هيّا اركب معنا

صالح محمّد جرّار

إنّ المسلمَ لا يُقْبَلُ منه مهما كان موقعه في المجتمع أنْ يُغْمِضَ عينيه

عمّا يجري حولَه ، وأنْ يتبلّدَ إحساسُه ،حتّى لا يشْعر بالنار الّتي تكويه

،بل تحرقه وتهلكه !! وأيّ نارٍ في الدّنيا أشدّ من نار الهوان، وجحيم

الصّغار ؟! وأيّ هوانٍ أشدّ من أن نصير أهونَ على الله من الجعلان ،

بعد أن كنا خيرَ أمّة أخرجَت للناس، تأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر

وتؤمن بالله ؟!!!

وكأنني أسمع ذا صوتٍ خافت يهمس : هذا قدَرُنا , هذا قدرنا , فهل في

طاقتنا أن نغلب الأقدار ، ونردّ العار ؟!

فاسمع يا صاحب الصّوت الضعيف قول الواحد القهّار: " إنّ الله لا يغيّر

ما بقومٍ حتّى يُغَيّروا ما بأنفسهم ." صدق الله العظيم .

فالقدر مرتبط بإرادتك، وعزمك، وتصميمك .

وها هي سفينة النّجاة حاضرة مهيّأة , هيّا فاركب معنا، كيلا تكون من

الهالكين, ولا تقل قولة ابن نوح شيخ المرسلين عليه السّلام : "

سآوي إلى جبل يعصمني . " فلا عاصم من أمر الله

هيّا ، هيّا ، فلا مجال للتردّد , فالموج طاغٍ ، والأعاصيرعاتية ، ولا

نجاة إلاّ بركوب سفينة النجاة ، سفينة الإيمان والعلم والأخلاق, سفينة

بناها خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد صلّى الله عليه وسلّم ، بناها

بعلم وحكمة وإخلاص ، وعين الله تعالى ترعاه , فالسّعيد مَن ركبها

باسم الله، والشقيّ الشقيّ مَن أبى وأعرض عنها ، وظن أنه يغلب الموج

الطّامي بذراعيه الضعيفتين ، وقوّته الهزيلة !!

ها هي سفينتنا مكتوب على شراعها قول رسولنا الكريم صلّى الله عليه

وسلّم : "إنما بُعثت لأتممَ مكارم الأخلاق ."

هيّا ، يا أخي ، فالخير في سفينتنا شامل وفير . إنها مكارم الإخلاق،زاد

المتقين، وراية المخلصين ، ورضوان ربّ العالمين، بها وصف الله

رسولنا الكريم ، فقال : "وإنك لعلى خلق عظيم ." وبه اقتدى الصّحابة

والتابعون، ومَن اتّبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين، فكانوا حقّاً خير أمّةٍ

أُخْرِجَت للنّاس،يأمرون بالمعروف ، وينهَون عن المنكر، ويُؤْمنون بالله،

وبذلك سادوا وعزّوا ، وبنَوا للإسلام دولة عزيزة ،عادلة رحيمة، سعد

النّاسُ في ظلالها،سعادة مَن عمّه النّورُ الهادي،بعدما تاه طويلاً في

الظّلمات !!

والآن ، أيّها المسلمون ، ألم يئنِ لنا أن نُقيم ثانية عماد شخصيّتنا الّذي

انهار؟! إنّه عماد الأخلاق الّتي ارتضاها لنا ربّنا ، كما ارتضاها من قبلُ

للأنبياء والصّالحين !!

إنّ الأخلاق الإسلاميّة ليست من مواد التّرَف الّتي يُمكن الاستغناءُ عنها،

بل هي أصول الحياة الّتي يرتضيها الله ورسوله والمؤمنون، وبها يسعد

الفرد والمجتمع ، وبها يعمّنا الأمن والحبّ والوئام ، ونحيا جميعاً حياة

عزّة وكرامة ورخاء، وتعاون وازدهار ، فيكون مثلنا مثَلَ الجسد الواحد

،إذا اشتكى منه عضوٌ ،تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسّهر .

وبذلك يعود لنا مجدنا الغابر ، وتاريخنا المجيد، ونسعد في الدّنيا

والآخرة. وصدق أمير الشعراء ،إذ يقول :

وإنّما الأممُ الأخلاقُ ما بقيتْ فإنْ همُ ذهبتْ أخلاقهم ذهبوا

وفي يوم البعث والنّشور ،لا ينفع مالٌ ولا بنونَ إلاّ مَن أتى اللهَ بقلبٍ سليمٍ

. وما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حسن

الخلق , قال تعالى : " ونفسِ وما سوّاها ، فألهمها فجورها وتقواها. قد

أفلح مَن زكّاها ، وقد خاب مَن دسّاها ... "

إنّنا نعاني في حياتنا الحاضرة أمراضاً خلقية خطيرة ، ولن تستقيم معها

نهضة ، ولن يطّرد فيها سيرٌ ، ولن تقوم لنا في جحيمها قائمةٌ .

وإذا أُصيبَ القومُ في أخلاقهم فأقم عليهم مأتماً وعويلا

وإنّ تلك الأمراضَ الخلقية مختلفة المظاهر في الفرد والأسرة والمجتمع

، وهي تشمل فئات النّاس كلّها ،من عالم وجاهل، وكبير وصغير، ومدني

وقرويّ، وحاكم ومحكوم.

والعلاج يبدأ من الفرد، فهو الخليّة الأولى في بناء المجتمع. فإنّ رسول

الله صلّى الله عليه وسلّم ظلّ في مكّة المكرّمة ثلاثة عشر عاماً، يُعنى

بتربية أفراد أمّته ، حتّى إذا اجتمع له منهم عشراتٌ ، شرع في بناء

الدّولة الصّالحة، والحضارة الصّالحة .

إنّ أبا بكرٍ وعمر وعثمان وعليّاً، وابن مسعود وأمثالهم ، هم الّذين أقاموا

صرح الدّولة الإسلاميّة ، والحضارة المؤمنة المشرقة، وكان لهم في

هداية الإنسانيّة نصيبٌ وأيّ نصيب !!

فهل تُخَرّج بيوتنا ومدارسنا وجامعاتنا ومساجدنا ، ومؤسساتنا الاجتماعيّة

والحكوميّة هل تُخرّج عباداً مؤمنين صالحين ، ينشرون فضائل

الإسلام وأخلاقه ، في كلّ موقعٍ يكونون فيه، من حياءٍ وإخاءٍ واتّحاد ،

وجهاد وعزّة ورحمة ، وأمانة وعلم وإخلاص ، وصبر وقوّة وعفاف ،

إلى آخر ثمرات الإيمان ، وأخلاق مدرسة القرآن ؟!

وأترك الجواب للواقع الأليم الّذي أصفه بأبيات من قصيدة لي :

وعزّ من قائل :" وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها، ففسقوا فيها ،

فحقّ عليها القولُ ، فدمّرناها تدميرا ." صدق الله العظيم .وصدق رسوله

الكريم القائل :" إذا أراد الله بقوم خيراً ،ولّى أمرهم الحكماء، وجعل

المال عند السُّمحاء ، وإذا أراد الله بقوم شرّاً ولّى أمرهم السّفهاء

وجعل المال عند البخلاء "

وأخيراً ،

وسوم: العدد 849