزارة العمل منذ إقرارها عام 2010 وحتى اليوم دون أن توضع لها المراسيم التنظيمية، وأيضا دون أن تكلف الكتل النيابية التي صادقت عليها نفسها عناء السؤال أين أصبحت هذه التعديلات.

■ وكخلاصة، فإن تعديلات البرلمان اللبناني، وإن كانت تشكل خطوة محدودة جداً، إلا أنها بقيت ناقصة وجزئية، بعد أن إختصرت الحقوق الإنسانية بحق العمل فقط وبشكل مجزوء أيضا، وهي تعديلات لم تستجب إلى الحد الأدنى من الحقوق التي كان يطالب بها اللاجئون الفلسطينيون في لبنان. ومن بينها حق تملك شقة للسكن، وإلغاء إجازة العمل، والحق في ممارسة المهن الحرة (كالطب، والمحاماة، والصيدلة، والهندسة، وغيرها)، وحق العامل في الإفادة من صندوق الضمان الإجتماعي بجميع فروعه، دون أن يمس ذلك حقه في الإفادة من خدمات الأونروا، أو أن يؤثر على وضعه القانوني كلاجيء، أو أن يفسر على أنه شكل من أشكال التوطين، أو تمهيداً له.

***************************************

إجازة العمل في لبنان والمكانة القانونية – السياسية للاجئين الفلسطينيين (4/4)

لا يمكن مناقشة الأزمة التي إفتعلتها وزارة العمل اللبنانية بدءاً من منتصف شهر تموز (يوليو) 2019 بشأن العمال الفلسطينيين في لبنان، إلا في اطار الصراعات والإنقسامات السياسية والطائفية التي يعيشها لبنان منذ زمن، والتي ينتمي جزء كبير منها إلى مربع الصراعات الإقليمية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وما تتعرض له من محاولات أمريكية وإسرائيلية لتصفيتها..

وإن كانت المشكلة – الأزمة بين وزارة العمل واللاجئين الفلسطينيين في لبنان قد إنفجرت، شكليا، نتيجة إجراءات وزير أطلق خطة تحت عنوان «مكافحة العمالة الأجنبية غير الشرعية» وصفها كثيرون أنها إرتجالية، تفتقد للموضوعية، وتستهدف فئة بشرية بعينها، إلا أن جذور هذه الأزمة تعود إلى عقود مضت، وتتعلق بشكل مباشر بقصور القوانين اللبنانية عن التعاطي مع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وفق خصوصيتهم التاريخية والسياسية والقانونية باعتبارهم جزء من شعب هُجِّر عام 1948 من أرضه في سياق تاريخي معروف:

رابعاً- الحركة الجماهيرية بمدلولاتها

(1)

الحركة الجماهيرية واستعادة الدور

■ رغم بدء التطبيقات الميدانية لصفقة ترامب – نتنياهو، خاصة فيما يتعلق بقضية اللاجئين، بجميع عناوينها، ورغم تقدم عمليات التطبيع التي ترافقت مع حملة منظمة تروج لثقافة جديدة تحت شعار نجاح السياسة الأمريكية في تحقيق العديد من الإختراقات لصالح المشروع الصهيوني.. جاءت إنتفاضة اللاجئين في مخيمات لبنان لتقدم مشهداً يستحق التوقف عنده لتحليل أسبابه ورصد أبعاده.

فإن كانت إجراءات وزارة العمل بشأن ملاحقة العمال الفلسطينيين قد مثَّلت الشرارة لخروج الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني إلى الميدان، مدافعين عن حقهم بالحياة والعيش الكريم، إلا أن مجموعة من الأسباب السياسية والإقتصادية والأمنية والقانونية الراهنة والتاريخية تلاقت فيما بينها لتوصل الفلسطيني في لبنان إلى أوضاع غاية في السوء على جميع المستويات، بحيث باتت التحركات الشعبية خياراً وحيداً لإنجاز شروط التقدم نحو تغيير الواقع القائم:

1- وُضِعَت المخيمات بين ضغط أوضاع أمنية منفلتة في بعض المخيمات تكرس واقعها نتيجة مسار سياسي طويل يعود إلى ما قبل العام 1990 فرضته أحداث محلية وإقليمية ودولية، وسياسة لبنانية لم تتعاطَ مع المخيمات إلا بإعتبارها حالة أمنية يجب إحكام الإمساك بها، متجاهلة الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية الصعبة التي ترزح المخيمات تحت وطأتها بفعل سياسة الدولة المجحفة بالحقوق الإنسانية للاجئين الفلسطينيين.

