صور من بدر قبيل بدر

محمد سعيد الطنطاوي

الحمد لله الذي أمر عباده بالدعوة إليه، وأمر بإعداد القوة لحياطة دينه والمحافظة عليه، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله الكريم الذي كان، في جميع الأمور، يخوض المعارك الفاصلة، ليسير المسلمون على نهجه فيكونوا أقوياء أعزاء، قادة سادة، أٌباة هداة. وبعد:

فإن كتاب الله عز وجل المنبع الثرّ للهدى والحق والخير وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسير أتباعه، هي السجل الخالد للبطولات والأمجاد، فيهما يجد المسلم النور الذي يضيء له الطريق، ومنهما يفوز بالقوة التي تحفزه إلى الخير، وتعصمه من الزلل، وتمنعه من الانحراف، وتدفعه للتغلب على الصعوبات التي تقوم بينه وبين بلوغه الجنة، وما فاز من فاز إلا منهما وبهما، ولا خسر وهلك إلا من غفل عنهما وتركهما.

وبدر هي الفيصل بين عهدين، وفيها من الصور المثيرة، والمعاني الرفيعة ما يتعذر حدّه وحصره.

-1-

من أوائل الصور التي نصادفها فيها، صورة الكتيبة المؤمنة، يزيد أفرادها قليلاً على ثلاثمائة ليس لهم إلا سبعون بعيراً، يعتقبونها فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وعلي بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنهم يعتقبون بعيراً، أبى عليه الصلاة والسلام إلا أن يواسي أصحابه بنفسه، ويكون فيهم كأحدهم، حتى يبين الشكل الصحيح للأمير الأمين في المجتمع السليم.

-2-

ونسير مع كتيبة الإيمان فنرى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، يستشير الناس ويخبرهم عن قريش، فيقوم أبو بكر الصديق فيقول فيحسن، ثم يقوم عمر بن الخطاب فيقول فيحسن، ثم يقوم المقداد بن عمرو فيقول: يا رسول الله امضِ لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: "فاذهب أنت وربك فقاتلا .. إنا هَهنا قاعدون" ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.. فو الذي بعثك في الحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ويدعو له به. ثم يقول: أشيروا عليّ أيها الناس! إنما يريد الأنصار، الذين كانوا معظم الجيش، يتعرف إلى نواياهم أيرون نصرته في كل وجه وكل مسير، أم يقتصرون في نصرهم له على الدفاع عنه أمام من يدهمهم في المدينة؟ والجيش الذي يعتمد عليه في المعركة هو الذي يؤمن أفراده بهدفهم ويندفعون إلى بذل نفوسهم في سبيله، لا أن يساقوا سوقاً ويدفعوا إليه دفعاً.

وينتبه سعد بن معاذ – حامل راية الأنصار – لهذا فيقول:

والله لكأنك تريدنا يا رسول الله.. قال: أجل.

قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أنما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجلٌ واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصُبرٌ في الحرب، صدقٌ في اللقاء لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله.

فيُسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد وينشطه بذلك فيقول: سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم.

-3-

ونترك هذا المشهد الذي رأينا فيه الاهتمام بنفسية الجنود، وجليل أهمية تحميسهم وإثارتهم بكلام المندفعين الصُدّق منهم.

نترك هذا المشهد لنرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يركب بنفسه مع أبي بكر الصديق ليتحسس أخبار العدو ويرى شيخاً من العرب يقال إنه سفيان الضمري، فيسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم، فيجيب الشيخ لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما، فيقول رسول الله صلى الله عليه: إذا أخبرتنا أخبرناك، ويستقصي الشيخ فيقول: أو ذاك بذاك؟ فيجيبه: نعم. فيقول الشيخ: فإنه بلغني أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني، فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي به قريش، فلما فرغ من خبره قال: فمن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء، ثم انصرف عنه، ويأخذ الشيخ يقول: ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟

ونعجب ممَ نعجب؟ أم من مواساة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لأصحابه بنفسه، إذ يذهب هو والصديق لتسقط الأخبار، لا يخلد إلا راحة، ولا يجد الفزع إلى قلبه طريقاً، أم من هذا الجواب المحكم الذي أجاب به الرجل – دون اللجوء إلى الكذب – عما سأل، بغير أن يعرض المسلمين إلى الخطر، بكشف أمرهم، وتسرب خبرهم إلى قريش، فإن المعاريض لمندوحة عن الكذب.. وجوه الإعجاب كثيرة، إلا أن مما يدفع إلى الوقوف عنده ملياً، وتعلم الدرس العظيم منه، هو المهمة الأولى للمسلم، للدعوة! فرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى في هذه الآونة الحرجة لا يغفل عن الدعوة، فتكون الكلمات الثلاث التي كانت جواباً صادقاً للرجل، وتعمية حكيمة عن أمر المسلمين، تكون في نفس الوقت دعوة رفيقة للتفكير والتبصر، لينظر مما خُلق، فيزول عنه الكبر، ويرى قدرة الخالق العظيم، وإذا زال ذلك وحصل هذا فقد انفتح الباب واستوى الطريق.

