في ظلال أسماء السور (6،7،8)

طارق حميدة

في ظلال أسماء السور ( 6)

سورة يوسف والإسراء... بنو إسرائيل بين نبوءتين!!

سورة يوسف عليه السلام تتحدث عن تكوين بني إسرائيل كمجموعة لها مهمة ووظيفة، بينما تتحدث سورة الإسراء عن انتهاء ذلك الدور الرسالي لتلك الجماعة البشرية وتسلم راية الإمامة الدينية من قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وأمته.

وقد لفت أستاذنا الشيخ بسام جرار، إلى لطيفة عددية تتعلق بسورتي يوسف والإسراء، وهي أن عدد الآيات في كلتا السورتين هو مائة وإحدى عشرة آية، والطريف أن إعلان النشأة والتكوين، وإعلان الإقالة والعزل كليهما، جاءا من خلال النبوءة والوحي الرباني؟

فرؤيا يوسف عليه السلام، كانت تعلن الميلاد، وما ورد في بدايات الإسراء مما قضاه الله تعالى إلى بني إسرائيل في كتابهم، كان ينبئ عن النهاية.

لكن نبوءة الميلاد كانت للقيادة وحدها ممثلة في يوسف وأبيه عليهما السلام، وكان هناك حرص وتوصية ألا تصل النبوءة إلى الباقين... فيكفي في البدايات الأولى أن يكون القادة الطلائعيون الرساليون على معرفة بالأهداف البعيدة إلى حين ظهور استعداد من قبل الأتباع، سيما وأن المطلوب بالنسبة ليوسف ويعقوب ولفترة طويلة هو الصبر والصبر وحده إلى حد كبير.

أما نبوءة العزل والإنهاء، التي تحدثت عنها الإسراء، فقد جاءت إعلاناً عاماً، ومخاطباً به الجمهور الذي ستتورط ذريته في الإفساد، وجاءت النبوءة مدونة وموثقة في كتاب ديني يتلى ويتوارث على مدى قرون، حتى يكون المقصودون على وعي وعلى حذر، ويصبحوا مسؤولين بشكل جماعي وفردي أيضا للنجاة بأنفسهم، وعدم مجاراة المفسدين، بل والالتحاق بركب الأمة الجديدة التي سترث الإمامة الدينية خلف نبيها محمد صلى الله عليه وسلم.

ولئن كانت نبوءة النشأة والتكوين رؤيا رمزية .. فقد كانت نبوءة العزل نصاً صريحاً حاسما واضحاً.

في ظلال أسماء السور ( 7)

يونس ... التوبة

هذه المقالة التدبرية، وإن جمع عنوانها بين سورتين كريمتين، فهي بالأساس تركز على سورة يونس عليه السلام، وأما بالنسبة لسورة التوبة فإن المقصد هو الوقوف على الحكمة من مجيء يونس بعد التوبة، أو لنقل محاولة استخلاص مقصود سورة يونس من خلال مجاورتها لسورة التوبة، كما تحاول هذه المقالة الإجابة عن بعض الأسئلة، من مثل: الحكمة من اختصاص يونس بسورة، وكذا حكمة مجيء سورة يونس في مقدمة السور التي سميت بأسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

لعل من أبرز حِكم مجيء سورة يونس عليه السلام بعد سورة التوبة، أن يونس عليه السلام وقومه يمثلون نموذجاً مهما من نماذج التوبة من حيث أن توبة يونس كانت بعد التقام الحوت إياه، وكان بعدها أن اجتباه ربه وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا، كما أن قومه قد تداركوا أنفسهم فأسلموا قبل وقوع العذاب فنجاهم الله، وهي أيضاً مثال جيد لقوم محمد في زمانه كي يقتدوا بهم ويسارعوا إلى الإيمان والتوبة والنجاة، وليست مثل قصة نوح أو هود حيث هلك قوماهما.

ولعل من حِكم الابتداء بسورة يونس قبل غيره من مثل إبراهيم ويوسف وهود، بل وقبل نوح ومحمد عليهم الصلاة والسلام، أن مثال يونس عليه السلام وقومه، هو أقرب الأمثلة لآدم عليه السلام وبنيه، فقد كان اجتباء آدم والتوبة عليه بعد الخطيئة، وكذلك كان يونس عليه السلام، ولئن كان أمثال يوسف وإبراهيم عليه السلام غاية في الإحسان والاستقامة والتقوى منذ الصغر حيث أوتي إبراهيم رشده من قبل، كما أن يوسف عليه السلام عندما بلغ أشده قد آتاه الله حكما وعلما لأنه كان من المحسنين، فإن القرآن قد سجل ليونس أنه فعل ما يستحق جزاء عليه أن يظل في بطن الحوت إلى يوم يبعثون لولا أنه كان من المسبحين.