2- إنعكس الإنقسام الفلسطيني الداخلي بشكل سلبي على كل الحالة السياسية الفلسطينية في لبنان، ويترجم ذلك بعدم قدرة القيادة السياسية المركزية والقيادات المحلية على تقديم نفسها كمرجعية سياسية وإجتماعية، وعجزها عن معالجة الكثير من المشكلات اليومية، سواء على مستوى القضايا والعلاقات الداخلية في بعض المخيمات، أو في العلاقة مع الخارج لجهة تقديم موقف فلسطيني موحد من مختلف القضايا التي تتطلب ذلك.

3- إتساع الهوة بين الحالة السياسية، بكل تشكيلاتها، والحركة الشعبية بمكوناتها المختلفة، خاصة القطاعات الشبابية التي تعاني من مشكلات كبيرة على المستويين الوطني والإجتماعي، ما ولَّدَ إنطباعاً لدى فئات إجتماعية وازنة بعدم قدرة التشكيلات السياسية على التصدي للتحديات المطروحة، وفي القلب منها مشاكل وقضايا الشباب المختلفة.

4- إنعدام الآمال بإمكانية تحقيق إختراقات على مستوى العملية السياسية (المتوقفة عملياً منذ عقدين من الزمن) تضمن الحد الأدنى من الحقوق الوطنية؛ وفي المقابل، بقاء السياسات الرسمية الفلسطينية أسيرة الخيارات التفاوضية، وغياب الإستراتيجيات الوطنية التي بإمكانها النهوض بأوضاع الشعب الفلسطيني، ناهيك عن الإنقسام وتداعياته السلبية على كل التجمعات والملفات الفلسطينية في ظل تعمق الأزمة التي تعيشها الحركة الوطنية الفلسطينية، واتساع الهوة، ليس فقط بين إطار سياسي وآخر، بل داخل الإطار الواحد، وهو ما بعث برسالة سلبية بأن المستوى القيادي الرسمي بات أعجز من القدرة على الإستجابة لمختلف التحديات والمخاطر المتزايدة مع كل يوم يمر.

■ إن ردة فعل الحركة الشعبية في رفضها لإجراءات وزارة العمل اللبنانية، قدمت صورة واقعية عن حالة وطنية وإجتماعية متماسكة وصلبة، رغم سعي البعض إلى طمس هذه الصورة وإخفاء معالمها لتبرير سياساته، بادعاء عجز الحركة الجماهيرية وعدم قدرتها على النهوض والدفاع عن مصالحها. فجاءت التحركات الحاشدة، الواعية والمنظمة، لتؤكد أن المجتمع الفلسطيني في لبنان، رغم الضربات الكبيرة والموجعة التي تعرض لها وحدَّت من قدرته على مواجهة المخاطر، مازال يختزن قدرات واستعدادات نضالية ووطنية عالية، ما يجعله قادراً، ليس على الدفاع عن حقوقه وتلمس التعبير عن مصالحه فحسب، بل وأيضا تجاوز سقوف سياسية سعى البعض لرسم معالمها خارج إطار التوافقات التي تمرَّست في ميادين الحركة الشعبية، التي تمكَّنت من جعل المطالب المرفوعة تطغى على كل إعتبار، فأسقطت حواجز ومربعات أمنية، وتوحَّدت الحالة الشعبية بكل مكوناتها وإنتماءاتها تحت شعارات وطنية واجتماعية، وبالتالي أصبحت إمكانية تجاوز الحركة الشعبية أمراً بالغ الصعوبة.