-4-

ولا يكتفي الرسول الكريم بهذا، فيعلمنا بهذا كيف نعد للأمور عدتها، ونستقصي في ذلك جهدنا، ونستفرغ وسعنا، وذلك حين يبعث في أمسية اليوم ذاته، عليٌ بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه، إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له عليه، ويطيع هؤلاء النفر الأبطال، بدون تردد، وبغير مناقشة، فيجدون على الماء غلامين لقريش، يقال لأحدهما أسلم، وللآخر عريض، أبو يسار، أرسلوهما ليحملا إليهم من الماء فأتوا بهما وسألوهما – ورسول الله صلى الله عليه وسلم – قائمٌ يصلي، فهذا من الإعداد أيضاً، بل من أهم الإعداد – فقالا: نحن سقاة قريش، بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان – للقافلة التي خرجوا في طلبها، ليوهنوا بأخذهما قريشاً ويرهبوهم، ويقووا المسلمين بها على حربهم – فضربوهما، فلما اشتدوا في ضربهما قالا: نحن لأبي سفيان، فتركوهما! فلما أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته وسلم قال: " إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما؟ صدقا والله، إنهما لقريش، أخبراني عن قريش". قالا: هم والله وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى. فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كم القوم؟" قالاً: كثير.. قال: ما عدتهم؟ قالا: لا ندري.. قال: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: يوماً تسعاً ويوماً عشراً.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (القوم فيما بين التسعمائة والألف) ثم قال لهما: "فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البحتري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحرث ابن عمار ابن نوفل، وطُعيمة بن عدي بن نوفل، والنضر بن الحرث وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ود..

فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: "هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها"...

***

ونعود إلى هذه الصورة، فنقرأ فيها ونعيد، وجلس حول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، ومع ذلك يرى ما لا يرون، كما يقول أعشى قيس:

فيزيدنا هذا معرفة بشأن الصلاة وأثرها، لا جرم أنه النبي الملهم صلى الله عليه وسلم، علّمه الله ما لم يعلمناه، وأطلعه على ما لم يطلعنا عليه، إلا أن الصلاة مع ذلك هي الصلاة، تزيد المؤمن نوراً وصفاءً وفهماً..

"وما تقرّب إليّ عبدي بشيءٍ أحب إليّ مما افترضته عليه.. ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به..".

ولعل هذا مما زاد الرسول البر الشكور حرصاً على الصلاة، وحثاً لنا على الإقبال عليها والتقرب بها، فإن الصفاء الذي تتركه الصلاة الكريمة في النفس النبيلة، يجعل للحق في الأذن جرساً يميزه عن الباطل، ويري العين للحسن ضياءً، لا يكون للسيء، وكلما مال الإنسان مع هواه، فتح باب الكدر في هذا الصفاء، فغام وتعكر، فإذا حلت الدنيا في القلب، محل الآخرة، فقد انطمس الصفاء ودرس.

والصحابة رضوان الله عليهم مع رفيع ما وصلوا إليه، لما مالوا إلى ما استحلوه من اغتنام القافلة، فمالوا عما استثقلوه من التحام مع جيش قريش، فرغبوا في العير دون النفير، هنالك اختلط الأمر عليهم فجعلوا يضربون الغلامين حتى يجيبا مما به يرغبون، والإنسان إذا رغب في شيء غفل عما سواه:

فلما أتى عليه الصلاة والسلام من الصلاة، حل الصفاء وساد الضياء وبان الباطل وظهر الحق.

ودرس في هذا أيضاً عظيم، إن الإنسان محدود النظر قد يرى ولكن في إطار، ويفكر إلا أنه لا يخرج عن نطاق، فلا يجد إلا التوكل على الله، إذا عسى أن يكره شيئاً وهو خيرٌ له، وعسى أن يحب شيئاً وهو كرهٌ له:

وقديماً قال الشاعر الجاهلي:

والشافعي في ذهابه إلى مصر يقول:

والصلاة من أروع ما يساعد على إزاحة رغبات الدنيا، ويعين على الرضا بقضاء الله.