وبالتالي فإن قصة يونس تؤنس العصاة الخطائين من بني آدم، و( كل بني آدم خطاء وخير الخطّائين التوابون)، وهم الغالبية العظمى منهم، فيما الذين نشأوا في عبادة الله هم الأقلون، ويستوي في مقارفة الخطايا والأخطاء، العامة والمصلحون من بني آدم، ولقد أضحى يونس بعد إباقه وخطيئته، مثلما أضحى آدم بعد الخطيئة، أفضل من حالهما قبلها إذ تاب الله عليهما واجتباهما، ولذلك فقد تحدثت عن قوم يونس الذين تداركوا أنفسهم فآمنوا قبل وقوع العذاب، وتحدثت سور أخرى عن يونس الذي تداركته نعمة من ربه فأخرجه أولاً من بطن الحوت ثم اجتباه وأكرمه بأن ألحقه بحَمَلة دينه وهدى على يديه أكثر من مائة ألف.

قصة يونس، وتوبة يونس وقومه، كي تستشرف نفوس القرشيين والعرب إلى التوبة والنجاة، بل وليكونوا حملة الدين إلى البشرية، وقصة يونس تؤنس وحشة العصاة الحائرين والذين لجّوا في الطغيان أنه لا يزال لديهم متسع من الوقت، وبصيص من الأمل أن يستدركوا فينجوا، ويلحقوا بركب الهداة والفاتحين.

ويكفي مثال سحرة فرعون، وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص، ومن قبلهما عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، ثم حال قريش وعرب الجزيرة ومن تبعهم، إذ نجاهم الله تعالى ثم أصبحوا أئمة الهدى وسادة الأمم.

في ظلال أسماء السور (8)

تسمَّوا بأسماء الأنبياء

من ضمن مائة وأربع عشرة سورة قرآنية، هناك ثماني سور كريمة تسمت بأسماء أشخاص، وهي على الترتيب:( يونس، وهود، ويوسف، وإبراهيم، ومريم، ولقمان، ومحمد، ونوح)، هذا فضلاً عن سورة آل عمران التي ركزت أكثر على امرأة عمران وابنتها مريم، ولم تحدثنا عن عمران نفسه.

والنظرة الأولى لهذه الثلة الكريمة من الأعلام ترينا أنهم جميعاً من حمَلة الدين، وجُلّهم من الأنبياء، عدا مريم التي هي في منزلة عالية حيث اصطفاها الله تعالى على نساء العالمين، ونفخ فيها من روحه، وأما لقمان فلم تصرح الآيات بنبوته، لكنه على خطى الأنبياء من حيث قيامه بتربية ابنه على التوحيد ومكارم الأخلاق، وندبه إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ذلك.

وإذا استعرنا – لتقريب الصورة فقط - مصطلحات أهل الفن والأدب والرياضة، فإن أبطال القرآن ونجومه، هم أهل الدين وحَمَلته والدعاة إليه، وبالتالي فإن المُثل العليا، والنماذج الكبيرة والقدوات العظيمة التي يُنصّبُها القرآن للمؤمنين، هم الرسل الكرام ومَن سار على دربهم، وبالتالي فإن أسمى وأثمن وأعلى قيمة هي قيمة الدين والدعوة إليه.

وومما يعزز هذا المعنى حضُّ الرسول عليه الصلاة والسلام المؤمنين أن يتسموا بأسماء الأنبياء، وهذا يتضمن من جهة بقاء ذكر أسماء الأنبياء في المجتمع وخلودها فيه، بالتزامن مع خلود ذكرها في القرآن الكريم، وكذلك ترسيخ تلك القيمة، قيمة دين التوحيد والدعوة إليه، وتعزيزها.

حيث يقول عليه السلام: ( تَسَمَّوْا بأسماءِ الأنبياءِ، وأحبُّ الأسماءِ إلى اللهِ عبدُ اللهِ، وعبدُ الرحمنِ، وأصدُقُها حارثٌ، وهَمَّامٌ، وأقبَحُها حَرْبٌ، ومُرَّةُ)، واللافت هنا أنه بعد الندب إلى التسمي بأسماء الأنبياء، حض على أحب الأسماء إلى الله، وأصدقها، وهاتان الصفتان حاضرتان بقوة في صفات الأنبياء عليهم السلام وشخصياتهم؛ فإن العبودية لله هي أخص خصائصهم وأبرز مناقبهم: ( سبحان الذي أسرى بعبده)، ( الحمد لله الذي أنزل على عبده)، ( واذكر عبدنا داود)، ( ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب)، ( واذكر عبدنا أيوب)، (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ)، ( ذكر رحمة ربك عبده زكريا)، وعيسى أيضا: ( قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا)...فمن أراد أن يتحقق فيه وفي نسله الصورة المثلى لعباد الله وعباد الرحمن فليس أفضل ولا أجمل ولا أكمل من رسل الله الكرام.

