«ملاك» الحضيض

ليست الأغنية الجماعية «ملاك السلام»، التي أنتجتها الفضائية الفلسطينية مجرد خطأ عابر، أو حفلة تمسيح جوخ لرئيس السلطة الفلسطينية، أو محاولة مقصودة أو غير مقصودة للإساءة إلى فلسطين وشرشحتها.

إنها أكثر من ذلك.

«ملاك السلام» هي الحضيض، وإعلان الإفلاس، وتمجيد الخنوع، وإهانة الثقافة، وتحويل الفن إلى عهر سياسي.

ماذا يعني أن يكون زعيم «فتح» ملاكاً للسلام في ظلّ الاحتلال؟ وَلَوْ! هل وصلت بكم الأمور إلى محو تاريخ «فتح» بعدما أفرغتم حاضرها من المعنى؟

كيف ندمج طهارة الملاك بفساد السلطة؟ وكيف نتغنى بالسلام في زمن الاستيطان والضم ّوحملات الاعتقال والتعذيب الوحشي التي يتعرض لها الأسرى؟

من أين أتوا بشعرور (شعرور لغةً هي تصغير الشويعر عبر صيغة فعلول، فلقد ميّز العرب بين الشاعر والشويعر والشعرور) كي يكتب هذه الكلمات الفارغة من المعنى، وبهذه الأوركسترا الضخمة والمنشدات والمنشدين الذين وقفوا كالأصنام في ظل صورة محمود عباس وغنوا في مدح الهزيمة والاستسلام والانصياع والخضوع؟

من أين أتوا بالمال لتمويل هذا الإنتاج الضخم في الوقت الذي يقطعون فيه المال عن الأسرى؟

من أين أتوا بشجاعة الجبناء، الذين يتفرجون على الجيش الإسرائيلي وهو يقتحم المدن الفلسطينية ويعتقل من يشاء، ويقتل كما يشاء، بينما يمارسون طقوس عبادة الزعيم؟

هل يعتقدون فعلاً أن رجال السلطة وتلامذة دايتون ملائكة؟

وأين السلام يا ملاك السلام؟ هل يكمن السلام في بناء مستوطنة يهودية في قلب الخليل، أم يكمن في ضم الغور، بعد ضم القدس والمستوطنات؟

يستطيع المتفرج أن يعتقد أن هذه الأغنية هي حفلة سخرية من السلطة الفلسطينية، أي أنها شكل من أشكال الكوميديا، عندها وعندها فقط يستطيع المتفرج أن يمتلك أعصابه ويتابع مشاهدة العرض إلى النهاية.

لكن حتى الكوميديا فشلت، فالمتفرج لا يضحك، يشعر في البداية بالغضب ثم يتحول الغضب إلى احتقار للذات واشمئزاز.

كلمة اشمئزاز ملائمة وتصاقب هذه اللحظة المروعة، لكنها ليست كافية.

كيف وصلنا إلى هنا؟

نتفرج على حقول الثورة والموت في بغداد والناصرية والنجف، ونرى عصابات «العصائب» و«حشد» قاسم سليماني يقتلون الناس في الشوارع، ونحن نرى أفقاً يفتحه العراقيات والعراقيون في جدار الاستبداد والفساد.

ننظر إلى انتفاضة لبنان ونشعر بأن هناك شعباً قرر أن يثور على عصابة أصحاب المصارف، وعلى سلطة مافيا النصب والاحتيال التي أذلته وأفقرته.

وحين ننظر إلى فلسطين يصيبنا مزيج من الأسى والذهول وعدم القدرة على التصديق.

ماذ فعلوا بكم وبنا؟

كنا نأمل أن يستتر الخانع. وكنا على استعداد لتفسير الخنوع بالعجز، نستمع إلى تبريراتهم ونشفق عليهم.

لكننا كنا على خطأ.

هذا ليس عجزاً إنه استسلام، لا، هذا ليس استسلاماً، بل هو متعة السلطة التي لا سلطة لها.

كيف يكون اسم المنظمة مكرساً للتحرير، ولا تحرير، بل خضوع واستعراض كلامي وبحث عن «ملاك» لا وجود له؟

كيف يكون ما نراه أمام أعيننا، وتبقى كلامولوجيا الحركة الوطنية الفلسطينية كما كانت عليه.

يتحدثون عن أزمة المشروع الوطني، والحقيقة أنه لا أزمة، كلمة أزمة مخادعة، علينا أن نتحدث عن انهيار هذا المشروع بأيدي من يتكلم باسمه.

كفى ضحكاً على الناس.

فلسطين ليست في مرحلة الأسرلة والضم فقط، بل هي أيضاً وأولاً في مرحلة «التلحيد». و«التلحيد» كلمة مشتقة من العميل اللبناني أنطوان لحد، الذي كان أداة طيعة في يد الاحتلال.

ملائكة «التلحيد» يغنون لملاك الهزيمة.

هذه هي الحقيقة التي علينا أن نراها.

بعد حملة الاعتقالات الشرسة في الضفة الغربية، التي تهدف إلى قتل آخر نبض مقاوم، كنا ننتظر أن يستفيق ما يُطلق عليه اسم كرامة في جسد السلطة أو في أجساد الفصائل.

لكنهم نائمون.

أو بعبارة أدق مستمتعون بسلطانهم الناقص وبالمال الذي يوزع عليهم.

يتركون المناضلين ليموتوا في السجون الإسرائيلية بسرطان الاحتلال، بينما نرى وجوه مطربيهم تنضح بالعافية، وحيواتهم مستقرة في ظلّ التنسيق الأمني مع من ينهب أرضهم ويذل شعبهم.

والمسألة ليست محصورة بالضفة الغربية، غزة أيضاً صارت إمارة تقوم على أشلاء الضحايا، وهمّ قادتها هو استمرار تدفق فتات المال النفطي بواسطة المعبر الإسرائيلي.

هل هذه فلسطين؟

لا يحق لأحد، كائناً من كان، أن «يهركل» الاسم الفلسطيني كما يفعلون اليوم.

«كلن يعني كلُن»، كما تقول شوارع المدن اللبنانية وساحاتها.

كلُهم يدخلون في لعبة «الهيلا هو»، التي تحولت من أهزوجة في المظاهرات، إلى رمز يلخّص مرحلة الثورة على الاستبداد والفساد.

ويبدو أن فلسطين بعد «ملاك السلام» صارت ناضجة للدخول في «الهيلا هو».

وسوم: العدد 854