الهداية...والضلال

أ.د. أحمد حسن فرحات

يعتذر كثير من الناس عن عدم التزامهم بالإسلام وقيمه وتعاليمه ، بأن الله لم يهدهم وأنه لو هداهم كما هدى غيرهم لكانوا قائمين بواجبات الدين وتكاليفه ، وربما استشهدو ا على ذلك بقول تعالى:

" يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء  " – النحل : 93-

وبذلك يلقون باللائمة على ماهم فيه من بعد عن الإسلام ، على الله سبحانه وتعالى ، ويظنون بذلك أنهم أقاموا الحجة على الآخرين ، وأراحوا أنفسهم من تبعة الشعور

بالذ نب الذي يمكن أن يؤرق حياتهم ويجعلها جحيما لا تطاق.

ولا شك بأن مثل هذا السلوك إن دل على شيء ، فإنما يدل على سطحية في التفكير ، ورغبة في التفلت من مسؤولية الالتزام ، وما يمكن أن يترتب عليه من قيام بأعباء التكاليف ، وبعد الاستجابة للرغبات والأهواء.

وباديء ذي بدء نقول لهؤلاء : إن مقولتكم هذه ليست شيئا جديدا أبدعته عقولكم ، او أدت إليه معرفتكم وعلومكم ، حتى تفرحوا به وتفتخروا !! فلقد سبقكم إلى ذلك مشركو مكة الذين كانوا يعبدون المللائكة ، كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله :

"وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ"    - الزخرف 19- 20

كذلك بين في آية اخرى أن مثل هذه المقولة سيحتج بها الناس في المستقبل كما احتج بها السابقون ، قال الله تعالى :

"سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ  " الأنعام 148 .

ويلاحظ أن كلتا الآيتين تشيران إلى أن مثل هذا القول لا يستند إلى علم ولا تقوم به حجة ، ومن ثم فالقائلون بالخرص والتخمين ، والمتبعون له متبعون للظنون والأوهام :"ما لهم به من علم إن هم إلا يخرصون "

" هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وأن أنتم إلا تخرصون "

أما العلم الذي تقوم به الحجة وينقطع به العذر ، فهو ما أخبرنا الله سبحانه في كتابه من أنه فطر الناس جميعا على الإسلام والتوحيد حيث قال سبحانه وتعالى :

". فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ."- الروم: 30 -

فبينت هذه الآية القرآنية أن جميع البشر فطروا على توحيد الله ودين الحق ، فلم يميز الله ابتداء بين أناس وأناس ، بل إن الهداية الفطرية شملت الكون كله بكل ما فيه كما تشير إلى ذلك آيات أخر في القرآن الكريم :

"قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى." طه : 50  ،

"الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ . وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ." الرحمن 5-6

إلا أن الفارق بين الإنسان وبين مخلوقات الكون الأخر، هو ما خص الله به الإنسان من العقل والتمييز والقدرة على الاختيار بحيث يتقلد عهده التكليف ، ويكون أهلا لتحمل المسؤولية ، والتعرض لخطر الثواب والعقاب :

"إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا   وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ  "- الأحزاب : 7-

وهذه الهدابة الفطرية للإنسان ، كما تشمل معرفة فطرية بالخالق الواحد ، كذلك تشمل معرفة جبلية مجملة بالخير والشر، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:   "وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ."- البلد : 10 –

"وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا  " الشمس : 7-8

"إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا   "- الإنسان :3- .

وهكذا نرى من خلال هذه النصوص العدالة الإلهية تتجلى واضحة للعيان ، إذ تجعل الهداية الفطرية عامة للناس جميعا من غير تفريق ولا تمييز ، بل إنها تجعله أمرا   مشتركا بين مخلوقات الله جميعا ، ولما كانت هذه الهداية من عمل الله ، ولا يد للمخلوق فيها ، لم يرتب الله تعالى عليها مسؤولية ولا حسابا.

غير أن هذه الهداية الفطرية ليست هي كل ما أعطاه الله للإنسان ، بل أعطاه بالإضافة إلى ذلك ما يؤكد به هذه الهداية ، فوهبه العقل والحواس ، وجعله قادرا على التفكير والاستنباط ، وتحصيل العلم والمعرفة :

"وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ."- النحل :78-

ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، بل لقد تولى الله هذا الإنسان بلطفه ورعايته ، فلم يتركه إلى عقله وحواسه، وبخاصة أن هناك أمورا كبيرة تستعصي على العقل والحواس ، وم نثم فقد أرسل إليه رسله ، وأنزل عليه كتبه ، وبين له الخير والشر ، والحق والباطل ، ورتب على ذلك كله في دائرة كسبه واختياره ، وطوع إرادته وحريته ، ورتب على ذلك كله مسؤولية الثواب والعقاب قال تعالى في شأن الرسل : "رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ   " النساء: 165

وقال :

"وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ." الإسراء : 15

وقال في شأن المهملين لما أعطاهم الله من وسائل المعرفة المؤدية إلى الهداية حكاية لقولهم يوم القيامة :

".وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ. فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ   " الملك 10-11

وإذا كان الله سبحانه قد أعطى الهداية الفطرية للناس جميعا لا يشذ عنها أحد ، فقد جعل الهداية الشرعية مقصورة على بعض الناس دون بعض كما تشير إلى ذلك الايات القرآنية :

". يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء   ."- النحل : 93 –

ومن ثم يثور التساؤل على العدالة الإلهية في مثل هذه الهداية والضلال .