وإذا كان صحيحا أن التحركات الشعبية جاءت ردة فعل طبيعية على إجراءات وزارة العمل، التي إعتبرت بمثابة مس بمعيشة ومستقبل جميع الفلسطينيين في لبنان، إلا أنها شكلت صدمة ليس فقط لوزير العمل الذي قال إنه تفاجأ بهذه التظاهرات، بل وللقوى اللبنانية المعنية وحتى لبعض الفصائل الفلسطينية، حيث إعتبرت هذه التحركات، من زاوية جماهيريتها الأكثر زخماً منذ النكبة، ولا يشبهها إلا إنتقاضة المخيمات في لبنان عام 1969 في مواجهة ممارسات أجهزة السلطة القمعية■

(2)

الأبعاد المتعددة لهبّة  (إنتفاضة) المخيمات

■ إن هذه التحركات، بالحشود الضخمة التي شاركت فيها، بعثت بالعديد من الرسائل إلى أكثر من طرف فلسطيني ولبناني ودولي، بعد أن فرضت نفسها على الجميع:

1- فلسطينيا: إشعار القيادة الرسمية لمنظمة التحرير والسلطة وأيضا الفصائل، بأن المراهنة على حركة اللاجئين في مخيمات الشتات، كما في مخيمات الداخل، وعلى قدرتها على الدفاع عن مصالحها هو رهان في مكانه. هذه الحركة، وبالتجارب الملموسة التي خاضتها في أكثر من مكان، قادرة على تحقيق الكثير من الإنجازات والمكتسبات الوطنية، إذا ما تم إحتضانها وتوافرت لها مقومات المساندة والدعم.

وبالمقابل، فإن تجاهل قضايا اللاجئين وإهمال أوضاعهم المعيشية والحياتية لن يقود سوى إلى إتساع حالات النقد للسياسة التي تنتهجها القيادة الرسمية لـ م.ت.ف واستراتيجياتها المعتمدة تجاه قضية اللاجئين، والتي هي إستراتيجية قاصرة على أية حال؛ وبالتالي فإن غيابها عن متابعة قضايا وهموم اللاجئين سيدفع بقوى أخرى لأن تتقدم مدعية أنها تقدم حلولا لمشكلات اللاجئين، من نمط الدعوات العلنية للهجرة الجماعية، التي وإن كانت ردة فعل على واقع إقتصادي وإجتماعي صعب، إلا أنها تؤشر إلى طبيعة العلاقة المتراجعة بين القيادة السياسية وبعض أوساط الحركة الشعبية وقطاعات الشباب بالذات، وأيضا إلى إمكانية تقدم قوى مختلفة، محلية وإقليمية ودولية، بمشاريع مشبوهة تحت يافطات إنسانية وغير ذلك، تلحق الضرر ليس بالحركة الشعبية وحسب، بل وبقضية اللاجئين بشكل عام.

2- لبنانيا: كان العنوان المباشر لتحركات اللاجئين هو رفض إجراءات وزارة العمل وتداعياته على المكانة القانونية والسياسية للاجئين، والتمسك بحق العودة إنطلاقا من صون هذه المكانة ورفض أي مشروع تهجيري أو توطيني في لبنان أو غيره. وعليه، فإن التحركات أسقطت، وبشكل فعلي، كل الإدعاءات والمزاعم التي تقول بإمكانية توطين الفلسطينيين في لبنان، وبالتالي إذا ما توافر الحد الأدنى من التنسيق والفعل المجدي بين الدولة التي ترفص التوطين وبين اللاجئين الذين هم أول ضحايا هذا المشروع، فإن مشاريع التوطين تفقد الكثير من مضامينها وتصبح مجرد شعارات خاوية، لا إمكانية فعلية لفرضها.

ولتأكيد الموقف الفلسطيني الرافض، جملة وتفصيلا، لجميع مشاريع التوطين، وعلى سبيل تدعيم الحجة نُذَكِّر بالواقعة التالية (تاريخ آب/ أغسطس 2019): حين دعت بعض الحراكات الشبابية الفلسطينية إلى مسيرات شعبية تنطلق من المخيمات نحو الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، أعلن مجلس الأمن الفرعي في صيدا والجنوب منع التجمعات مؤكداً على ضرورة حصول أي تجمع على ترخيص رسمي من السلطات. أي أن مسألة التوطين لم تعد سوى شمّاعة تسعى بعض القوى اللبنانية إلى طرحها لأهداف محلية فقط، وهي تعلم حقيقة الموقف الفلسطيني الرسمي والشعبي الذي تكرس بفعل التحركات الجماهيرية الحاشدة والضخمة التي شهدتها جميع المخيمات.