ولا نجد متسعاً لنقف أمام الفطنة الرائعة، والحزر البارع لعدد الجيش الذي لم يره، وتعذر تقديره على من كان فيه.

لن نقف هناك، وإنما نتمهل قليلاً هنا عند: "هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها". وكأن معنى هذا: لا تستهينوا ولا تتهاونوا فقد جاءكم سروات الناس وفرسان قريش وأبطال مكة، فاحذروا وتهيأوا واستعدوا.

وكان معناه أيضاً: هذه مكة التي وجدتم فيها الأذى ولاقيتم العذاب، وأرهقكم صناديدها، قد ألقت إليكم أفلاذ أكبادها فخذوا ثأركم، واشفوا غيظكم، وعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، فقد أذن الله بالقتال.

وقد يكون معناه: هذه قوة قريش، وبهؤلاء يرون منعتهم، فإذا ذهبوا فلا قوة لهم ولا منعة، فصدقوا الله فيهم، وأخلصوا النية في قتالهم.

-5-

 وكان بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء رضي الله عنهما قد مضيا حتى نزلا بدراً، فأناخا بعيرهما إلى تل قريب من الماء، ثم أخذا شناً – وهو الزق أو القربة – لهما يستسقيان فيه، ومجد بن عمرو الجهني على الماء، فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري الحي تختصمان على الماء وإحداهما تقول للأخرى: إنما تأتي العير – أي القافلة، قافلة أبي سفيان – غداً أو بعد غد، فأعمل لهم ثم أقضيك الذي لك، قال مجد صدقت، ثم خلص بينهما، وسمع ذلك عدي وبسبس – والمسلم حذر فطن – ولا سيما حيال العدو وآن المناجزة – فجلسا على بعيرهما، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله صل الله عليه وسلم فأخبراه بما سمعاه، لم يتصرفا من عند أنفسهما وإنما ردوه إلى الله والرسول، وهكذا تكون الدقة والطاعة والنظام.

وأقبل أبو سفيان بن حرب، حتى تقدم العير حذراً، حتى ورد الماء. فقال لمجدي بن عمرو: هل أحسست أحداً؟ فقال: ما رأيت أحداً أنكره، إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل ثم استسقيا في شن لهما ثم انطلقا، انتباه من مجدي وملاحظة دقيقة، واهتمام من أبي سفيان وقيام لحيطة القافلة بنفسه، ولكن ليس هذا فحسب، بل إنّ أبا سفيان يأتي المكان الذي أنيخ به البعيران، فيأخذ من أبعار بعيريهما، فيفته فإذا فيه النوى، فيقول: والله هذه علائف يثرب!.

هؤلاء الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم! لم يقاتل أغراراً سذجاً، بل قوماً يستدل أحدهم على البعير بالبعرة، بل يعرف بلد النخل، وما أكثر النخل في جزيرة العرب، لا من النخل ولا من التمر، ولكن من النوى بعدما أكلته الجمال وخرج في البعر!

ولكن هؤلاء الذين كانت لهم أحلام كالجبال، وجدوا أمامهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم والجيل الذي رباه، ما هاض جناحهم، وخضد شوكتهم، وملأهم رهبة وإعظاماً، جعل أبا سفيان لما قال مستعظماً فزعاً: والله هذه علائف يثرب، يرجع إلى أصحابه سريعاً، فضرب وجه عيره عن الطريق، فتوجه بها نحو الساحل، وترك بدراً بيسار، وانطلق حتى أسرع.

-6-

وهذا موقفٌ يبين فيمَ جرت هذه المعركة، وماذا استهدف من قام بها، ألله هو الحق، أم البغي والعدوان؟

وكيف يستمطر النصر بالبغي؟ والبغي – كان يقول قيس بن زهير – مرتعه وخيم..

فإن أبا سفيان لما رأى أنه قد أحرز عيره ونجى بالقافلة، أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله فرجعوا.

فقال أبو جهل بن هشام – سوط الكبر والحقد والجهل –: والله لا نرجع حتى نرد بدراً، وكان بدر موسماً من مواسم العرب تجتمع لهم به سوق كل عام، فنقيم عليه ثلاثة أيام، فتنحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف عليها القيان – أي تغني الجواري – وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها، فامضوا.

