وقفة مع اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة

في مثل هذا اليوم من كل سنة يرفع شعار مناهضة العنف ضد المرأة ، وتخصص وسائل الإعلام رقمية ،ومرئية، ومقروءة ،ومسموعة حيزا لهذا الموضوع الذي يقدم أو يمرر عبر ووفق قناعات مختلفة تستغله لصالحها إما لتلميع صورتها إشهاريا أو لتصفية حسابات مع غيرها  أوغير ذلك مما يسهل التعرف عليه من خلال طريقة عرض الموضوع إعلاميا ، وصدق الشاعر إذ يقول :

وما أكثر التباكي في اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة ، وما أقل البكاء .

ويقتضي الوقوف عند موضوع تعنيف المرأة أولا تعريف العنف في اللسان العربي ، ذلك أن فعل " عنف  يعنف" ـ بضم النون ـ  عنفا وعنافة  هو التعامل بشدة ودون رفق ، ويكون ذلك ماديا أومعنويا أوهما معا ، وغالبا ما يجتمعان، ويكون المعنوي سببا في حصول المادي .

و سوء معاملة المرأة أو تعنيفها بنوع من أنواع العنف أو بهما معا ،يختلف  باختلاف  معتقدات وثقافات وعادات المجتمعات البشرية . وقد يعد التعامل مع المرأة في مجتمع ما عنفا ضدها، بينما  لا يعد كذلك في مجتمع آخر ، لهذا لا يمكن أن يسقط سوء تعامل مع المرأة في بيئة على بيئة أخرى حين يخصص يوم معين للحديث عن العنف ضد النساء في  كل المعمور .

فبالأمس عرضت القناة الأولى عندنا ضمن نشرة الأخبار المسائية نشاطا لإحدى الجمعيات التي انتدب نفسها للدفاع عن النساء في وضعيات صعبة كما تسميهن، ولوحظ أن نماذج النساء اللواتي عرضن ينتمين حسب مظهرهن لفئة اجتماعية هشة ، وبدا حال  اللواتي ينشطن في تلك الجمعية  غير حال  ضحايا العنف ، فهل يعني هذا أن النساء من الفئة الاجتماعية الهشة وحدهن ضحايا العنف ؟ ولماذا لم تعرض نماذج من فئات اجتماعية أحسن حالا ؟  قد يكون الوضع الاجتماعي سببا من أسباب تعنيف المرأة لسيطرة الجهل أوالفقر أو هما معا  فيه ، ولكن هذا لا يعني أن وضعا غيره لا يكون فيه تعنيف المرأة ، ذلك أنه قد تعنف المرأة بنوع من التعنيف المادي أو المعنوي وهي في وسط مثقف وموسر .

وقدمت القناة الأولى نموذجين للنساء المعنفات، إحداهن اختارت أن تكشف عن هويتها بينما الثانية أبت ذلك حفاظا على كرامتها وسمعتها ، وكان من المفروض أن تصان كرامة وسمعة الأولى أيضا . والسؤال المطروح  لو كانت المرأة المعنفة من طبقة غير الطبقة الهشة أكانت تقبل الكشف عن هويتها ؟ أو لو كانت إحدى الناشطات في تلك الجمعية معنفة أكانت تجرؤ على ذلك ؟

ومباشرة بعد عرض نموذج المرأتين المغربيتين المعنفتين، عرضت القناة الأولى مظاهرات نسائية  في دول أوروبية ، وكانت المتظاهرات حسب مظاهرهن من غير الفئات الهشة ،الشيء الذي يعني أن العنف ضد المرأة يختلف من مجتمع إلى آخر ، ومن بيئة إلى أخرى ، ويختلف فيها طرحه ، ذلك أن ما قد تعتبره المرأة الأوروبية عنفا قد لا تراه المرأة المغربية كذلك والعكس يصح أيضا ، ومع ذلك يخلط البعض بين الأمرين دون مراعاة الفوارق بين البيئتين الأوروبية والمغربية.