كما يمكن ملاحظة تلمس الوعي العالي للحركة الجماهيرية في عدم إنجرارها إلى مربعات سعت بعض القوى المعروفة بعدائها التقليدي للوجود الفلسطيني إلى جرها إليها، من خلال إعتبار التحركات الشعبية الحاشدة والضخمة كالتي شهدتها مدينة صيدا مثلاً، وكأنها مقدمات لعودة الحرب الأهلية.. لكن رغم أن مثل هذا التحريض قد وجد صداه لدى قوى لا تمثيل شعبي ولا حيثية سياسية لها، إلا أن الحركة الجماهيرية واصلت مسيرتها إلى الأمام، غير آبهة بمثل هذه الدعوات التي إنكشفت مراميها في وقت مبكر، ولم تؤثر على مسار التحركات الشعبية ووحدتها.

3- دوليا: أعادت التحركات الشعبية التأكيد مجدداً على أن قضية اللاجئين هي قضية سياسية، بالأساس، وفي هذا السياق وتحت هذا السقف فهي أيضاً قضية مطلبية ومعيشية. لقد أبرزت هبّة المخيمات قدرة اللاجئين على تلمس طبيعة المخاطر التي تتهدد جميع الحقوق الوطنية، بما فيها قضية اللاجئين، والتي تعود إلى جذر واحد هو رفض إسرائيل والولايات المتحدة الإعتراف بحقيقة أن الإحتلال والتهجير الناتج عن تداعيات نكبة العام 1948 هو السبب الرئيسي في كل ما يتعرض له اللاجئون من معاناة سياسية وإقتصادية، وبالتالي فإن أقصر الطرق لمعالجة هذه المشكلات تكون بتحمل المجتمع الدولي لمسؤولياته لجهة إجبار إسرائيل على إحترام القرارات الدولية ذات الصلة، وفي مقدمتها القرار 194 الذي يكفل حق العودة إلى الديار والممتلكات.

إن ما قدمته مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان من تحرك شعبي رافض لأي إجراء أو فعل تُشتَمْ منه رائحة التساوق مع المشاريع الأمريكية - الإسرائيلية والمعبر عنها راهنا بصفقة ترامب - نتنياهو، ليست سوى صورة مصغرة عن موقف جميع تجمعات اللاجئين الفلسطينيين وتمسكها بحق العودة، ولعل مخيمات قطاع غزه في تحركاتها الجماهيرية في مسيرات العودة التي إنطلقت قبل عام ونصف العام، لهي دليل واضح على الإستعدادية العالية لحركة اللاجئين في الدفاع عن حقوقها الوطنية والإجتماعية.

(3)

آفاق الحركة الجماهيرية

■ رغم أن إجراءات وزارة العمل جاءت تحت عناوين قانونية وتندرح تحت ما يسمى «تنظيم العمالة الأجنبية»، إلا أن الحركة الجماهيرية تمكَّنت من أن تُحسِن الربط بين أبعاد الإجراءات في جانبها المحلي، وبين إمكانية إرتباطها بمشاريع سياسية تُحاك ضد قضيتها الوطنية، فعبَّرت الشعارات المرفوعة عن مستوى متقدم من الوعي لدى قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني التي بادرت ونزلت إلى الشارع قبل أن تقرر الحالة السياسية الفوقية شكل التحرك وحدوده.. وفي أكثر من مناسبة كانت الحركة الجماهيرية هي المبادرة، وهي السبّاقة في صنع، لا بل في فرض الحدث بقوة الإلتفاف الشعبي حول خياراتها.