وإذا كان ( حارث وهمام) أصدق الأسماء، فإن هذه الصفة تتحقق في رسل الله عليهم السلام في أعلى درجاتها وأحسن صورها؛ فهم أعظم الناس همة وعزيمة، وحركة وحرثاً في الأرض ونشاطاً، وقد تمحضت هممهم وحركاتهم للخير وحده.

وللتمثيل نقتصر اختصاراً على نوح وإبراهيم ومحمد صلى الله وسلم عليهم، فنوح يدعو قومه ليلاً ونهارا، وإبراهيم الذي آتاه الله رشده مذ كان فتى، وله حجاجات عديدة مع أبيه وقومه، والذي آتاه الله الملك، ويتنقل آلاف الأميال بين العراق والشام ومصر والحجاز وغيرها، وكثير منها بعدما كان شيخا كبيراً، ولا تسل عن الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، فسيرته ودعوته وإنجازاته وغزواته تنبئك الكثير.

والأمر الثاني أن هذه الثلة الكريمة لا تقتصر على الرجال المؤهلين للرسالة، بل إنها تضم أيضا النساء، ما يعني إمكانية أن تنضم النساء لركب المصطَفَيْن، ليس على أبناء جنسهن فحسب، بل على العالمين من الرجال والنساء أيضاً، ويدل على ذلك أن مريم ابنة عمران قد ضُربت مثلاً للذين آمنوا بجنسيهم: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾ [ التحريم: 11، 12]، وأكدت سورة آل عمران أن هذه الأسرة الكريمة من ضمن الذين اصطفاهم الله تعالى على العالمين:﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾.

والملحوظة الأخرى أن القرآن الكريم قد نوّه بشأن الأنبياء أيضاً بأن جعل سورة تسمى ( الأنبياء ) تركز على الدور والوظيفة للرسل الكرام بعد أن نوهت سور أخرى بأسماء بعضهم، لا بل إن سورة اسمها ( المؤمنون)، بعد أن أوردت صفات المؤمنبن وشروطهم ذكرت عدداً من أعلام الرسل كأمثلة ونماذج لهؤلاء المؤمنين المفلحين، كيف لا والرسل عليهم السلام هم أول المؤمنين بما يحملونه ويدعون الناس إليه؟ ألم يقل ربنا عز وجل في حق محمد صلى الله عليه وسلم: ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله..)؟ فالأنبياء في الذروة من الإيمان وتحقيق مقتضياته، كما أن وصف الأنبياء بأنهم مؤمنون يعزز أنهم عباد لله وينفي ما قد يتسرب من أوهام تقرب المسافة بين الرب الخالق والرسل المخلوقين؛ وحينما يكون الرسل ( مؤمنين) فهذا يعني أنهم يصدقون خبراً عن الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، وقد يكرم بعض رسله ببعض منه لحكمة.

والملاحظة الأخرى أنه ليس في هذه الأعلام الذين سميت سور كريمة بأسمائهم، اسم لأحد من الملائكة أو الجن، بل كلهم من البشر إشارة إلى مركزية البشر وأهميتهم من حيث كونُهم مستخلفين في الأرض ولكون الرسل منهم، ومن الحكم كذلك، والله أعلم، ألا يحصل بسبب ذكرهم مزيد تضخيم أو تقديس وبالتالي إشراك، والله تعالى أعلم بضعف البشر ومداخل الشيطان إلى نفوسهم.

وليس في هذه الأعلام اسم لأحد من أعداء الدين أو أكابر المجرمين كذلك، لا من شياطين الإنس ولا شياطين الجن، فلا سورة باسم فرعون ولا قارون ولا هامان ولا إبليس، فهم أصغر وأحقر، وأمرهم أهون وأضعف من أن تُخصص سورة باسم أحدهم؛ ففي ذلك تعظيم لأمرهم وتهويل لخطرهم، وقد أكد القرآن أن إبليس كان من الصاغرين، وأن كيد الشيطان كان ضعيفاً، وأن الله تعالى خسف بقارون وبداره الأرض، وأغرق فرعون وجنوده فنبذهم في اليم، وأهمية هذه الملاحظة أنه ربما كان تسرُّبُ عبادة الشيطان، أو ادعاء إله للظلمة مقابل من يدعونه إله النور قد بدأ من توهم عظمة الشر وأهله، كما لو كانوا أنداداً لله تعالى.

ولعل الله تعالى يوفق في قابل الأيام لذكر المزيد فيما يتعلق بأسماء الرسل، علماً بأن الحلقة السابقة كانت عن نبي الله يونس عليه السلام.

وسوم: العدد 851