 فعلى سبيل المثال لا الحصر حين تدافع فرنسا عن مبادئها العلمانية بمنع النساء المسلمات من ارتداء لباسهن الشرعي، وهي تعلم أنه يدخل ضمن واجباتهن الدينية  الملزمة ،وتضيق عليهن في الدراسة والشغل بسببه ، وتمنعهن من ارتداء لباس الاستحمام البوركيني ،هل يعتبر ذلك عنفا أم لا ؟ فهو في نظر المسلمات أسوأ عنف ،لأنه يمسهن في هويتهن الدينية  وفي كرامتهن الإنسانية ،بينما تعتبره فرنسا صيانة لعلمانيتها  وحقا من حقوقها ؟ فهذا المثال يكفي للبرهنة على أن مفهوم العنف يختلف من بيئة إلى أخرى ومن ثقافة إلى أخرى . ومعلوم أن المرأة العلمانية عندنا لا تعنف بسبب لباسها سواء  ما تلبسه  وهي في الشواطىء  والمسابح أو ما تلبسه  في غيرها من الأماكن .

ويلف موضوع العنف ضد المرأة عندنا  كثير من الغموض أو اللبس ، ذلك أن البعض يحصر هذا الموضوع في العلاقة الزوجية مع أنها واجهة  فقط من واجهات العنف ضد المرأة . ومعلوم أن العلاقة الزوجية بطبيعتها يحكمها حسن وسوء المعاملة، لأنه لا يمكن أن تكون طريق هذه العلاقة مفروشة دائما بالورود بل لا بد من حصول خلاف بين الزوجين مرده اختلاف التربية والأمزجة والطباع والمستوى الثقافي ... وغير ذلك مما يميز بين شخصيتهما . ولا يمكن أن يحصل الخلاف دون شعور أحد الطرفين أنه قد مست كرامته أو أسيئت معاملته من الطرف الآخر ، فهل يعتبر ذلك عنفا ؟ فإذا ما اعتبر عنفا فلا يخلو حينئذ بيت زوجية منه.

ومن أغرب ما يتحدث عنه البعض ما يسمونه عنفا جنسيا أو اغتصابا في إطار العلاقة الزوجية ، ولا ندري كيف يقوّم أو يحكم هؤلاء على علاقة خاصة بين زوجين تكون مرة طبيعية ومرة أخرى تكون عنفا ؟ فهل دعوة الزوج زوجته إلى فراشه دون رغبة منها يكون عنفا ؟ وهل رفضه دعوتها له إلى الفراش يكون عنفا أيضا؟ وهل عدم الانسجام  بينهما في الفراش يكون عنفا ؟  وهل الهجر بينهما يكون عنفا ؟ وهل الشك بينهما يكون عنفا ؟  وهل شيء من كل هذا يكون عنفا ضد الزوجة دون أن يكون كذلك بالنسبة للزوج ؟  وهل يعتبر العنف الجنسي أو الاغتصاب من جهة أحدهما دون الآخر ؟ ألا يعتبر الزوج  أيضا مغتصبا ـ بفتح الصادـ في بعض الحالات ؟

وإذا خرجنا من دائرة العنف في إطار العلاقة الزوجية ، وهو العنف الوحيد الذي يركز عليه من يناهضون العنف في مجتمعنا ، نجد أنواعا أخرى من العنف لا تثار ولا تذكر من ذلك العنف اللفظي المعروف بالتحرش وهو ما لا تسلم منه أنثى خصوصا اللواتي يكن في سن الشباب ، وأقل عنف هو أن تتسلط العيون على أجسادهن، ويكون ذلك بنية التمتع بها وبأدلة لا تخفى على المستهدفات بها، وأكثر من ذلك عبارات التحرش التي تختلف حدتها من شخص إلى آخر ، وتكون ردود أفعال الإناث عليها مختلفة حيث ترد بعضهن بسخط واستياء عليها ، بينما لا تبالي بها بعضهن، لأنهن ألفن سماعها ،بينما يبدو بشكل غريب من بعضهن ما يوحي باستحسانهن للتحرش خصوصا إذا خلا من حدة أوإساءة ، وربما اعتبرنه ثناء وإعجابا وغرهن كما قال الشاعر :