ونقول في الإجابة عن هذا التساؤل :

إن الله سوى بين المخلوقات البشرية بما منحهم من هداية فطرية ، وبما منحهم من الحد الأدنى من المواهب العقلية المؤدية لهذه الهداية ، وبما أنزل عليهم من الكتب والرسالات .

وهذا الحد الأدنى المشترك بين البشر كاف في تحصيل ذلك خاصا بأصحاب الحد الأعلى من المواهب ، ومن ثم نرى مؤمنين مهتدين من أصحاب الحد الأعلى ومن أصحاب الحد الأدنى ، ذلك أن المر هنا ليس مرتبطا بدرجة العقل والذكاء ، وإنما هو مرتبط بالاستجابة لنداء العقل أو عدم الاستجابة لهذا النداء.

كذلك تتم هذه الهداية الشرعية من الله كما يتم الضلال ، وفقا لموقف الإنسان من الهداية الفطرية التي جبل عليها ، فالذي يستجيب لنداء الفطرة بما يوافقه ويؤكده من العقل والشرع هو الذي يهديه الله ، والذي لا يستجيب لنداء الفطرة ويخرج عليه بمخالفته للعقل والشرع هو الذي يضله الله ، وذلك موافق للسنة الإلهية ". إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ." الرعد : 11 – وبناء على ذلك تكون الهداية الشرعية من الله ثوابا معجلا في الدنيا للذين أكدوا الهداية الفطرية باستجابتهم لنداء العقل والشرع ، كما يكون الضلال عقوبة عاجلة في الدنيا ، لمن أداروا ظهورهم لنداء الفطرة وخرجوا على مقتضياته بعدم استجابتهم لمنطق العقل والشرع :

". إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ،. خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ."- البقرة : 6-7-

فالختم على القلوب والأسماع ، والغشاوة على الأبصار، هي العقوبة المعجلة في الدنيا على الكفر ، والعذاب العظيم هو هو العقوبة المؤجلة إلى يوم القيامة .

فالختم إذن لم يكن سببا للكفر وإنما هو نتيجة له ، وكما أكد ذلك بقوله في آية أخرى " بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ."- النساء : 155 –

أي كان الطبع على القلوب بسبب الكفر .

وهذا الذي انتهينا إليه يوضح المراد بقوله :

" يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء.."- النحل : 13 –

فالذي يشاء الله ضلاله : هو ذلك الإنسان الخارج على هدايته الفطرية المبتعد عنها بعدم تأكيدها بمنطق العقل والشرع ، وإنما يحاول إخفاءها وطمسها بالاستجابة إلى أهوائه وشهواته ومعاصيه ، والتي يغلبها على منطق عقله وأوامر شرعه.

والذي يشاء الله هدايته هو الذي يؤكد تلك الهداية الفطرية ، باستجابته لمتطلبات العقل ويقترب من الله بتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه.

وقد أشار الله تعالى إلى هذا المهتدى بقوله ". قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ." الشمس : 9 "كما أشار إلى ذلك الضال بقوله :

" وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ." الشمس : 10

ومما يؤكد صحة هذا التفسير للآية ما جاء في كثير من الآيات القرآنية التي تتحدث عن الهدى والضلال :

ففي مجال الهدى المترتب على فعل الخير جاءت هذه الآيات :

"   وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا        " العنكبوت – 69

"  يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ            " المائدة – 16

"   اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ         " الشورى – 13

"  إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ         " يونس – 9

" وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ           " محمد – 17

"  وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ            " النور – 54

" قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ               " الرعد – 27

وفي مجال الضلال المترتب على فعل الشر من الكفر والفسوق والظلم والشرك جاءت آيات كثيرة نجترئ منها بهذه الآيات :

"  فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ              " البقرة – 26

" وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ               " البقرة – 264

" وَاتَّقُوا اللّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ              " المائدة – 108

"  إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ             " الزمر – 3

"  إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ              " غافر – 28

"  فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ                " الصف –

ومن كل ما تقدم نرى أن الهداية والضلال يتمان بفعل الله ومشيئته ، ولكن جزاء وفاقا لعمل الإنسان ، وموقفه من منح ربه وعطاياه ، ومن ثم فعلى الإنسان أن يتحمل مسؤولية عمله واختياره ، وألا يلقي باللائمة على غيره :

"  قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ            " يونس – 108 .

وسوم: العدد 851