لقد تمكَّنت الحركة الجماهيرية بإصرارها وعزيمتها وثباتها، أن تفرض على الفصائل الفلسطينية الوحدة في التحركات والمطالب، رغم أن بعض الفصائل لا زالت حتى هذه اللحظة غير مقتنعة بجدوى الحركة الجماهيرية وقدرتها على إمكانية تحقيق إختراقات في جدار الحرمان السياسي المزمن في لبنان. وهي لهذا تسعى إلى إبقاء التحركات في الحدود المسيطر عليها بدعوى ومحذور إمكانية إختراقها أمنيا، وهذا ما تُرجم بعدم زج فصائل نافذة، كحركة فتح على سبيل المثال، بكامل طاقتها في ميدان التحركات بذريعة الحرص على عدم توتير الأجواء مع السلطات اللبنانية، رغم سلمية التحركات التي إمتدت لعدة أسابيع متواصلة، دون أن يسجل حادث أمني واحد.

مثل هذه التخوفات لم تجد لها أية أصداء في أوساط الحركة الجماهيرية، التي شهدت تراجعاً في حشوداتها في بعض محطاتها، خاصة بعد عمليتي الإغتيال اللتين إستهدفتا شخصيتين – على يد عناصر أصولية مشبوهة - في مخيم عين الحلوة، والتي حصل إجماع على إعتبار أن المستهدف الأول بالتفجير الأمني هو الحركة الجماهيرية التي ما لبثت أن إستعادت زخمها، لتعود قوية بدورها وثابتة على مطالبها. هذا ما أكدته التحركات التي سبقت وأعقبت جلسة مجلس الوزراء (23/8/2019) التي أحالت ملف العمالة الفلسطينية للبحث، إلى لجنة وزارية، برئاسة رئيس الحكومة.

■ ما يجب التأكيد عليه، أنه من الخطأ النظر إلى التحركات الجماهيرية في لبنان باعتبارها حدثا محلياً بين اللاجئين الفلسطينيين وبين وزارة العمل اللبنانية، بل هو إشتباك على تماس مباشر مع المشروع الأمريكي، وهذا ما يفسر إصرار اللاجئين على رفض إجازة العمل، حتى ولو تم الإعفاء من رسومها، لأن هذه الإجازة تكرس منطق التعاطي مع اللاجئين الفلسطينيين كأجانب، ما يشكل مساً بالمكانة القانونية - السياسية للاجئين يصب في خانة الدعوات الأمريكية والإسرائيلية لتصفية قضية اللاجئين من خلال نزع صفة ومكانة اللجوء عن ملايين اللاجئين، بهدف شطب حق العودة إلى الديار والممتلكات.

■ إن كانت الحركة الجماهيرية قد حددت أهدافها وصاغت مطالبها الإجتماعية، وقدمت صورة رائعة عن تماسكها وصلابتها وقدرتها على رسم تكتيكاتها وصياغة موقفها بشكل سريع، إلا أنها لا زالت تشكو من غياب المرجعية الجامعة التي تشرف على التحركات وتعمل على تطوير أشكال التعبير عنها، وإيصال صوتها إلى الأطراف المعنية الفلسطينية واللبنانية. صحيح أن جميع الفصائل واللجان الشعبية والإتحادات والحراكات الشبابية المختلفة تشارك في التحركات، إلا أن هذه المشاركة تتفاوت بين فصيل وآخر، ولم تأخذ بعد شكل المشاركة المنظمة التي تستند إلى قيادة مركزية تنبثق عنها قيادات محلية ولجان إختصاص مركزية ومحلية، وتسيِّر وفود سياسية للتواصل مع الحكومة والأحزاب والتيارات اللبنانية المختلفة، ومع هيئات دولية معنية بقضية اللاجئين.