فرب أنثى تشعر بمرارة شديدة وهي تسمع عبارات الإعجاب بها ،وتعتبر ذلك تحرشا مسيئا إلى كرامتها ، بينما  تقبل ذلك أخرى، وربما استزادت منه بإظهار استحسانها له  ورضاها عنه برد فعل يكشف عن ذلك . وأذكر يوما وأنا أمر بشاب  يتحرش بفتاة عن طريق التغني بجمالها، فكانت ردة فعلها علي كلامه عبارة : " قل والله " أي أقسم على أنك صادق في الوصف ، فهل يعتبر ما صدر عن الفتى عنفا ؟ وإذا كان كذلك، فهل يبرره رد فعل الفتاة ؟ علما بأن غيرها ربما تصرفت غير تصرفها إما بتجاهلها ما صدر عن الفتى مع غبن تخفيه في نفسها أوربما عبرت عن غضبها بشكل أو بآخر مع شعور بالإهانة  أيضا .

ولا يلتفت إلى أشكال أخرى من التحريض على العنف ضد المرأة ، فالذين ينادون بما يسمونه العلاقة الجنسية الرضائية في الحقيقة  يحرضون على العنف ضد المرأة وهم يظنون عكس ذلك ،لأن المرأة من تكريمها أن تصان كرامتها ولا تبتذل تحت أية ذريعة أو أي مبرر من قبيل حرية الجنس ، أو ملكية الجسد . وكرامة المرأة إنما تحصل بحقها على بيت زوجية ، وعلى زوج، وليس على خدن يتمنع بها دون وجه حق ، ويزين لها ذلك بكلمة رضائية . فالعلاقة الجنسية الرضائية الحقيقية هي علاقة في إطار الزواج  مشهودة ومعلن عنها  يشهد عليها شهود عدول وأولياء أمور ، وتباركها الأسر والمعارف ، ولا تكون علاقة بشكل مريب . وموقف الإسلام واضح من العلاقتين وبنص صريح إذ يقول الله تعالى في محكم التنزيل : ((  محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان )) والخدن هو قرين السر الذي يرتبط بأنثى لشهوة جنسية .  وليس النكاح الذي يكون به الإحصان كالسفاح الذي يكون به الفجور والتهتك . وأيما امرأة مصونة الكرامة لا يمكن أن ترضى لنفسها بعلاقة جنسية خارج إطار الزواج ، وحتما تعتبر ذلك حطا من كرامتها  وعنفا ضدها .

ومن المفارقات الصارخة أن ترتفع دعوات مطالبة  برفع التجريم عما يسمى علاقة جنسية رضائية  ، وفي نفس الوقت يحاكم الصحفي عندنا بتهمة استغلال عاملات معه والاتجار بهن مع أن احتمال رضاهن بما فعل بهن إن صح  وارد بنفس درجة ورود استغلالهن، لأنهن لو رفضن ذلك خلال مساومتهن في أعراضهن  وإن كان الثمن هو فقدان وظيفتهن، لكان أفضل لهن من الاستسلام للمستغل الذي لن يرد لهن سجنه  ولا  ما فرض عليه من غرامة ما ضاع من كرامتهن .

ومن يضمن ألا تكون أشكالا مما يسمى علاقة  رضائية ليست كذلك في الواقع  بحيث تضطر بعض النساء إليها لأسباب قاهرة لا تختلف عن خوف العاملات مع الصحفي من فقدان الوظيفة أو لقمة العيش ؟ ويكون الأمر حينئذ عبارة عن استغلال أوعنف جنسي  مموه عنه بشعار الرضائية .

ولكل ما سبق لا بد من التثبت من قضية العنف حين تثار في مثل هذا اليوم ، وأن يتم التعامل معها في إطار قناعات وثقافات المجتمعات  المختلفة وإلا اختلط حابل فهوم العنف بنابله ودارعه بحاسره كما يقال  ، وكسيت مجتمعات بكساء غيرها الذي لم يقد على قدها ومقاسها.   

وسوم: العدد 852