ومع هذا فلا يخلو أن يرتفع صوت بالحكمة والإنصاف والعدول عن العدوان، كالأخنس بن شريق الثقفي – وكان حليفاً لبني زهرة – الذي  قال وهم بالجحفة: يا بني زهرة، قد نجى الله لكم أموالكم، وخلص لكم صاحبكم محرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا بي جبنها.. وارجعوا، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا من غير ضيعة، لا ما يقول هذا، يعني أبا جهل، فرجعوا، فلم يشهد بدراً زهريٌ واحد، أطاعوه وكان فيهم مطاعاً.

ولم يكن بقي من قريش بطن إلا وقد نفر منهم ناس، إلا بني عدي لم يخرج منهم رجل واحد، وإلا بني زهرة هؤلاء فلم يشهد بدراً من هاتين القبلتين أحد. -7-

ومضيت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي، وبعث الله السماء، وكان الوادي دهساً – كثير الرمل ناعمه – فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ماء لبدلهم الأرض، ولم يمنعهم السير، وأصاب قريشاً منها ماء لم يقدروا على أن يرتحلوا معه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرهم إلى الماء، حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزل به.

ولقد كنت أقرأ قول الله عز وجل: (وينزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به ويذهب عنكم رجس الشيطان، وليربط على قلوبكم، ويثبت به الأقدام)(1).

ولم أكن أفهم معنى تثبيث الأقدام بنزول المطر، حتى إذا يسر الله تبارك وتعالى لي في حج 1381 زيارة بدر، وسرت في الوادي، وعانيت من رماله ما عانيت، لما كانت قدمي تغوص في الرمل الناعم اللين، ففهمت حينئذٍ كيف يكون المطر الخفيف على هذه الرمال نعمة يتفضل الله عز وجل بها على عباده، إذ تنقلب رخاوة الأرض صلابةً تثبت تحت الأقدام، فيسهل فيها السير، كما حدث في البقعة التي كان فيها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإذا اشتد المطر أكثر من ذلك، لم يقف الأمر عند تمهيد الأرض، ولكن الرمال تصبح عندئذٍ أخف وطأة وأيسر شأناً من الوحول التي يتعذر فيها على جيش أن يتقدم أو يتحرك، وهو ما حدث في الناحية التي فيها قريش.

فسبحان من قدرته تجعل الشيء نعمة إذا أراد، وبلاء حين يريد، ويجعل زيادة النعمة أذى إذا شاء، ويسخر وسيلة الضرر للنفع متى أحب.

جعل المطر نعمة على قوم ووبالاً على آخرين، كما جعل العقل هداية لفئة، وإضلالاً لأخرى..

-8-

وهذا موقف الذكاء والفطنة والرأي من المسلمين مع الأدب والطاعة والنظام، والخلق الكريم والتواضع والإنصاف من الرسول الكريم مع المشورة والتشجيع والإحكام، حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أدنى ماء من بدر، فقام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟

قال: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة". فقال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نعور ما وراءه من القلب – أي نفسد ما خلفه من البرك – ثم نبني عليه حوضاً فنملئه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أشرت بالرأي".. فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس فسار، حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه ثم أمر بالقُلب فعورت، وبنى حوضاً على القليب الذي نزل عليه فملأ ماءً، ثم قذفوا فيه الآنية.

وحبذا لو وقفت معي قليلاً، بل طويلاً، أمام هذه الكلمة الرائعة من الحباب: أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه. هذا الأساس العظيم الذي قام عليه بناء المسلم فيما مضى، من الطاعة المطلقة لكل ما أمر الله، لا تردد ولا تلكأ ولا تجمجم، ولا مساومة ولا تسويف، ولا نقول أنه ثانوي أو أساسي، أو لب أو قشور، ولكن إذا أمر الله بهذا، فليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، مهما أبدنا لنا هوانا البليد وأعاد، ومهما رأينا من سخف المصلحة ورقيع الحكمة، فلا مصلحة ولا حكمة ولا هوى بعد أمر الله، بل الطاعة والانقياد والخضوع، بكل حسم وعزم، فهو الرأي والحكمة والمصلحة.

-9-

يقول المتنبي:

وقد اجتمعا لنفسٍ حرة، وأي نفس، نفس سعد بن معاذ – يسرّ الله لنا تقديم رسالة عنه وأعان – الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله ألا نبني لك عريشاً تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك فلحقت بمن ورائنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام، يا نبي الله، ما نحن بأشد لك حباً منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك.

فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له، ثم بُني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش فكان فيه.