■ لقد كان اللاجئون الفلسطينيون، خاصة المقيمون منهم في الدول العربية المضيفة، أكثر التجمعات الفلسطينية تأثراً بحالة التراجع التي أصابت أوضاع م.ت.ف ومؤسساتها المختلفة، وما ترتب على ذلك من فقدان الغطاء السياسي الذي كانت تشكله المنظمة، وهو ما أثّرَ سلباً على الوجود الفلسطيني في لبنان برمته، فبات يشعر أنه مكشوف أمام كل سياسات التمييز والإقصاء التي ترتكب بحقه والتي تترجم عادة بحملات تحريض سياسي معلن ضد الشعب الفلسطيني ومخيماته. لذلك قلنا في أوقات سابقة، ونردد الآن، إن أي غياب لمنظمة التحرير باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني سيترك فراغا من السهل لقوى أخرى أن تملأه.. وهنا تكمن أهمية أن تكون منظمة التحرير، بفصائلها ومؤسساتها، حاضرة بقوة في جميع التحركات الشعبية التي يشكل زخمها مصدر قوة للمنظمة وفصائلها يجب الإستفادة منه لصالح قضية اللاجئين والعلاقة الأخوية المطلوبة مع الدولة اللبنانية وجميع مؤسساتها■

(3)

المصادر الخارجية لإنفاق الفلسطينيين في لبنان

تشكل هذه المصادر روافد مالية مهمة لدعم الإقتصاد اللبناني.. ففي حين يرسل العمال الأجانب ما يتقاضوه من أموال إلى أسرهم في الخارج بما يدعم إقتصاديات دولهم، فإن الفلسطينيين ينفقون جنى عملهم كاملاً في لبنان، إلى جانب الروافد المتعددة للتحويلات المالية من الخارج سواء العائلية منها، أو من خلال المؤسسات العاملة في الوسط الفلسطيني. وفي تقديرات بسيطة لحجم مساهمة الفلسطينيين في الإقتصاد اللبناني، يتبين أن مساهمة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان تناهز ثلاثة مليارات دولار.. وفي هذا الإطار نشير إلى مايلي:

1- تنفق وكالة الغوث المعنية بتقديم الخدمات التعليمية والصحية والإغاثية، سنويا، مئات الملايين من الدولارات سواء عبر رواتب موظفيها الذين يزيد عددهم عن ثلاثة آلاف موظف، أو من خلال الإنفاق على القطاعات المختلفة الصحية والتربوية والإجتماعية. ووفقاً للأرقام الصادرة عن الوكالة فقد بلغت قيمة الأموال التي أنفقتها الوكالة خلال أعوام 2016، 2017، 2018 نحو 229 مليون دولار، 232 مليون، و155 مليون دولار على التوالي موزعة على الموازنة بأقسامها الثلاث (الصندوق العام، الطواريء، المشاريع التطويرية).. ناهيك عن مصاريف ونفقات الموظفين الدوليين التي تمول من خارج الموازنة العامة (راجع تقرير إستراتيجية تعبئة الموارد لعامي 2016-2018، صادر عن وكالة الغوث - المكتب الرئيسي - قطاع غزه).

- الأموال التي تنفقها المؤسسات المختلفة التابعة لمنظمة التحرير والفصائل الأخرى في لبنان والتي تزيد عن 80 مليون دولار سنوياً وفقا للمعطيات التالية: في حساب بسيط لعدد أفراد قوات الأمن الوطني الفلسطيني والمنتسبين إلى الفصائل وكوادرها، ومخصصات أسر الشهداء والشؤون الإجتماعية، والسفارة وغيرها من المؤسسات والإتحادات فإن العدد يزيد عن 15 ألف مستفيد. ولو إفترضنا أن راتب الفرد الواحد، كمعدل وسطي، يبلغ 400 دولار شهرياً، فإن قيمة الرواتب تصل ما بين 70-80 مليون دولار بعد إضافة الموازنات الإدارية والنثريات (تقديرات خاصة).

3- الأموال التي تنفقها مؤسسات المجتمع المدني العاملة في الوسط الفلسطيني والتي يتجاوز عددها نحو 60 مؤسسة تعمل بشكل جدي. ولو إفترضنا أن معدل الموازنة السنوية لكل مؤسسة نحو مليون دولار فهذا يعني أن قيمة ما تنفقه هذه المؤسسات يناهز الـ 60 مليون دولار امريكي (تقديرات خاصة).

4- التحويلات التي ترسلها الجاليات الفلسطينية في الخارج إلى أسرها في لبنان والتي تشكل مصدراً آخرا من مصادر الإنفاق الفلسطيني في لبنان، وعلى سبيل المثال فقط فقد تكونت معطيات لدى لجنة الحوار اللبناني - الفلسطيني أن عدد الفلسطينيين الذي يحولون جزءاً من دخلهم شهرياً من دولة الإمارات العربية المتحدة إلى لبنان بحوالي 35 ألف شخص، بمعدل 550 دولار أميركيا شهرياً، وبذلك تبلغ تحويلاتهم سنويا حوالي مبلغ 230 مليون دولار أميركي (اللجوء الفلسطيني في لبنان: واقع العيش وإرادة التقدّم، صادر عن لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني، 2018). وبإمكاننا القياس على ذلك باحتساب عدد الفلسطينيين المقيمين في دول الخليج العربي وفي أوروبا وأمريكا وكندا والذين يرسلون أموال الى أسرهم في لبنان من أجل تقدير تحويلاتهم، مقارنة مع نحو 7.2 مليار دولار قيمة تحويلات اللبنانيين في الخارج إلى أسرهم في لبنان (راجع تقرير للبنك الدولي وردت تفاصيله في صحيفة الشرق الأوسط في 17 أيار/ مايو 2019)، ومع حوالي 3.6 مليار دولار أمريكي قيمة تحويلات العمال الأجانب إلى خارج لبنان، وفقاً لتقرير صادر عن «الإسكوا» في عام 2016 (جريدة الأخبار 10 كانون الأول/ ديسمبر 2018).

5- إضافة إلى ما سبق، فهناك مصدر هام جداً وقد يكون الأكثر أهمية بين مصادر إنفاق الفلسطينيين في لبنان وهو قيمة الإنفاق الإستهلاكي للأسر الفلسطينية في لبنان والذي يقدر بنحو نصف مليار دولار أمريكي وفقاً لاحتساب التالي: يبلغ عدد الأسر المقيمة فعليا في لبنان أكثر من 55 الف أسرة وفقاً للتعداد العام للسكان الذي أنجزته الحكومة اللبنانية عام 2017 وبمعدل وسطي للأسرة الواحدة يبلغ أربعة أفراد ما يعني أن العدد هو حوالي 200 ألف فرد. وقد أشارت دراسة صادرة عن وكالة الغوث والجامعة الأمريكية في بيروت عام 2015 إلى أن متوسط إنفاق الفرد الفلسطيني في لبنان يبلغ 190 دولار شهرياً (المسح الأسري الإقتصادي - الإجتماعي للاجئين الفلسطينيين في لبنان، 15  كانون الأول/ديسمبر 2010: موقع وكالة الغوث على الانترنت www.unrwa.org)، أي 2.280 دولار للفرد سنويا، بمعنى أن مجموع ما ينفقه اللاجئون الفلسطينيون في لبنان يبلغ حوالي 500 مليون دولار أمريكي..

6- إنطلاقا مما سبق، وإلى جانب تحويلات الفلسطينيين في الخارج إلى أسرهم في لبنان، التي إكتفينا منها بمثال تحويلات الإمارات؛ يمكن إحتساب التالي: 

  200 مليون دولار متوسط قيمة ما تنفقه وكالة الغوث.

80  مليون إنفاق منظمة التحرير والفصائل.

  60 مليون حجم إنفاق المؤسسات الأهلية.

  500 مليون دولار قيمة الإنفاق السنوي للفلسطينيين..

وبالتأكيد فإن حجم مساهمة الفلسطينيين في لبنان بالإقتصاد اللبناني لا تقتصر على مصادر الإنفاق فقط، بل وأيضا على الموارد البشرية، بما تختزنه من خبرات علمية ومهنية وحرفية وتربوية، وتشكل رافداً مهما في دعم وتطوير الإقتصاد اللبناني. وبالتالي، فإن أي مقارنة ما بين العمالة الفلسطينية والأجنبية لا يمكن أن تستقيم إلا في إطار المساهمة الإيجابية للفلسطينيين في تطوير القطاعات المختلفة للإقتصاد اللبناني

وسوم: العدد 841