أجل، لم يقتصر سعد على البطولة والبسالة والإقدام، وهي خلال فيه واضحة بارزة، وإنما كان همه هذا الإسلام، واهتمامه بهذه الدعوة، يفكر دائماً فيها، كيف تقوم وكيف تحاط وتصان، وماذا تحتاج بعد أن وطنّ نفسه أن تكون حياته ودمه أول ثمن!

ولن نترك العريش – وقد صليت في المسجد الذي أقامه السيد حسن الشربتلي في موضعه، وأرجو أن ييسر الله للقراء الصلاة فيه – قبل أن نستمع إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يسأل أصحابه وهو في جماعة من الناس: من أجشع الناس؟ قالوا: أنت يا أمير المؤمنين.. قال: أما إني ما بارزت أحداً إلا انتصفته منه، ولكن أشجع الناس أبو بكر: لما كان يوم بدر، جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً وقلنا: من يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يصل إليه أحد من المشركين؟ فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهراً السيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم.

-10-

وها نحن أيضاً في موقف جديد، نرى فيه فراسة المؤمن وصفاء نظر النبوة، وآثار الصلاة في النظر إلى الأمور، في ذلك الموقف الذي ظهر فيه الإصرار على البغي، والتعنت فيه، ومغبة ترئيس الجهلة البغاة، وسوء المنقلب في طاعتهم واتباعهم، وذلك حين ارتحلت قريش حين أصبحت فأقبلت، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تنحدر من الكتيب قال: اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر فقال: "إن يكن في أحد من القوم خير، فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا".

وقد كان إيماء بن رحضة الغفاري بعث إلى قريش – حين مروا به – ابناً له بجزائر – أي إبلاً مذبوحة – أهداها لهم وقال: إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا، فأرسلوا إليه مع ابنه: أن وصلتك رحم، قد قضيت الذي عليك، فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعفٍ عنهم، ولئن كنا إنما نقاتل الله، كما يزعم محمد فما لأحد بالله من طاقة.

فلما نزل الناس، أقبل نفرٌ من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم حكيم بن حزام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوهم" فما شرب منه رجل يومئذٍ إلا قتل، إلا ما كان من حكيم بن حزام فإنه لم يقتل، ثم أسلم بعد ذلك فحسن إسلامه، فكان إذا اجتهد في يمينه قال: لا والذي نجاني من يوم بدر.

ولما اطمئن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي فقالوا: احذر لنا أصحاب محمد – أي قدر لنا عددهم – فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال: ثلاثمائة رجل، يزيدون قليلاً أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد، فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئاً، فرجع إليهم فقال: ما وجدت شيئاً، ولكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجلٌ منهم حتى يقتل رجلاً منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك؟ فروا رأيكم.

فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس، فأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها، والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمر بن الحضرمي – الذي رماه واقد بن عبد الله في سرية أميرها عبد الله بن جحش رضي الله عنهما – قال: قد فعلت، أنت عليّ بذلك، إنما هو حليفي فعلي عقله – أي دينه – وما أصيب من ماله فأتِ ابن حنظلية – أي أبا جهل – فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس – أي يثير بينهما الفتنة والشجار – غيره.

ثم قام عتبة بن ربيعة خطيباً فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً، والله لئن أصبتموه، لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه، أو ابن خاله، أو رجلٌ من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألقاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون.

قال حكيم: فانطلقت حتى جئت أبا جهل، فوجدته قد نثل درعاً له من جرابها – أي أخرجها منه – فهو يهيئها، فقلت له: يا أبا الحكم، إن عتبة قد أرسلني إليك بكذا وكذا، فقال: انتفخ والله سحره – أي رئته وما حولها – يعني خاف وفزع – حين رأى محمداً وأصحابه كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة ما قال، ولكنه قد رأى أن محمداً وأصحابه أكلة جذور، وفيهم ابنه فقد تخوفكم عليه.

ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي فقال: هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد خفرتك – أي عهدك – ومقتل أخيك، فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ: وا عمراه!!

فحميت الحرب، واشتد الأمر، وأجمع الناس على ما هم عليه من الشر فأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة.

***

هذه صور خاطفة لبعض المواقف، التي سبقت المعركة الفاصلة، وقعة بدر، والتي موعدنا معها رمضان القادم إذا يسر الله لذلك ووفق وأعان. ولله الفضل والمنة وعلى رسوله وأنبيائه الصلاة والسلام.

(1) الأنفال: 11

وسوم: العدد 846